عبد القادر وساط - شجار في جمعة سُحَيم

ما حدثَ هو أنني تعبتُ - يا سادة يا كرام- من حياة الترف التي أنعمَ عليَّ بها صديقي الشاعر محمد علي الرباوي، وضقت ذرعا بالخَدَم وبمتاعبهم التي لاتنتهي ولم أعد قادرا على رؤية الطلعة البهية للسائق الخاص، رغم أنه يمتثل للأوامر ويَحملني حيث شئتًُ، في تلك السيارة السوداء الفخمة التي أهدانيها أخي الرباوي بكرمه الحاتمي. وهذا ما دفعني إلى الخروج سرا من الفيلا، في غفلة من الحراس.

وبَعد أن نجحتُ في الخروج، دون إثارة الانتباه، ناديتُ على سيارة أجرة وتوجهتُ رأسا إلى محطة أولاد زيان، كي أنعم من جديد بالزحام والفوضى وبرائحة المازوط وشتائم أصحاب الحافلات و ألاعيب اللصوص وما إلى ذلك من مُتَع لا يَعرفها إلا ذائقوها. وقد قضيت ساعتين في تلك المحطة العجيبة، قبل أن أركبَ الحافلة المتوجهة إلى مدينة آسفي، وأنا أمنّي النفس ببضعة أيام من التسكع والضياع. فلما بلغنا جمعةَ سُحَيم، في طريقنا إلى قاعدة عبدة، عنّت لي فكرة طالما راودتني في الماضي، وهي أن أنزل هناك كي أعرف من هو سُحيم هذا، الذي تُنْسَبُ إليه الجمعة. أهو سُحَيم بن وَثيل الرياحي، صاحب القصيدة المشهورة، المثبتة في الأصمعيات، أم سُحَيم عبْد بني الحَسْحاس، الشاعر الغزل، أم سُحَيم بن الأعرف، وهو من بني الهُجَيْم الذين هجاهم جرير هجاء مقذعا؟

هكذا عدلتُ عن مواصلة السفر حتى مدينة آسفي ونزلتُ في الجمعة، لعلي أتمكن من إثبات نسبتها إلى واحد من هؤلاء الشعراء. و مباشرة بعد نزولي من الحافلة، توجهتُ إلى مقهى ( القريض) وجلست كي أستريح بعض الوقت، قبل الشروع فيما جئتُ من أجله. و كان أن أغفيتُ قليلا، مسندا رأسي لراحة يدي اليمنى. فلم أنتبه إلا وشيخ وقور يجذبني من يدي ويوقظني ثم يخاطبني بقوله:(لقد غافلك النوم بسرعة يا صديقي...). ودون أن أسأله عن هُويته، بادرني قائلا: ( أنت لا تعرفني بالطبع... أنا سًُحيم بن وَثيل الرياحي، وهذه الجمعة جمعتي...) قلتُ له و أنا أبتسم:( و كيف لا أعرفك يا سُحيم بن وثيل، وأنت شاعر مشهور، في الجاهلية والإسلام، و قد جعلك ابن سلّام في الطبقة الثالثة من فحول الإسلاميين، وسمّاك بالشاعر الخنْذيذ، أي المُجيد المفلق؟ كما أن الأصمعي أثبتَ في مختاراته قصيدتَك المشهورة، التي تقول فيها

( أنا ابْنُ جَلَا و طَلّاعُ الثَّنايا = متى أضع العمامةَ تَعْرفوني)

وهو البيت الذي تمثل به الحجاج بن يوسف في إحدى خطبه المشهورة... ولك كذلك قصائد جيدة في الخمر وعدم صبرك عليها...) ولم أكد أنتهي من كلامي ذاك، حتى تقدمَ نحونا رجل أسود البشرة، جهم الملامح، فدنا من سُحيم بن وثيل وقال له: ( كيف تزعم أن هذه الجمعة جمعتك؟ أما تستحي أو ترعوي أو تفكر؟ إنها جمعتي أنا، وهو ما يشهد به القاصي والداني)... فسألتُ الرجلَ الزنجي قائلا: ( ومن أنت يا أخا العرب؟)، فأجابني متهكما: ( وهل مثلي يُسأل عمن يكون؟ أنا سُحيم عبد بني الحسحاس....)، قلتُ متصنعا الهدوء: ( عرفتك الآن يا أخي... لقد وضعك ابن سلام في الطبقة التاسعة من فحول الإسلام....)، قال وقد تعاظم غضبُه وانتفخت أوداجه: ( دعني من ابن سلام ومن تصنيفات ابن سلام، وعدْ إلى قصائدي و انظر كيف كانت تشيع على ألسنة الناس.... فقد أعجبَ عمر بن الخطاب نفسه بقولي
" عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إنْ تجهَّزْتَ غاديا = كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا"

وعلى أية حال، فهذه الجمعة جمعتي ولن أتنازل عن شبر منها...) وما كاد صاحبنا ينتهي من كلامه حتى اقترب منا شخص ثالث وهو يصرخ قائلا: ( بل أنا صاحب هذه الجمعة يا سادتي... أنا سُحَيم بن الأعرف، صاحب البيت المشهور:
" فما جئناك منْ عدم و لكنْ = يَهشُّ إلى الإمارة مَنْ رَجاها" )...

و عندئذ قاطعه سحيم عبد بني الحسحاس قائلا: ( أهلا بسليل بني الهُجَيم الذين يقول فيهم جرير:
" وبنو الهجيم قبيلة ملعونة = حُصُّ اللحى مُتَشابهو الألوان)

وما إن سمع ثالثُ السُّحيمات ذلك الكلام حتى ارتمى على عبد بني الحسحاس وأخذ بخناقه، بينما سحيم بن وثيل يحاول أن يفصل بينهما... أما أنا فقد صحوتُ من غفوتي في تلك اللحظة بالذات...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى