خاليد القاسمي - مفهوم التفكيك عند جاك دريدا

لا شك أن مقولة التفكيك تنطوي على الكثير من اللبس والغموض، وهو ما يفسر توارد إشكالاتها وما يتمخض عنها من استراتيجيات تحليلية، بشكل كبير، في مؤلفات دريدا، وقد ناقش دريدا مقولة (التفكيك) ضمن أهم كتابين من كتبه، وهما:De la Grammatologie أو (في علم الكتابة)، وهو كتابه العمدة، والكتاب الآخر هو (الكتابة والاختلاف) L’écriture et la Différence. لكنه عرض بالتفصيل لما يعنيه بهذا المفهوم في رسالة نادرة بعث بها إلى صديقه الياباني البروفيسور –izutsu- الواردة ضمن مؤلفه (الكتابة والاختلاف)، الذي ترجمه الكاتب العراقي (كاظم جهاد).
وعن ملابسات اختيار دريدا لمفردة Déconstruction (التفكيك) لتمثل عنوان مشروعه، وما يقتضيه ذلك من صعوبات تتعلق بالوفاء للحمولة الدلالية للتفكيك(ية)، يقول دريدا:" كنت، بين أشياء أخرى، راغبا بأن أترجم وأكيف لمقالي الخاص المفردة الهايدغرية Destruktion أو Abbou . كانت الإثنتان تدلان في هذا السياق على عملية تمارس على (البنية) أو (المعمار) التقليدي للمفهومات المؤسسة للأنطولوجيا أو الميتافيزيقا الغربية. غير أن déstruction إنما تدل في الفرنسية، وعلى نحو بالغ الوضوح، على الهدم بما هو تصفية واختزال سلبي ربما كان أقرب إلى الdémolition (الهدم) لدى نيتشه، مما إلى التفسير الهايدغري ونمط القراءة الذي كنت أقترحه. فاستبعدتُها. وأتذكر أنني رحت أبحث لمعرفة ما إذا كانت هذه المفردةdéconstruction (التفكيك)،(التي خطرت علي بصورة هي ظاهريا شديدة العفوية) أقول لمعرفة ما إذا كانت فرنسية حقا. فعثرت عليها في قاموس (ليتريه) lettré وكانت مؤدياتها النحوية واللغوية والبلاغية مربوطة فيه بأداء (مكائني). وبدا لي هذا الالتقاء مفرحا، وشديد التلاؤم مع ما كنت أريد على الأقل أن ألمح إليه.." . يتضح إذن، أن دريدا رفض كلمة destruction التي تشير إلى الهدم سواء في صورته الهايدغرية أو النيتشوية. وهو ما حدا بدريدا إلى إقرار كلمة déconstruction، لتلاؤمها النحوي واللغوي والبلاغي مع المؤديات الدلالية للتفكيك. ومن المعاني التي تؤديها هذه المفردة ضمن معجم (ليتريه)، يستعرض دريدا على صديقه الياباني: تشويش بناء كلمات/ تفكيك أجزاء كل موحد/ تفكيك قطع ماكنة لنقلها إلى مكان آخر/ تفكيك الأبيات وإحالتها شبيهة بالنثر عن طريق إلغاء الوزن ..إلخ .
ويقر دريدا ضمن نفس الرسالة، بعدم الكفاية الدلالية للكلمة déconstruction نظرا لاقترانها بالظاهر السلبي المتمثل في البادئة deالدالة على الهدم، رغم الفعل البنائي الذي يتوخاه دريدا من هذه الاستراتيجية التفكيكية. يقول دريدا:" بدلا من الهدم، كان يجب أيضا فهم كيف قيض ل(مجموع) ما أن يتشكل أو ينبني، أي، من أجل ذلك، إعادة بنائه. ومع هذا، فإن الظاهر السلبي كان وما يزال عصيا على المحو، سيما وأنه يظل مقرونا في نحو الكلمة نفسه، عبر البادئة (de) هذا مع أن بمقدوره أن يدل على صعود نسَبي ( صعود في شجرة أنساب الكلمة) أكثر مما يدل على فعل تهديم. لذا فإن هذه المفردة، لوحدها على الأقل، لم تبد لي كافية أبدا" .
إن عجز كلمة التفكيك عن أداء وظائفها الدلالية يرجع إلى طبيعتها المتغيرة التي لا تستقر على حال ثابت، خصوصا وأن دريدا نفسه يرفض مفهمتها على هيأة نقدية ثابتة. من هذا المنطلق يرى دريدا أنه من السذاجة الاعتقاد بوجود معنى ثابت وواضح لمفردة التفكيك في اللغة الفرنسية. بل حتى ترجمتها إلى لغات أخرى لا يعد حدثا ثانويا، فهو مجازفة وإعطاء فرصة لإبدالها بمفردة أخرى وتطبيقها في مواضع أخرى ، وهذا ما يحفظ طبيعتها الاختلافية التي تعتبر شرطا لازما لاشتغالها أو بالأحرى وجودها.
وعلى الرغم من اللبس، أو بالأحرى، التضليل اللغوي لمصطلح déconstruction، يمكن القول إنه " ثر في دلالاته الفكرية، فهو في المستوى الأول، يدل على التهديم والتخريب والتشريح، وهي دلالات تقترن عادة بالأشياء المادية المرئية، لكنه في مستواه الدلالي العميق، يدل على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها، والاستغراق فيها وصولا إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها" . لكن على الرغم من العمق الاستقصائي للتفكيك في تجاويف النصوص، فهو لا ينتج معنى حاسما، ولا يثبت قراءة واضحة المعالم للنصوص.
إن لغة التفكيك مفتونة بالتمنع الدلالي، وهي هلامية ومتنكرة ولعوب، وهو ما يشير إليه دريدا في كتابه (أحادية الآخر اللغوية) بقوله إن التفكيك لا شيء بما أنه يحيل إلى لا شيء، وكل شيء بما أنه يحيل إلى لا شيء أيضا، إنه أكثر من لغة . وعلى الرغم مما سبق ذكره، فإن دريدا يصر على نفي صفة السلبية عن التفكيك(ية) : إن التفكيك هو حركة بنائية وضد البنائية في الآن نفسه، فنحن نفكك بناء أو حادثا مصطنعا لنبرز بنيانه(..) البنية التي لا تفسر شيئا، فهي ليست مركزا ولا مبدأ ولا قوة أو مبدأ الأحداث، بالمعنى الكامل، فالتفكيك من حيث الماهية، طريقة (حصر البسيط) أو تحليله، إنه يذهب إلى أبعد من القرار النقدي، من الفكر النقدي، لهذا فهو ليس سلبيا مع أنه فسر كذلك على الرغم من كل الاحتياطات.."
لا شك إذن، أن التفكيك يختلف عن المناهج النقدية التقليدية، التي تحوز أجهزة مفاهيمية متعالية، وتقدم براهين تحليلية متماسكة لوصف الخطاب، فهو " يبذر الشك في مثل هذه البراهين، ويقوض أركانها، ويرسي على النقيض من ذلك دعائم الشك في كل شيء، فليس ثمة يقين (..) فهو رحلة شاقة، بل مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولا يتوفر لها أدنى عامل من عوامل الأمان، في أودية الدلالة وشعابها، دون معرفة، دون دليل، ودون ضوابط واضحة" .
إن استراتيجيته التفكيك في مجاوزة الميتافيزيقا، تنطوي على قدر كبير من اللعب والمناورة، فنحن لا نخرج فعلا من نسق التعارضات الميتافيزيقية إلا بالدهاء والاستراتيجية، بالميلان والانحراف أو (الالتواء) بلغة دريدا. فهو يرى، كي لا ينقلب الخارج إلى الداخل، يجب أن نعترف بأن الالتواء ضرورة لكل مسيرة، فنكون في الوقت نفسه في داخل السياج وخارجه،في المنزلة بين المنزلتين .
في ضوء ما سبق، يصير الالتواء فاعلية تحقق المرونة المنشودة في القراءة، تلك المرونة التي تمتح من الاختلاف والتأجيل ولعبة الآثار وتذري المعاني، مما يتيح قراءة النصوص في ضوء راهنية الواقع وحركته ونسبيته. نتلمس هذا التوجه من قول دريدا : "..وليس الهدف من التفكيك كما قد يُظن هو الكيد للنصوص الكبرى والسخرية منها وبيان تهافتها، بل إبراز ما فيها من ثراء من خلال إتمام عملية وضع يد القارئ عليها ومساءلتها في ضوء مشكلات عصره.."
لقد هيأت التفكيك(ية) من هذا المنطلق، الأرضية اللازمة لمقارعة النصوص، وتفكيك بناها الارتكازية العميقة، دون أن يعني ذلك ذما للمؤلف. فالقصدية بوصفها مرجعية ثابتة للمعنى، تندرج على غرار الأنساق النهائية الأخرى ضمن عمل التفكيك(ية)، وهو ما يوجب حسب دريدا، ضرورة الفصل بين تفكيك هذه القصدية وبين التقدير اللازم لصاحبها، "ولهذا كان دريدا يضع لنفسه شرطين للإقدام على تفكيك نص ما : أولهما هو شعور الناقد التفكيكي بأن هذا النص (أيا كان نوعه) ذو عمق فلسفي، وثانيهما هو حب النص وتقدير مؤلفه. ولهذا رأى دريدا أن تفسيراته لنصوص أفلاطون وروسو وماركس وهيدجر وجينيه وجابس وسيلان وغيرهم نوع من الوفاء لهم" .
..........................................................
- جاك دريدا، الكتابة والاختلاف،ت.كاظم جهاد،دار توبقال للنشر،ط2، الدار البيضاء،2000، ص33.
- جاك دريدا،في علم الكتابة،ت.أنور مغيث ومنى طلبة،المركز القومي للترجمة،ط2،القاهرة،2008، ص58.
- نفسه، ص58.
- نفسه، ص60.
- نفسه، ص59.
- عبد الله ابراهيم، التفكيك الأصول والمقولات، منشورات عيون المقالات، ط1، الدار البيضاء، 1990، ص45-46.
-جاك دريدا، أحادية الآخر اللغوية أو في الترميم الأصلي،ت.عمر مهيبل،الدار العربية للعلوم ناشرون،ط1، الجزائر العاصمة، ص15-16.
- عبد الله ابراهيم، التفكيك الأصول والمقولات، ص45-46.
-عبد الله ابراهيم وسعيد الغانمي وعواد علي: معرفة الآخر-مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة،المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت-الدار البيضاء،1990، ص113.
- مقال: دريدا وتفكيك الميتافيزيقا،مجلة الفكر العربي المعاصر،مركز الإنماء القومي،ع140-141،بيروت،2007.
-جاك دريدا، في علم الكتابة ، ص46.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى