حكمت درباس - زيارة مؤجلة

لم أزرْ حيفا لأكتبَ في مديحِ
البحرِ أغنيةً، وأرمي خصلةً من شعركِ
القمحيِّ للسُفُنِ الشريدةْ.
لا أعرفُ الميناءَ أو سِكَكِ الحديدِ،
وما تراءى في عيونِ المُوثَقين إلى
أحاجي العنكبوتْ.
أهي السماءُ، سماؤكم، تَنْهالُ
ماساً من ثُريّاتِ الصّفيحْ؟
لا أعرفُ المينا، لكن قلبيَ
يستضيء الليلَ في تَنفُّسِ عاشقَيْن
وفي حيفا ترددتِ النساءُ على
السينما، قال الرواةُ.
صَدّقَ العُمّالُ مملكةَ السماءِ،
فعُلّقَ الإضرابُ، وعُلّقَتْ في الأفْقِ
جواربُ العمالِ. واستفقتم تنشدون:
لا البحرُ يشبه بحرَنا
ولا الأزقّةُ حين يلفظها الترابْ
ورجالُ حيفا، ههنا بين الأزقّةِ،
ينسخونَ الأمسَ؛ فيحلقونَ ذقونهم
كل صباحٍ. يقرأون مَنْسيّ الجرائدِ،
ويمارسونَ حقوقهم في اللاعملْ.
ما العملْ؟
لا البحرُ يشبهُ بحرنا
ولا الأزقّةُ حين يلفظها الترابْ
ونساءُ حيفا، ههنا بين الأزقّةِ،
يُتْقنّ توليفَ النهارِ؛
الفجرُ تنقيحُ الأسِرّةِ والفكاهة،
الظهرُ تجفيفُ الطماطمِ والشجون،
والليلُ نافذةٌ على الزمنِ المُذَهّبِ
«يا وابور قُلّي رايح على فين؟».
لا البحرُ يشبهُ بحرنا
ولا الأزقّةُ حين يلفظها الترابْ
والمدينةُ في طيفِ شاعرةٍ تَجلّتْ:
- هي حكمةُ التاريخِ قُلْ أو هي لعنةٌ،
كنتُ الصغيرةَ بين أخواتي القُدامى.
لم تُصاهرني الألوهةُ مثلهنَ ولا ملوكُ
الأرجوانِ. نَضَجتُ بخفّةِ الأممِ الحديثةِ
حين أهدتني العواصفُ من فهودِ البدوِ
شيخاً أرخى على وادي البقاع عباءةً،
ساسَ خيلاً في دمشقَ.
- والمهرُ، قلتُ؟
- سورٌ وميناءٌ جديدْ
لم أزر حيفا لأرتقَ صوتَ أحمدَ
حينما زفرَ الحكايةَ: عشتُ مَزهوّاً
أُغنّي في مقاهيها، وروحي طائرٌ في الأفقِ
يرقصُ. هِمْتُ نشواناً، فأيقظني
ثُغاءُ الموجِ في لبنانْ
لم أزر حيفا لأحملَ ظلَّ
من عبَر المسافةَ في الجريدةْ.
أبو جمالُ، موزّعاً بين المخيمِ
والحديقةِ، بين الحديقةِ والحقيقةِ.
(ما الحقيقةُ؟)
قَرُبتْ محطتُنا الأخيرة، فأين تنزلُ؟
سألَ المعاونُ قرب بابِ قِنّسرينَ.
أجابه: وادي الصليبْ.
وتلفّتَ الركّابُ: بكّاءُ أطلالٍ جديدْ!
والآن أعبُرها، فتعبُرني المدائنُ،
ثم تهوي مِثل حجارةِ الدومينو
ورائي.
لو أنني مِن نسلِ مدينةٍ أخرى،
في الهند قُلْ أو في السويد،
لسخرتُ من هذي القصيدةِ، ربما.
ولربما زرتُ المدينةَ مُوْفَداً أو سائحاً،
وكتبتُ بضع خواطرٍ عن جميلاتِ المساءِ،
وعن محلاتِ الفلافلِ والتعايشِ.
ما التعايشُ؟
تسألُ حيفاويةٌ في السبعينِ
ألْقَتْ حقيبتها الأخيرةَ في بحر إيجةَ،
ثم شيّعها الحُضورُ على رصيفِ القطاراتِ
السريعةِ في برلينْ
لم أزر حيفا، وإني إن فعلتُ، لربما
كنتُ اختبأتُ في جَوْفِ رومِيّةٍ
سئمَتْ أضاليلَ الزمانِ.
لربما كنتُ اكتفيتُ بصورتينِ مع الطلولِ.
لربما ضاقَ المكانُ بعُزْلتي وبِحِيرتي.
ولربما شَبِقاً صرَخْتُ: ألا تراني،
طوّقيني بخصلةٍ من شَعركِ القمحيِّ
نرميها إلى السُفُنِ الجديدةِ
كان البحرُ وكان الكرملُ


٭ شاعر من فلسطين

Jun 27, 2017

* عن القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى