نزار حسين راشد - سبعة رجال عظام.. قصة قصيرة

أكثر ما كان يُضحكني،هو طبق الطعام الّذي كانوا يبسطونه أمامهم،والّذي يوحي أنّه فُصّل على مقاسهم خصّيصاً،فلا شبيه له في الأسواق،وتبلغ سعته على الأقل ثلاثة أضعاف أكبر طبق لدينا في البيت،والّذي تدّخره أمّي خصّيصاً لطعام الضيوف.

كانوا سبعة وافدين من الضفّة الغربيّة في فلسطين ،إلى الضفّة الشرقيّة للأردن،وكان عملهم في مقاولات رصف وتعبيد الشّوارع،،أيّام كانت المقاولة تعني قُفّة وفأس وطوريّة،وحفّارة يدويّة تعمل بضغط الهواء،ولا غرابة إذن ان تكون أجسامهم قد قُدّت على قدر هذا النّوع من العمل،فقد آتاهم الله بسطة في كُلّ أعضاء الجسم،وسخّرهم أو يسّرهم لكسب عيشهم، من رزق هذا القطاع!

أمّا عن علاقتي بهم فقد كانت علاقة جوار بالدّرجة الأولى،ومصلحة بالدرجة الثانية ،فقد كنت أقرأ لهم الرسائل،الواردة إليهم من ذويهم في الضفّة الأخرى،فقد كانوا جميعُهم أميين،لا يحسنون القراءة ولا الكتابة!

أحياناً كنت أقرأ لهم،بينما هم منهمكون في تناول طعام الغداء،وبالرّغم من إلحاحاتهم،ودعواتهم المتواصلة لي أن أترك القراءة،وأشاركهم الطّعام،إلّا أنني كنت أزهد في ذلك،مكتفياً بتنسُّم رائحة البصل الأخضر،الّذي يفتح شهيّتي بانتظار أن تنهي أمّي طبختها،معلنةً ذلك بمناداتي بصوتها العالي،أن أعود لتناول الطّعام،مقدّرةً أنني ،سأكون في موقعٍ ما على مقربة!

كانوا رجالاً جادّين،قليلي الحديث،ويطيلون الإستماع إلى المذياع،لا تلفت تصرّفاتهم النّظر،حتّى كأنّهم يعيشون في الخفاء،ولم يكن شائعاً في ذلك الوقت،أن يستأجر مجموعة من الرّجال العُزّاب،بيتاً في قلب سكن العائلات،ولكنّ صاحب البيت،استرضى الجيران،وقال إنّهم اقاربه قادمين من الضفّة،وأنّ وجهه سيتقطّع خجلاً،أمام أبناء عمومته،لو رفض إيوائهم !وقد عرفتُ منهم فيما بعد أنّه كاذب،وأنّه يتقاضى منهم أجرة عالية حيث زعم أنّه تكلّف عناء إقناع أرباب العائلات بقبولهم بينهم،وقبلوا بذلك إحتراماً له ،وإكباراً لشانه!بالإضافة إلى ضخامة عددهم،وهو سببٌ آخر يغري الجيران بالرّفض!

أمّا ما كان،يُثير الفتنة،ويكسر الرتابة،في حيّنا الهاديء،فلم يكن غير ظهور تلك الجارة الغندورة،بكامل زينتها على عتبة بيتها،محاولةً لفت أنظارالجميع،كانت مغرمة باصطياد نظرات الإعجاب،وحين يحدث ذلك،ويرسل أحدهم عيونه نحوها،كانت تتظاهر بالغضب،وتتراجعُ إلى خلف العتبة،صافقةً الباب بغضب،في حركة احتجاج،توحي للناظر،أنّ حركته،لم ترُقْها،وأنّه أزعج سكينتها،واقتحم خصوصيّتها،بتلك النظرة الوقحة،الّتي جذبتها أصلاً حركة صاخبة لافتة،من طرفها هي!

خُيّل إليّ أحياناً،أنها تتعمّد الظّهور،وقت عودة هؤلاء الرّجال،وأنّها تترقّب،موعد مرورهم،لتبرُز على عتبة بيتها،قُبيل ذلك بقليل!

كان الرجال يعودون مُعفّرين مُغبّرين،حاملين عدّتهم على أكتافهم،وقابضين عليها بأكفّهم الخشنة!

نظراتهم مصوّبة أمامهم،مبدين أحياناً بعض الملاحظات،حول ما أنجزوه من عمل اليوم،وغير منتبهين،إلى وجود هذه الغزالة الظريفة،التوّاقة إلى اصطياد نظرات الإعجاب!

كان الأمر ليمُرّ مرور الكرام،لولا أنني سمعتها مرّة،تشكو إلى زوجها ،نظرات هؤلاء العمّال السليطة،وقت رواحهم وغُدوّهم!

الزوج الغافل لم يسألها طبعاً،عن سبب وقوفها أمام الباب،وقت خروجهم وعودتهم،ولماذا لا تتوارى داخل منزلها،في هذه الأوقات بالذات،وبدلاً من ذلك قال:

-أنا سأُريكِ ما سأفعلُهُ بهم!

وقلت في نفسي إنّ هذه الأنثى اللعوب،ستتسبّب في كارثة في الحارة،وحين رأيت زوجها حسم أمره،ووقف على الباب مُمتشقاً عصاً قصيرة،متناسبة مع قصر قامته هو شخصيّاً،قلت في نفسي أن الرجال سيأكلونه،فيما لو سوّلت له نفسه واعترض طريقهم ،وفكّرتُ أنني سأمنع ذلك،وسأستوقفه وأكشف له أمر زوجته!

عبر الرجال كالعادة،بخطواتهم الواسعة الكبيرة،معتمرين أدواتهم وقبّعاتهم الواقية من الشمس،بدوا لي كسبعة رجال عظام في فيلم شاهدته،عن رعاة البقر،وانتظرت في توجُّسٍ، وقلبي يدُق ،مترقّباً مسار الأحداث!

الرّجل لم يغادر مكانه،ولم يخْطُ ليعترض سبيلهم،وقف هناك وهو يضرب بطن كفّه بعصاه الصغيرة،وحين أصبحوا بمحاذاته،هتف :عدّي لي رجالك عدّي...من الاقرع للمصدّي...

التفت الرجال صوبه،وهم غير متأكّدين،أنّهم هم المعنيّون بهذا الكلام،وحيث أنّه لم يزد على ذلك،ولم تبدُر منه أيّة حركة،فربّما ظنّوا أنّ الرجل ربما كان يحدّث نفسه!وربّما وزنوه بأعينهم واستضألوه،فواصلوا طريقهم وسرعان ما غابوا خلف باب البيت!

أمّا الرجل فقد استدار متهلّلاً ودلف إلى بيته، وصرخ معلناً لزوجته:

-أرأيت كيف أخفتهم؟!لم يجرؤ أحدٌ منهم،أن ينبس بكلمة!َقفي على الباب مثل ما بشئتِ!ولن يجرؤ أحدٌ أن يُصوّب جهتك ولو نظرة!

نزار حسين راشد


nana817 on

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى