حـــــــوار محمد شكـري.. حاوره: يحيي بن الوليد و الزبير بن بوشتي

ارتبط اسم الكاتب والروائي المغربي محمد شكري، رضي ام ابي بعمله الروائي الذاتي الخبز الحافي، وهو العمل الذي سجل فيه تاريخه الشخصي وتاريخ مقهوري المغرب فيما بعد الاستقلال. واراده، وان لم يقل هذا، ان يكون سجلا لتاريخ مدينته طنجة ورسم تحولاتها الاجتماعية والثقافية، وتمظهرات فضائها الخاص المتنوع. وكان العمل في خروجه القوي وان جاء اولا بالفرنسية، ثم ترجم للعربية ونشره الكاتب بشكل خاص، محوريا ومفصليا في الكتابة الذاتية الروائية، فهو لم يكن اعترافات علي طريقة جان جاك روسو ولم يكن فضائحيا اباحيا علي طريقة الكتابات الشعبية بل جاء كما وصفه النقاد بالعمل الذي يصلح ان يكون وثيقة اجتماعية وتاريخية، فهو عن تحولات الطفل الريفي الذي لم يكن يعرف لغة المدينة، وعن الاب القاسي الذي اراد الكاتب انهاء علاقته به علي المستوي الروحي علي الاقل، كما هو عمل يدخل في تفاصيل الهروب والتسكع، والبحث عن الخبز. فالطفولة في الخبز الحافي هي الباحثة عن نجاة في عالم قاس ولئيم، عالم يدفع الاخرين لاقتناص لقمة الخبز المر، الحافي، بالقوة وعبر اللصوصية ان اقتضي الامر كذلك. وعمل كهذا مفتوح علي القراءات، ومفتوح علي المشاهدة، فهو يقرأ بحسب الوجهة التي يبحث عنها القارئ كمتلقي للعمل والتجربة فالقراءة المحافظة تعتبر خروجا علي الحياء وتجاوزا للممنوع في المجتمع، والمتسكع يشاهد فيه صورته ووجهه القديم، والثائر يجد فيه بيانا ثوريا، انه دكان عجب مفتوح للطالب والراغب، ومع ذلك فالخبز الحافي في دورانه في عالم الطفولة كان في ملمح من ملامحه حكاية وسردا عاما تسجيليا وعاصفا عن الجيل الذي تربي وولد في عالم المغرب ما بعد الاستقلال، حيث جاء اولاد الريف الي المدينة ونصبوا اكواخهم حولها، وبنوا مدن صفيح حول قصور البرجوازية والاقطاعية التي استفادت وتضخمت علي حساب الشهداء الحقيقيين للوطن.
الخبز الحافي اصبح عمل الكاتب الوحيد او العمل الذي كتبه الروائي، ولكنه لم يمت او ينته علي غرار اصحاب اليتيمة في الشعر العربي، فشكري، قبل ان يكتب الخبز الحافي، نشر اعمالا اخري ومحاولات وتجريب في مجال السرد، والكتابة النسقية والتي جاءت علي درجة اهم وافضل من الخبز الحافي، ولهذا فشكري بدأ عملية التجريب في الكتابة والادب كوسيلة للخروج من واقع الموت المفروض عليه، في البيت والمجتمع الكبير الذي كان يعيش في فضائه وهو طنجة. ومع ذلك لم يكن الكاتب بقادر علي التخلص من شبح وظلال الخبز الذي يظل تأسيسيا في ذلك النمط من الكتابة ولكنه لم يكن تأسيسيا في تجربة الكاتب، اذ حاول شكري في الكتابات اللاحقة، تهميش او تدجين هذا العمل بكتابات اكثر نضجا، او تضمينه لحمة التجربة الذاتية بشكل عام.

مثل الخبز الحافي في غضبه وصراحته، ومرارته وشقاوته اطارا من تجربة محمد شكري، تلك التي اراد فيها ان يكون فيها الشاهد، ربما الشاهد الاخير علي حياة مدينته وجيله من المحرومين، ومن هنا تنبع اهميته. وبالرغم من ذلك فيجب ان توضع الرواية/ العمل في سياقها الاجتماعي والزمني، والحكم عليها عبر هذا المنظور، باعتبارها واحدا من تمثيلات الكتابة وتمثلاتها وليس صورة عن الكتابة في فضائها المكتمل الذي هو الكاتب نفسه.

فقد شارك محمد شكري في الكتابة الابداعية قبل وبعد الخبز الحافي، وكان مسكونا بهاجس الكشف والاكتشاف، والتنويع والتجريب بما هو ممارسة وانفتاح علي التجارب الادبية، وعاش هوس البحث عن كتابة نثر ساحر ومضيء. ومن هنا، فمن حق الكاتب ان يغضب حينما تختزل حياته الادبية في عمل واحد، ومن حقه ان يعمل ضد هذا التلخيص والاختصار، ومع ذلك فـ الخبز الحافي جعل اسم الكاتب مسموعا، ومرئيا في المدي المكتوب والمشاهد، ولكنه قاد الي بناء تصورات خاطئة او ضبابية عن محمد شكري، باعتباره قارئا تعلم الكتابة وجاء اليها متأخرا. محمد شكري هو بالضرورة ذاكرة عن جيله وزمنه، وذاكرة عن الحياة التي عاشها والتي يدافع عنها في هذا الحوار الطويل والصريح الذي تحدث فيه لكل من يحيي بن الوليد، والزبير بن بوشتي.

وحينما نقول ان الحوار شامل لانه يغطي كل المناطق المعروفة وغير المعروفة في حياة الكاتب، ولانه يحاول تحفيز محمد شكري للاجابة علي اسئلة لم يفكر من قبل الاجابة عليها، او حتي مواجهتها، انه حوار مشغول بكيفية ادارة الحوار وطبيعة الاسئلة التي تتجاوز العادي والباهت والمعاد والمكرر والتجاري والاستهلاكي، لاسئلة اكثر عمقا عن معني الابداع وعلاقته بالشهرة، وعن الثمن الذي يطالب فيه الكاتب قراءه ومستمعيه بدفعه مقابل اضحاكهم او امتاعهم ، وهذا لا يعني الحديث عن فن الفرجة والكراكوز انما يتعلق الامر بحق الكاتب الاستفادة من هذه الشهرة.

وحينما يقرر شكري استثمار شهرته فهو يريد ان يصفي حساباته مع الذين اغتالوا ابداعه واستفادوا منه، ناشرين، مترجمين وموزعين وصحافيين مشغولين بالاثارة. ولهذا فالقراءة الثانية، التي يقوم بها الكاتب لاعماله عبر تذكر اسبابها وظروف ولادتها تظل امرا ضروريا باعتباره سردا علي السرد. فهو في اطار منه، سيرة ثانية للاعمال، التي جاءت رهينة ونتاجا لوقتها. فشكري يقول ان سهيل ادريس صاحب الاداب طلب منه اعادة الخبز الحافي وفلسفتها اكثر، ولم يفعل شكري ما طلب منه، بل نشرها بالفرنسية كما جاءت في فورتها وولادتها الاولي.

جانب آخر من شمولية الحوار انه لا يهتم بالكاتب، كشخص، بل يتعامل معه كشاهد، ممثل، وجزء من المجتمع فاعل وعامل فيه، فهو ليس ذلك الصعلوك الذي اتقن الكيف، والشراب في الحانات، وصنع منها ابداعا، علي الاقل كما ورد في الصورة العامة والشعبية عن الكاتب. فالحوار يقدم صورة اخري عن محمد شكري، الذي يتحدث عن نضجه الابداعي، ونضجه حكمته كرجل تجاوز سياق زمنه الشاب، وهو هنا ليس مسكونا بالنوستالجيا والحنين بقدر ما يريد التوضيح والتعليق وتقديم حالة عن العلاقة بين الشهادة والابداع، وصهر مجمل التجربة في زمان ومكان الكاتب باعتباره ساردا ومبدعا متمثلا للحالة التي يتصدي لها ويريد كشفها، او فضحها وتعريتها امام الشمس. من القضايا الاخري التي يطرحها الحوار مع شكري، صورة الكاتب كناقد ومبدع في نفس الوقت، وهنا يقدم لنا شكري عددا من التعليقات الهامة عن جيله وعن جيل الكتاب السابقين له، وفي هذا السياق فشهادة شكري في ابناء جيله، ورأيه في الفضاء الادبي المغربي، كفضاء منجز وموجود هامة وضرورية. لا يتوقف الحوار عند المعلومات ذات الطابع الكرنولوجي، البيوغرافي، ولكنه يتجاوز ذلك للحديث عن الدين والمرأة، والكتابة باعتبارها عملا وابداعا، وتجارة وتسويقا واستهلاكا، ويحاول الحوار استفزاز الكاتب شكري للحديث عن مواقفه السياسية، وانتماءاته السياسية، حيث يدافع عن ذلك مقدما صورة عن شخصية تعيش فوق الولاء الحزبي وتتعالي علي الحزبية مع انها لا تخجل من المشاركة ابداعيا في كل المطبوعات الحزبية. حاول المحاوران استثارة وحث الذاكرة القديمة واحياء ذاكرة الوجوه التي عايشها شكري او التي مر عليها، وفي ظلال الصور والالوان نعثر علي تاريخ اضافي وبديل، حيوي لحياة الادب في المغرب او الاديب في طنجة.

يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى