بلال فضل - طه والسلطان!

المواقف المستقلة لها أثمانها الباهظة في الأوطان، التي لا تحب المثقف إلا تابعا متملقا أو تابعا صامتا. كان طه حسين يعلم تلك الحقيقة جيدا، ومع ذلك لم يبال بغضب حاكم مصر الملك فؤاد عليه، لأنه جاهر بالمطالبة بالدستور والحياة الديمقراطية، وهو ما جعل موقف الملك منه يتغير، ليقول لمدير المتحف المصري سيلاكوه: «إنني أحترم طه حسين ولكني لا أحبه»، ثم حين زادت مقالات طه في استفزاز الملك، حلف برأس أبيه أنه سيخرجه من الجامعة، لكن الملك عجز عن ذلك بسبب تضامن رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد مع طه، وهو الموقف المشرف الذي ظل مقترنا بمطلب استقلال الجامعة المصرية، الذي ظلت الأجيال المتعاقبة تنادي به.
في ما بعد اعترف شيخ الأزهر أبو الفضل الجيزاوي للسياسي عبد الخالق ثروت بأن الملك كان المسؤول عن الحملة التي قام بها الأزهر ضد طه، ولولا أوامره لما شنها الأزهر بتلك الضراوة، بعدها وحين زار الملك كلية الآداب ـ التي كان طه عميدها ـ بصحبة رئيس وزرائه إسماعيل صدقي، ووزير المعارف عيسى حلمي والسياسي البارز عدلي يكن، فوجئ بأستاذ تاريخ يتحدث لطلابه عن تطور الدستور الإنكليزي، وكان الملك قبلها قد عصف بدستور 23 واستبدله بدستور 30 اللقيط، ثم فوجئ ببعض الطلبة يهتفون بحياة عدلي فقط نكاية في الملك، فقال وزير المعارف للملك إن هذا من تدبير طه، وإنه نبّه على الأساتذة ألا يغيروا موضوعات محاضراتهم إلى موضوعات تجامل الملك، فأصدر الملك قرارا للوزير بنقل طه إلى وزارة المعارف، لكن طه رفض تنفيذ القرار لأن الجامعة مستقلة، وحين سأله رئيس الوزراء لماذا لم ينفذ قرار وزير المعارف بالنقل، رد: لأنه حمار ولا أحب أن أتعامل معه، فقال: إذن تعامل معي، فقال له: ولا أتعامل معك، فقال الوزير: إذن أنا حمار مثله، فقال له طه أنه لم يقصد ذلك، ومع ذلك صدر قرار بإحالة طه على المعاش.
كان الملك فاروق يكره طه حسين، بدون حتى أن يعرف قدره كأبيه، في بدايات حكمه نشر طه مقالا في مجلة «الهلال» بعنوان (القلب المقفل)، فقال له فكري أباظة وإميل زيدان، إن الملك ظن أن المقال يعرّض به، فأنكر ذلك، لكنه بعد ذلك اعترف لتلميذه محمد الدسوقي بأن الملك كان في ذهنه وهو يكتب المقال. وحين تم ترشيح طه لجائزة أدبية قيمتها ألف جنيه، وهو رقم فلكي وقتها، اعترض فاروق، لكنه أمر بمنحها له بعد نصيحة من حاشيته، فقال طه للنحاس باشا رئيس الوزراء، إنه سيرفضها، فرجاه النحاس أن يقبلها لكي لا يحدث أزمة بين الوفد والقصر، فقبلها وقدمها هدية لزوجته. وحين تولى طه وزارة المعارف في حكومة الوفد الأخيرة، ووقف أمام فاروق ليقسم اليمين، قال له الملك: أنا بامتحنك يا دكتور طه ولا أريد هذا الكلام الفارغ الذي تحدث به الناس وتكتبه عن المجانية، فلم يرد طه، وبعدها بيوم أعلن مجانية التعليم الإعدادي والثانوي، بعد أن كان صديقه نجيب الهلالي قد سبقه لإعلان التعليم الإبتدائي، وحين أراد طه إعلان مجانية التعليم الجامعي رفض الملك وقال للنحاس: طه يريد جعل البلد شيوعية، وحين حاول الملك إلغاء مجلس الدولة للتخلص من عبد الرازق السنهوري، طلب طه من النحاس إبلاغ الملك بأن الوزارة ستستقيل لو فعل ذلك، فألغى الملك المحاولة، وحين أقال الملك وزارة النحاس بعد حريق القاهرة، قال النحاس لطه ضاحكا: أخيرا سأستريح من تهديداتك المتكررة بالاستقالة.
جاءت محبة النحاس لطه حسين بعد خصومة سياسية وصلت إلى المحاكم، بسبب مقالاته المهاجمة للوفد، ومن بينها مقالة شهيرة بعنوان (ضِعاف) هاجم فيها الوفديين لمنعهم محرر جريدة «السياسة» من حضور جلسة البرلمان، وحين أحيل طه للمحكمة وقف محامي الوفد يقرأ المقال، فسمع طه أحد الوفديين يقول لجاره: ابن الكلب أسلوبه قوي جدا، ولما أنهى المحامي القراءة دوّت القاعة بالتصفيق، فرفع القاضي الجلسة احتجاجا على غياب توقير القضاء. حين رفض طه طلب حكومة صدقي منح بعض الساسة الدكتوراه الفخرية عام 32، أحالوه على المعاش بدون أن يكون من حقه نيل معاش، ولم تكن كتاباته السياسية تدر عليه شيئا لأنه كان يكتب مجانا، فقد تعرض لأزمة مادية تغلب عليها بالاستدانة من نجيب الهلالي، وحين عرض عليه النحاس ومكرم عبيد رئاسة تحرير صحيفة «كوكب الشرق» الوفدية بمرتب 100 جنيه، لم يوافق إلا بعد أن عرض الأمر على الأحرار الدستوريين الذين تحالفوا وقتها مع الوفد ضد طغيان صدقي، فعمل طه في الصحيفة من مارس/آذار 32 إلى سبتمبر/أيلول 34، ليتركها بعد عودته إلى الجامعة، لكن صداقته بالنحاس استمرت، وكان يزوره كثيرا في منزله فيلقاه مداعبا بلزمته الدائمة: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.
في لقائه الأول بعبد الناصر بعد ثورة يوليو/تموز، تأثر طه حين قال له ناصر إنه كان يحتفظ بالقرش الذي يأخذه من والده، ليشتري الصحيفة التي يُنشر فيها مقاله، كان العميد من أشد المتحمسين لحركة الضباط والمسارعين إلى وصفها بالثورة، وحين أبدى ناصر ـ في أحد لقاءاتهما التي تكررت بداية الثورة ـ سخطه على تبرئة القضاء للمتهمين في قضية الأسلحة الفاسدة، وقال: يجب إذن أن نُقتل في ميدان عابدين، لم يعجبه رد طه بأن الحكم يدل على حرية القضاء، وقال: قل هذا لمحمد نجيب أما أنا فلا. لم ينس طه لناصر رده على مسؤولين اتهموا طه بخدمة الاستعمار ومعاداة الإسلام، وحين تحدث مرة مع ناصر بشأن بعض المعتقلين وتدهور أحوال أسرهم، طمأنه بأن الدولة تستمر في صرف راتب المعتقل أو تمنح الأوقاف مكافأة لأسرته، وأرضى ما قاله ناصر ضمير العميد، بدون أن يتحقق منه، حتى أنه في الكلمة التي رثا بها ناصر في اجتماع لمجمع اللغة العربية، أشار إلى الواقعة، لكن جميع الصحف حذفت ما قاله، لكي لا يستغله أهالي المعتقلين في طلب حقوق مالية.
حين قام عبد الناصر عام 65 بمنح العميد قلادة النيل أرفع وسام في مصر، تأثر طه حسين بذلك كثيرا، وحين رحل ناصر قال طه للدسوقي رأيا سجله في يومياته: «لقد أخلص عبد الناصر لبلاده وجاهد من أجل حريتها واستقلالها، ولا يؤخذ عليه إلا أنه كان مستبدا برأيه، ولم يتح الفرصة لأحد يمكن أن يملأ فراغه»، وحين قرأ الدسوقي عليه مقالة كتبها محمد حسنين هيكل عن اليوم الأخير في حياة ناصر، انتقد طه العبارة التي ختم بها هيكل مقاله: «لقد كان جمال في حياته أكبر من الحياة، وكان جمال بعد رحيله أكبر من الموت»، ورآها سخيفة جدا، وحين قال له الدسوقي أن هيكل ربما يعني أننا لن ننسى جمال، لذلك سيكون أكبر من الموت، صمت طه حسين بدون تعقيب، وليته صمت قبل ذلك حين عصفت الثورة بالحريات والديمقراطية التي طالما نادى بها في زمن الملكية، لكي لا يصبح تأييده للظلم والقمع نقطة سوداء يأخذها عليه عارفو فضله العظيم على الثقافة العربية، رحمه الله وأحسن إليه.

ـ «طه حسين يتحدث عن أعلام عصره» ـ محمد الدسوقي ـ دار المعارف.




Apr 19, 2018
القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى