منيبة الكيلاني - بين أدب المرأة وأدب الرجل (تتمة )

يقابل هذا من أدب الرجل في أبدع صورة وأبهى معانيه قول المعتمد بن عباد وقد حال حاله وتحالفت عليه صعاب الأمور وأخذته الأعادي من كل حدب وصوب ونصح له الناصحون أن يسايرهم ويخضع لهم فانبرى يقول:

قالوا الخضوع سياسة ... فليبدُ منك لهم خضوع

وألذ من طعم الخضوع ... على فمي السم النقيع

إن يستلب مني العدا ... ملكي وتسلمني الضلوع

فالقلب بين ضلوعه ... لم يسلم القلب الضلوع

لم أستلب شرف الطباع ... أيسلب الشرف الرفيع

شيمَ الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع

هذا الكلام الجميل من لغة التفاخر والعزة والأنفة وكبر النفس ولكنه مع هذا ليس من لغة الخصوصية السياسية وليس من لغة الحرب الشعراء التي تنطوي عليها عبارة (أنت أصغر في عيني من ذباب). هذا كلام حرب ذهبت في ساحتها هذه المرأة وهي تخط بدمها أن أدبها للعقل وأنه أصدق أنباء وأدق تعبيراً وأكثر صراحة.

ومما يقيم الحجة البالغة أيضا على أن أدب المرأة واقع صريح دقيق الأداء وانه للعقل وليس للعاطفة، فن المدح. فهذه ليلة الأخيلية ازدهارها وشدة باسه فراحت تؤيده وتصوره ابرع صورة فتقول:

إذا نزل الحجاج أرضاً سقيمة ... تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها

أحجاج لا تمط العصاة مناهم ... ولا الله يعطى للعصاة مناها

وبذلك خرج أدبها هذا عن كونه مدحاً يسبح فيه بسجايا الممدوح مما توفر أو لم يتوفر، أو مبالغات بعضها اخذ بأعناق بعض، أو كلاماً معقداً؛ أقول خرج إلى كلام على قدر المعنى قررت فيه خصيصه الحجاج وامتدحته في شطر واحد من بين فقالت: (غلام إذا هز الفتاة ثناها). ولم تقل كما قال المتنبي:

لم يخلق الرحمن مثل محمد ... أبدا وظني إنه لا يخلق

واعتقد أن هذا كلام ينطوي على لغة العاطفة وما تحتويه من مبالغات واضحة.

وللقارئ مقارنة أخرى بين شاعر وشاعرة فيها تعزيز جديد لصحة ما ذهبت إليه - من أن لغة المرأة في استنهاض الهمة وتحريك الروح الخامد أقوى آثرا، وأكثر صراحة، فهذه عفيرة بنت عفان تستنهض بكلام من الجمر ووابل من لحم إذ نقول:

وإن أنتم ولم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل

ودونكمو طيب العروس فإنما ... خلقتم لا ثواب العروس وللغسل

فبعداً وسقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشى بيننا مشية الفحل

وهذا لقيط بن يعمر الأيادي يحذر قومه أيضا ويستنهض هممهم بلغة متجاوبة المعاني فخمة الألفاظ إذ يقول:

قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا

ماذا يرد عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا

وليست السيدة زبيدة وحدها أو عفيرة بنت عفان أو ليلى الاخيلية آيات لإقامة الحجة على أدب المرأة صراح قراح، بل هناك غيرهن في أقوالهم الدفة في التعبير والصدق في الأنباء والشرف في المقصد؛ فقد كانت السيدة عتبة بنت عفيف الطائي أم حاتم كثيرة المال، مبسوطة اليد؛ فلما خشي اخوتها الفقر عليها حجروا مالها إلا قطعة من الإبل، فمنحتها سائلاً؛ وقالت:

لعمرك قدماً عضني الجوع عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً

فقولا لهذا اللائى اليوم أعفني ... وإن أنت لم تفعل فمض الأصابع

فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعاً

وماذا ترون اليوم إلا طبيعية ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا

ولما جئ بسفانة ابنة حاتم أسيرة للنبي صلى الله عليه وسلم انطلقت تقول له من أدب المرأة هذا المقال:

(يا محمد، هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب! فان أبى كان سيد قومه، يفك العاني ويقتل الجاني ويحمي الذمار ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشى السلام ويحمل الكل ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي).

ويكفى هذا الكلام إثباتا أنه من أدب العقل، وأنه الذروة في دقة التعبير وصدق الأنبياء. أن جواب النبي عليه كان:

(هذه صفات المؤمنين حقاً - خلوا عنها فأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق).

3 - الحلقات المفقودة في أدب المرأة

هنالك حلقات من الأدب توفرت في أدب الرجل وفقدت من أدب المرأة فقداً تاماً فجاء أدبها بهذا النقد أكثر نبلاً وأوفر فضلاً وأصدق فناً وليس بضمائرها أن يعري أدبها من هذه الحلقات وأن لا تعرفها عن أدب الرجل أشد الاختلاف، ذلك أن الرجل افرد في أدبه باباً للتحذير من المرأة والتنبيه على أنها شيطان رجيم. وتلمس أدب الرجل من هذا أفانين الكلام وضروبه فزور الأحاديث ونحت الأمثال ومنقصة لها من حيث بقى كلام المرأة صافياً لا تشوه أمثال هذه ألا كدار.

منها: (أوثق سلاح إبليس النساء). ومنها (النساء حبائل الشيطان) و (شاوروهن وخالفوهن). و (إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى افن وعزهن إلى وهن). لقد أراد أدب الرجل أن يصف المرأة بمثل هذه الأوصاف على لسان رسول الله وهذه الأوصاف وان كانت بعيدة عن الواقع ولا تصبر أبدا عل محك المنطق فأنها ابعد ما تكون عن بلاغة الرسول الكريم وما جاء في أحاديثه صلى الله عليه وسلم عن المرأة.

وعزز أدب الرجل هذه الجهة بان أورد على لسان أمير المؤمنين على كرم الله وجهه أن قال: لا تطيعوا النساء على حال، ولا تؤمنوهن على مال، ولا تذروهن يدبرن العيال. ولا دين لهن ولا عقل لهن. ينسين الخير ويحفظن الشر) الخ. . .

فإذا عرفنا أن الأمام عليه السلام أمير البيان - وأن نماذج كلامه البليغ مثبتة في تهج البلاغة، وهي ترتفع عن مثل هذا الشتم أمكن القول بأن هذا أدب من جملة الحلقات التي أراد الرجل أن يستكمل بها فنون القول مما انعدم في أدب المرأة وأنفت اللجوء إليه. وليس هذا فقط فقد جاء الرجل بما ينسبه إلى العقلاء والفلاسفة قد قالوا (لا تدع المرأة تضرب صبياً فانه اعقل منها). وأإن سقراط رأى امرأة تحمل ناراً فقال: نار تحمل ناراً، والحامل شر من المحمول).

هذه نماذج من أقوال الرجال تدون في كتب الأدب على أنها فن من فنوني، وعندي أنها فن من فنون المقراض والمثقب والمبرد لا لقل ولا أكثر مما لم يرد في أدب المرأة جميعه.

وليس هذا فقط بل جاء في هذا الضرب من الأدب كلام وجميع مؤلم؛ فقد قال أحدهم:

تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن ... جزوعاً إذا بانت فسوف تبين

وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لغيرك من خلانها ستلين

وخنها وإن كانت تفي لك أنها ... على مدد الأيام سوف تخون

وإن خلقت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين

يقابل هذا في أدب المرأة واحتشام وصمت واحترام، إذ هو حلقة مفقودة لديها لا تعرفه ولا تحسن صوغه ولا تتفن فنه، وذلك عندي يفوق كل تمام.

ولم يقتصر هذا اللون من الأدب على مهاجمة المرأة بالتهمة فقط، بل استهدف القضاء المبرم على خصائصها؛ فقد جاء على لسان شاعر الفلاسفة آبي العلاء المعري قوله:

علموهن الغزل والنسج ... وخلوا كتابه وقراءه

فإن صلاة الفتاة بالحمد ... والإخلاص تغنى عن يونس وبراءه

أن هذا فضلاً عن كونه وضعاً شاذاً فهو لون من الأدب بقيت المرأة تجهله وستجهله دائماً ما دامت قد خلقت لرسالة في الحياة سامية القصد رفيعة المجد، وكان عليها أن لا يتجسد عندها هذا الفرق لولا ما تفرغ عنه بالفعل، ومن هذا أن القرآن الكريم أباح النظر إلى وجه المرأة فصيروا وجهها عورة، وفرض عليه النقاب حتى أصبح عورة وحتى صوتها، وإن كان في قراءة القرآن، وتعدى الأمر إلى أكثر من هذا أيضا فاعتبروا اسمها عورة، وضرب عليها الذل والهوان إلى هذه الدرجة حتى أن المتنبي وهو من نعرف شعراً وأدباً عندما أراد أن يرثى خولة بنت سيف الدولة لم يستحسن أن يورد اسمها الذي كان عورة بل استبدله بوزنه فقال:

كأن مغلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكر ولم تخلع ولم تهب

هذا هو الذي حز في نفس المرأة كثيراً، فقد أزيحت من المجتمع وضربت عليها الذلة والمسكنة وباءت بغضب على غضب، وحيل بينها وبين ما يقوم حياتها وبذلك هزل أدبها وذبل كيانها وغاض معينها وضوح زرعها، ومع ذلك لم تشحذ من البقية الباقية أدبا استفزازياً أو سلاحاً انتقامياً، بل تجملت بالصبر الجميل، وتذرعت بأن البلوى حيناً وأن لديجور ليها انبلاجاً.

وإذا صح أن الشر يستشري ويتكاثر ويتضاعف وتتفرع منه فروع فان هذا الأدب قد استشرى وتكاثر فأورث الأدب العربي والأدباء نوعاً من الثبور كانوا عنه جميعاً في مأمن وغنى، فلم يعد الرجل يكتفي بواحدة من النساء ولم يعد يفهم من المرأة إلا أنها سائمة. وهذه أمثلة توضح ما جاءت به الحلقات من الأدب المفقودة في أدب المرأة من وبال على المرأة:

وضع أبو الحسن بن عبدون البغدادي التطبب رسالة ضافية الذيل يضيف فيها النساء أصنافا، صنفاً يصلح للخدمة وصنفاً لاحتمال الأذى وصفاً يموت عند الولادة وصفاً يقرع بالعصا قرءاً، والى غير ذلك مما اعتبر به المرأة حديقة حيوان يجب أن تدرس أوصافها على هذا السبيل المستغرب، وانبرى ابن عبدون هذا في كتابه رشيق العبارة شجاعاً كأنه فصل الخطاب في هذا الشتم المقذع حتى إذا انتهى حمد الله وأثنى عليه إذ وفقه إلى ذكر بعض خصائص النساء.

ومثل آخر، فقد خرج دعيل ومعه إعرابي ونبطي إلى موضع يقال له بطباثاً من أمصار متنزهين فأكلوا وشربوا

فقال دعبل: نلنا لذيذ العيش في بطياثا

فقال الأعرابي: لما حثثنا قحاً ثلاثاً

فقال النبطي: ومرآتي طالقة ثلاثا

وهكذا بلغ من استهتاره أن أضاع امرأته لأجل قافية!

هذه نماذج من أحوال المجتمع لما تفشى فيه أدب ليس للمرأة فيه نصيب، وهذه صور من الأدب المخطر الذي لم تأخذ المرأة بأسبابه فأضحى حلقات مفقودة في أدبها، وهو في حد ذاته نقص يفوق كل تمام، وهو البرهان الأكبر على أن للمرأة أدبا غير أدب الرجل وعلى ان أدبها للعقل.

منيبة الكيلاني


مجلة الرسالة - العدد 728
بتاريخ: 16 - 06 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى