إبراهيم عبد المجيد - جيل كل عشر سنوات… كيف؟

تحدثت في المقال السابق عن جيل الستينيات في مصر، وكيف كانت الظروف الاجتماعية والسياسية تدعو إلى ظهوره، وكيف أقام هذا الجيل حوله سياجا بحيث يكون جيل التجديد الوحيد ولا أحد قبله ولا أحد بعده، ما شكل مفارقة لا تتماشي مع معنى التجديد الأدبي. ووعدت أن أتحدث عن ظاهرة أخرى في مصر وهي اعتياد النقاد والدارسين على تقسيم الأجيال كل عشر سنوات.
لم يحدث من قبل أن عرفنا في القرن العشرين أن هناك جيلا للعشرينيات ثم للثلاثينيات ثم للأربعينيات ثم الخمسينيات، وإن كان – بعد أن شاع الكلام وثبت عن جيل الستينيات- أن قيل عن بعض الكتاب مثل أبو المعاطي أبو النجا وصبري موسى وسليمان فياض وغيرهم جيل الخمسينيات. حين قيل جيل السبعينيات كانت محاولة لأن لا يدخل جيل الستينيات أحد. وإن كانت السبعينيات قد شهدت تحولا في الذوق العام والكتابة والتلقي إلى الرواية. وأذكر حين قلت مرة منذ أكثر من عشرين سنة إن الرواية في مصر سبعينية، فالظروف السياسية بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول وتفسخ المجتمع بسياسات الرئيس السادات وبداية الظهور الكبير للعشوائيات واحتدام الصراع السياسي بين النظام واليسار والناصريين، وبين هؤلاء أيضا والجماعات الوهابية التي احتنضها النظام ليوازن بها المعارضة، ما شكّل مساحة كبيرة تدعو إلى التأمل والكتابة على مهل، ومن ثم بدأ انتشار الرواية.
ورغم أنني قلت في المقال أو الحوار، لا أذكر بالضبط، إن كتّاب الستينيات الذين اشتهروا بالقصة القصيرة تحولوا أيضا بدورهم إلى الرواية، مع من اشتهر منهم بذلك من قبل، رغم إنني قلت ذلك وكانت كل الشواهد الأدبية تدل عليه، إلا أن الرد سرعان ما جاء من عدد من كتاب الستينيات أن الرواية ستينية وليست سبعينية. ولم أشغل نفسي كعادتي فهذه معارك لا فائدة منها، خصوصا إنها لا تقابل بالمناقشة، بل بالعداوة.
لاحظت بعد انتهاء السبعينيات ألا أحد قال إن هناك جيل الثمانينيات في القصة والرواية. قيل ذلك عن جيل التسعينيات، ولم أعلق إلى اليوم، وكانت من الملامح التي ركّز عليها النقاد كتاباتهم عن المهمشين. سكت ولم أعلق لأن الكتاب الذين وصفوا بذلك كانوا ممتازين جدا وكان عددهم قليلا جدا لا يكّون حركة مستقلة، وهم أنفسهم لم يعلقوا على هذا الأمر. طبعا لست في حاجة إلى القول إن الكتابة عن المهمشين كانت عند الكثيرين منا، وعند كاتب مثل خيري شلبي، ظل الستينيون طويلا جدا يهمشونه! حتى قبلوا الأمر الواقع. انتهت التسعينيات ولم يقل أحد بجيل الألفية الجديدة، ولا أحد يقول الآن جيل العشرينييات. اختلف الأمر في الشعر. جيل السبعينيات كان لهم رأي في إنتاج الستينيين ومن قبلهم، ابتداء من صلاح عبد الصبور وحجازي حتى أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنة من الستينيات. وواكبوا هذا في مجلة لهم صدر منها عدد واحد دشن منهجهم وهي «الكتابة السوداء»، ثم واكبت مجلة «الكتابة الأخرى» التي أصدرها الشاعر هشام قشطة الأمر نفسه، ودُشِّنت أسماء كثيرة مهمة منها عبد المنعم رمضان وحسن طلب وحلمي سالم وجمال القصاص ومحمد سليمان وأحمد طه وغيرهم. والحقيقة إنهم اختلفوا عمن قبلهم، وصار الشعر موجها للفرد في عزلته بعيدا عن تراثه الشفاهي، الذي يدعو إلى القافية والوزن قديما، أو الوزن فقط في الشعر الحر.
بعد ذلك قيل جيل الثمانينيات وجيل التسعينيات وبعضهم نال اهتماما كبيرا، لكن على انفراد وليس ضمن حركة أو جماعة. ولم نسمع عبارة جيل الألفية ولا جيل العشرينيات من هذا القرن. هذا المسح السريع يؤكد لنا أن مسألة جيل كل عشر سنوات ليست مرهونة بالعشر سنوات، لكنها مرهونة بالتحولات الكبرى في المجتمع. ومن هنا مثلا نرى شاعرا مثل محمود سامي البارودي يجدد في الشعر الذي كان تقريبا قد مات في العصور العثمانية، وما اشتهر منه أشبه بالتبكيت والتنكيت، وكان البارودي ابن نهضة تشمل المجتمع كله. تندفع هذه النهضة منذ عصر إسماعيل لتصل إلى أحمد شوقي الذي لا يكتفي بالتجديد في الشعر، بمعنى إعادته للقضايا الإنسانية الكبرى، رغم تمسكه كالبارودي بالأوزان والقوافي، بل تتسع عنده النهضة ليكتب لنا مسرحيات شعرية مهما كان رأيك فيها، فلقد كان كغيره من المبدعين الكبار يريد أن يؤسس ما هو غائب عن مصر في الفنون.
كانت ثورة 1919 انعطافة جديدة وتحولا جذريا في الحياة المصرية، ومن هنا يمكن بسهولة أن نقول جيل ثورة 1919. لاحظ الفرق من السنين بين عصر إسماعيل وثورة 1919. بعد هذه الثورة بدأت السينما واتسعت الفنون التشكيلية وبدأت الرواية تتسع أيضا، وبدأت القصة القصيرة تنتشر وتظهر لها مدرسة جديدة هي المدرسة الحديثة. وظهر كتاب مثل توفيق الحكيم يكتبون مسرحا جديدا ومجلات للأدب والرواية. باختصار كانت فترة نهضة في كل شيء حتى إن كاتبا مثل طه حسين مارس كل الفنون تقريبا ليضع بذورا لهذه النهضة. كتب الدراسات التاريخية والنقدية والرواية وترجم المسرح اليوناني وهكذا. حتى توفيق الحكيم كتب الرواية إلى جانب المسرح. طه حسين لم يكن يكتب ليكون روائيا وهو المفكر الكبير، إنما كتب الرواية وقصص الإسلام ليدشن هذا الفن.
وفي الشعر ظهرت مدرسة الديوان التي جاءت بعدها المدرسة الرومانتيكية في الثلاثينيات، وبعد أن اتسعت مساحة الترجمة والاطلاع على المدارس الأدبية الغربية، أعني مدرسة «أبوللو»، فضلا عن إعلاء قيمة الفرد بعد ثورة 1919. وظهر نجيب محفوظ يكتب في صمت، بانيا تاريخا للرواية كما حدث في العالم. من الرواية التاريخية إلى الواقعية إلى الحداثة، لم تحدث في المجتمع هزات أخرى كبيرة إلا بعد الحرب العالمية، بدأت أجنّة الشعر الحر.
في الخمسينيات حاول محمود العالم وعبد العظيم أنيس تدشين الواقعية الاشتراكية واشتعلت معركة الفن للمجتمع ضد الفن للفن، لكن الواقعية الاشتراكية فُهِمت خطأ بأنها مدرسة الشعارات ومن ثم لم تنتج أدبا مؤثرا، رغم أن بعض الكتاب ذاع صيتهم جدا مثل محمد صدقي، لكن سرعان ما أقلع الكتاب عن ذلك، حتى محمود العالم انتقل إلى الحداثة ـ هو دارس الفلسفة – وكتب كتابا رائعا عن نجيب محفوظ بعنوان «تأملات في عالم نجيب محفوظ» عام 1970 يتأمل فيه الأشكال الفنية لمسيرة الكاتب الكبير. أطلّ تلك الفترة – آخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات- يوسف إدريس سابقا الجميع في القصة القصيرة، عاليا فوق كل المدارس، ولا يمكن جمعه مع من عاصروه في جيل، بسبب السنين لاختلاف الكتابة بينهم. حتى جاءت الستينيات وجرى ما كتبت عنه، خلاصة القول إن مسألة جيل كل عشر سنوات لا تصمد ولم تصمد، كما أوضحت سالفا وأنها أشبه بوضع الكتاب في طابور من المرضى أمام المستشفى. هي الأحداث الكبرى والتغيرات العنيفة تنتج الأجيال، ومن ثم انتظروا جيل الربيع العربي بما فيه من نكسات وهزائم وآمال ضائعة.


إبراهيم عبد المجيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى