محمد بودويك - السبعينات حقبة تجديد القصيدة وتحديث اللغة.. حساسيات الشعر المغربي الحديث والمعاصر

عرف الشعر المغربي المعاصر كباقي الشعر العربي، والعالمي، تبدلات وتحولات طالت لغته وبناءه، وكيفيات صوغه، وامتدت تلك الأحوال التي اقتضاها منطق التطور إلى رؤياه. ويمكن تحديد تلك الحقبة التي شهدت هذا التطور اللغوي والجمالي، في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم، وفي ما تلاه من عقود بالقوة والفعل. ولئن كانت السبعينات قد عرفت حراكا غير مسبوق، على مستوى السياسة والاجتماع والثقافة والحقوق الإنسانية، تغلغل إلى المنظومة التعليمية والثقافية، وتسرب إلى الشعر، وأساليب التعبير والتشكيل الأخرى، ما أفرز منظورا جديدا للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي قوامه مصارعة التقليد، وخلخلة البنى المجتمعية المتكلسة، وزعزعة نظام سياسي أحادي لا ديمقراطي لا شعبي، فإن الثمانينات تلقفت منتوج وحصائل هذه الصراعات، وذلك التجديد الذي تحقق في العطش والدم واليأس والأمل والحلم. أي أن العقد الثمانيني حل، والمهادات ناجزة تقريبا، والمعارك السياسية والثقافية، خافتة نسبيا، والعنفوان الأدبي متحصل ومتمكن من أجناس أدبية وفنية مختلفة وفي مقدمتها الشعر والتشكيل. لقد تضافرت عوامل ذاتية وعوامل موضوعية من أجل عصرنة أنظمة فكرية، وثقافية، وأدبية، وفنية مختلفة، وانشبكت معطيات واقعية ورمزية لتحدث أثرها في بنيان وعقلية وذهنية المجتمع بعامة، وفي بنيان وعقلية وذهنية النخب الثقافية والنخب السياسية بخاصة.
فالشعر الذي نتحدث عنه ونتقصد أوتي لغة تصويرية جديدة، وبناء لغويا جماليا مختلفا عما عرفه العقد الستيني تعيينا، إذ لا شعر قبل زمن الستينات عدا نزر يسير جد، وعدا ركاما من النظم، والتقليدية الفقهية ـ إذا استثنينا الرومانسيين المغاربة ـ الذين كانوا صدى لـ«أبولو» و«الرابطة القلمية»، ولم يخلفوا شعرا رومانسيا ذا طابع مغربي صرف عليه من وعثاء البحث والتنقيب، والتأصيل والبناء، ما لا تخطئه العين. ومع ذلك فإن شعر محمد الحلوي، وعبد المجيد بن جلون، وعبد الكريم بن ثابت، وعبد المالك البلغيثي، ومصطفى المعداوي، وعبد القادر حسن، يشكل، مُجْتَمِعا، نقطة الضوء في مسير الشعر المغربي.
إن السبعينات هي الحقبة التي تحقق فيها جديد شعري، وتحديث لغوي، وَمَضَاء ثقافي، وقوة مرجعية، وانصهار لآفاق شعرية مختلفة غذَّتْ التجربة الشعرية المغربية، ومنحتها العنفوان والميزان والقياس نظير شبيهاتها العربيات في العراق والشام ومصر. ولا يخفى مقدار العَنَت الذي عاناه شعراء الحقبة المذكورة، إذ الأمر يتعلق بـ«المواجهة والتأسيس»، مواجهة «الفراغ»، وسقوط السند، والنظر بغضب إلى الخلف كما يعبر جون أوزبورن، وهو ما دفع إلى التأسيس، التأسيس من البدء، والتأسيس ـ من وجهة نظر متفائلة وواقعية ـ على جهد شعري مشع على قلته، وتفرقه، وواحديته، جهد ستيني كان على السبعينيين أن يُبْرُوهُ، ويفسحوا المجال لأصواتهم حتى ينصهر معهم، وينصهروا ضمنه أخذا بعين البصر والبصيرة التحولات والإبدالات التي لا مناص منها للتحديث، والتجريب، وكتابة نص شعري مغربي.
واقتضى منطق التطور، وانقلاب المعايير والقيم الفنية، بروز كتابة جديدة، هي كتابة الجيل الثمانيني، وهو الجيل الذي كثر حوله اللغط، لأنه أكثر من اللغط. إذ كانت له الشجاعة والجرأة في أن يكتب نصا شعريا مُبْدَلاً، ويوازيه بنص نقدي ونظري، حرك الساحة الثقافية، والرأي الشعري العام، وحرك بالتلازم كتابة نصية متعددة انتصرت للذات والأنا، وانتصرت للكتابة الجمالية، أي للشعر، معتبرة أن السبعينية، وإن صنعت فجرا ناجزا للقصيدة المغربية، فإن الجمالي فيها طُمِسَ تحت أسمال «السياسي»، وزعيق المباشرة الكلامية، و«اليافطات» الشعاراتية. والحال أن دمغ الشعرية السبعينية كاملة بـ«السياسي». هو تَجَنٍّ وتَعالُم، أو خطأ في توصيف الثيمة المركوزة داخل النص الشعري السبعيني. فالأمر لا ينبغي أن يطول السياسي بقدر ما ينبغي أن يطول «الحزبي» الضيق أو «السياسوي». هو، إذن، خطأ مصطلحي، ونُبُوٌّ مفهومي، وَاصَلَ حضوره في المدونة النقدية الثمانينية والتسعينية، وتلقفه بعض «النقاد» من دون قراءة هادئة ولا تمحيص.
لا نخفي حضور الحزبي والإيديولوجي الفج في نصوص السبعينيين الشعرية بشكل معيب، حَوَّلَ القصائد إلى منشورات وبيانات وبلاغات سياسية، غير أن هذا «الشعر» مات، بموت «الإيديولوجيا» الضيقة التي تغنت ب «المركزية الديمقراطية»، وتهييج المدرجات الجامعية، والساحات العمومية.
لكن السياسي المنصهر بالجمالي واللذين حققا النص الشعري السبعيني، وكتباه، لم يكن عيبا ولا مَثْلَبة يُرْمَى بها الشعر، أي شعر. فالسياسي، كعنصر بانٍ، كمُضْغَة كامنة في النص، ضرورة وحاجة ماسة، وتحصيل حاصل، لا يقوم الشعر الرفيع من دونه، إذ هو عمد وعامود، وصوت الذات وهي تواجه جحيم الواقع، وأنينها وهي تداس، وجوهرها وهو يشير ويرمز إلى الحلم الحافّ، والرفيف الآتي. يقول سعدي يوسف: «فالسياسي صار أكثر اتصالا بالمعرفة منه بالسياسة كحركة يومية، وصار هذا المفهوم المعرفي يقود النص ولكن من الداخل، أي الباطن، ويمكن اعتباره نهرا خفيا يجري تحت النص».
هو ذا «السياسي» الذي عيب به الشعر السبعيني كاملا، بينما هو رافد وأُسٌّ، ونسغ داخلي يغذي النص الشعري بالرؤية التي لا محيد عنها في التموقف من قضية أو مسألة، مهما صغرت القضية، وضؤل حجمها وقيمتها. ودربة الشاعر، ومِراسُه، وحذقه، ونباهته الشعرية، هو ما يرفع من قيمة النص الفنية، ويضفي عليها العذوبة والجمالية، ويجعل معناها لا معنى، غير مطواع للعابر المتعجل، قريب المأتى على تَأبّيهِ من القارئ الذكي، والناقد الألمعي. ولعل «السياسي» هو ما أعلى تجربة محمود درويش، وأدونيس، وسعدي يوسف، وصلاح عبد الصبور، ومحمد عفيفي مطر، وأوكتافيو باث، ولوركا، وماتشادو، ونيرودا، وناظم حكمت، وبورخيس، وبودلير، وطاغور، ونوفاليس، وهلدرلين، وريلكه، وتراكل، وهوغو، وشار، وأراغون، وإيلوار، وغيرهم كثير.
ولئن انتقل المعنى في الشعر الثمانيني إلى ما يتجاوز الدلالة، ويوقع في الحيرة والسؤال والإدهاش، وهي العناصر الضرورية لكل شعر وفي كل شعر، نشدانا للجمالي، وصونا لصوت الذات المكلومة، ونداء الأنا المتحشرج المطموس، ما أضفى غموضا بديعا على هذا الشعر، وكساه جمالا ضمن كتابة أخرى، كتابة مختلفة ومغايرة، فإن ذلك لم يكن ليحصل وليتأتى ـ وهذه سنة الحياة والتطور ـ لولا قدوم رياح حداثية إلى المغرب، هبت من الشام ومصر والعراق، تحمل ماء تنعش به اليباس، وهواء لرئة الإبداع لتتنفس هنيئا مريئا. أما هذه الرياح اللواقح، فهي وفرة الشعر الجديد، التجريبي على أكثر من صعيد، ووفرة البيانات والكتابات التنظيرية في الحداثة الإبداعية، وعن الحداثة. وإذن، فإلى جنب المهادات التي ساهم فيها الشعراء السبعينيون المغاربة والعرب، قامت البيانات التي دعت إلى التجديد في كل مناحي الحياة، بدورها في تفتيق الدهشة أكثر، وتفتيح العين على ما يلوح في الأفق القريب، والآفاق الإنسانية الكونية الأخرى، وشحذ اللغة شحذا صار معها الصوغ منحوتا، والشعر منعوتا، والجمالي منفوثا، والمعنى القريب الواضح، ملعونا وممقوتا. أي أن الثمانيين الحاذقين ـ وليس كل الثمانيين ـ سعوا إلى كتابة أخرى، كتابة «انقلابية» في بعض النماذج القليلة، بعثرت المعنى، وجنحت الدلالة، وأحدثت إبدالا ملموسا في لاَوَعْي النص من حيث إبعاده أو استبعاده للنماذج العليا، واحتضانه للهموم الحياتية، والقضايا الصغرى، والمبتذل اليومي. ما يعني أن الوظيفة الشعرية، أصبحت هاجسا رئيسا لدى الشعراء، تقتضي تكثيف اللغة، وشكلنة الصفحة، والتهليل للبياض وللسواد، وأسطرة الذات المتكلمة، خلف ما به تنصهر الذات بالإيقاع الخفي العام، والإيقاع الشخصي كدال يتحكم في بناء النص وهندسته، والذهاب به إلى أقصى البوح والصمت في آن.
لم يكتب للشعراء الثمانيين أن يحققوا هذا البعد في نصوصهم، ما خلا قلةً، أما الباقي، فدخل دوامة خلافية تأسست على الثرثرة العقيمة، والشعر السطحي الباهت، والعرضانية التخييلية الميتة، أو المشدودة إلى متخيل سبعيني أخفق هؤلاء في إخفائه ومواراته وطمسه.
إنها حساسية شعرية جديدة فيما يتصل بالحساسية التسعينية والألفية، لكنها حساسية ناستْ بين الرسوخية، والتذبذب، وبين التجريبية الموعى بها، والواعية والمتاهية التي تخبط فيها. لا نقول هذا انتصارا للقصيدة السبعينية، وتفضيلا لها. فليس هناك من تفاضل إلا ما حققته أسماه بعينها شعريا، إنْ في السبعينيات أو في الثمانينات أو ما بعدهما. ويمكن القول، استنادا إلى ذلك، بأن التجربة الشعرية المغربية بالتكثير، هي تجربة أسماء لا تجربة جيل غامض، جيل هلامي. وهو ما يفيد أن الشعرية الثمانينية، كما الشعرية السبعينية، كما الشعرية التسعينية، وهكذا… هي تجارب اسمية، يتفاوت فيها الشعراء، ويعلو فيها سهم على سهم. ولهذا السبب، فإننا نتحدث عن سبعينيين بالإسم، وستينيين كذلك، وثمانيين أيضا، أي عن تجارب شخصية، وأصوات خاصة، ونصوص مخصوصة. وهي التجارب الشعرية التي تتخطى التجييل والتحقيب، مستمرة بشعرها، نابضة بجمالها، مؤتلقة بمأتاها، متوهجة بدمها وتوقيعها الشخصي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى