السيد يعقوب بكر - رأي جديد في حماد الراوية -6- (تتمة)

وأما قصة حماد مع الطرماح بن حكيم، فقد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة. فنحن لا نملك تصديقها أو تكذيبها. ولكننا نضع بين يدي القارئ ما يقوله الجاحظ (البيان والتبيين، ج1 ص54) في الطرماح بن حكيم: (ولم ير الناس أعجب حالا من الكميت عدنانياً عصبياً، وكان الطرماح قحطانياً عصبياً. . . وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح لأهل الشام. . .). ومعنى ما يقوله الجاحظ أن الطرماح كان يتعصب على أهل الكوفة وكان حماد كوفيّاً.

وأما قصة حماد مع بلال بن أبي بُردة وذي الرمّة فلا تنصّ على أن حماداً ادعى الشعر لنفسه، وهو الشعر الذي مدح به بلال بل إنها تذكر أن حماداً نسبه إلى بعض شعراء الجاهلية. وهو شعر لا يرويه غير حماد، وكان يستطيع نسبته إلى نفسه لو أراد. وليس بغريب أن يمدح حماد بلال بن أبي بردة بشعر لم يقله

وأما قصة حماد مع بلال بن أبي بُرْدة حين أنشده قصيدة الحطيئة، فقد لا تدل على انتحال حماد. ويؤيد هذا ما يقوله صاحب الأغاني معقباً على هذه القصة (ج 2 ص51): (وذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشاً للغزو. . فوصله أبو موسى، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يلومه على ذلك، فكتب إليه: إني اشتريت عرضي منه بها، فكتب إليه عمر: إن كان هذا هكذا وإنما فديت عرضك من لسانه ولم تعطه للمدح والفخر، فقد أحسنت). ونجد كلاماً قريباً من هذا في الأغاني أيضاً (ج 11ص 29). هذا إلى أنه لا يصح من مثل بلال بن أبي بردة ما تنسبه إليه القصة من أنه قال: ولكن دعها تذهب في الناس؛ فهو حفيد أبي موسى الأشعري، وهو قاض وأمير. يقول الجاحظ في البيان والتبيين (ج1 ص238): (وولى منبر البصرة أربعة من القضاة، فكانوا قضاء أمراء: بلال. وسوار، وعبيد الله، وأحمد بن رباح. وكان بلال قاضياً بن قاض بن قاض، وقال رؤية:

فأنت يا ابن القاضيين قاض ... معتزم على الطريق ماض

وأخيراً نصل إلى الخبرين اللذين يوردهما السيوطي في المزهر. وأول هذين الخبرين ما يرويه أبو عمرو بن سعيد بن وهب الثقفي من أنه سأل حماد أن يملي علية قصيدة لأخواله بني سعد بن مالك، فأملى عليه حماد شعراً نسبه إلى طرفة وهو لأعشى همدان. والخبر الثاني ما يرويه سعيد بن هريم البرجمي عمن يثق به من أن أعرابياً أنشد حماداً قصيدة لم تعرف ولم يدر لمن هي، فاختلفت الأقوال في قائلها، فقال حماد: اجعلوها لطرفة. وكلا الخبرين في المزهر وحده، لم نقف

عليه في كتاب آخر. هذا إلى أن السيوطي متأخر. وفي هذا كله تجريح لكلا الخبرين. وقد يبدو لنا الخبر الأول صحيحاً حين نعلم أن حماداً بكريّ الولاء، وأن طرفة شاعر بكريّ، وأن حماداً لهذا قد ينسب إليه ما لم يقله. ولكننا نعود فنسأل: ماذا حدا بأبي عمرو بن سعيد، وخؤولته في بني سعد ابن مالك المتحدرين من بكر بن وائل، إلى أن يفضح أمر حماد صديقه وشريكه في هوى بكر، وإلى ألا يسكت عليه حين ينسب شعراً إلى طرفة، وهو بكري، بل من بني سعد بن مالك؟ ثم إننا نعود فنسأل أيضاً: كيف ينسب حماد إلى طرفة شعراً يعرف أبو عمرو بن سعيد وغير أبي عمرو بن سعيد أنه لأعشى همدان؟ وهل هذه هي حال حماد، الذي كان يخفي انتحاله، فيما يقول المفضل الضبي إلا على العالم الناقد؟

وأما الخبر الثاني فقد يبدو صحيحا أيضاً؛ لأن حماداً، وهو بكري الهوى؛ نسب ما رواه الأعرابي إلى طرفة دون غيره وهو شاعر بكري. ولكننا نقول إن سعيد بن هريم البرجمي لم يصرح باسم من حدثه هذا الحديث، وفي هذا تجريح لروايته. ونقول أيضاً إن سياق القصة يوحي بأن القوم كانوا مختلفين فيمن يمكن أن يقول هذا الشعر من الشعراء الجاهليين، وأن حمادا حين جعل الشعر لطرفة كان يرى أن هذا الشعر يتفق ومذهب طرفة. فالقصة إذن، إذ صحت، لا تدل على انتحال حماد أصلا، ولكن تدل على نوع من التحقيق كان يقوم به حماد ومن معه، نوع من التحقيق يتناول مذاهب الشعراء الأقدمين وأساليبهم في صوغ الشعر لينتهي من ذلك إلى نسبة ما رواه الأعرابي إلى من قد يصح صدوره عنه.

3 - تمحيص رواية ابن عبد ربه

يذكر ابن عبد ربه أن حماداً كان يقول: ما من شاعر إلا قد حققت في شعره أبياتاً فجازت عنه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قط غير بيت وهو:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وأقول: هذه رواية لم ترد إلا في كتاب ابن عبد ربه؛ وما كان أجدرها، إن كانت صحيحة، أن ترد في غيره من الكتب، ولا سيما كتب المشارق. ثم أقول: وهناك رواية أخرى تقول إن أبا عمرو بن العلاء هو الذي وضع ذلك البيت على الأعشى، وإن شهد على نفسه بذلك. فهنا إذن روايتان، تعارض كل منهما الأخرى.

فقد محصنا إذن تلك الأقوال والأخبار التي توردها كتب القدماء في صدد انتحال حماد، وانتهينا إلى أنها تقوم دليلا على أن حماداً كان بالغ الانتحال وكنا قدمنا لهذا التمحيص بأدلة عقلية ونقلية توحي بأن حماداً لم يكن بالغ الانتحال كذلك. وهكذا يكون قد استقام لنا التدليل على رأينا في انتحال حماد، من أنه لم يبلغ ذلك المدى الذي تصفه لنا كتب القدماء؛ ومن أن ما صح منه كان صدى لحال الرواية في عصر حماد واستجابة لنوازعها، فإن حماداً لم يكن مشغوفاً بالانتحال عاكفاً عليه جاعلا له همه وقصده.

6 - ما سر التحامل على حماد:

قدمنا في صدد الكلام عن حياة حماد أنه كان ماجناً فاسقاً مستهتراً. ونقول هنا إن هذا بعض ما دعا القدماء إلى الشك في روايته، وإلى اتهامه بالانتحال. يقول السيوطي في المزهر (ج 1ص19): (ويؤخذ من هذا أن العربي الذي يحتج بقوله لا يشترط فيه العدالة، بخلاف راوي الأشعار واللغات). ومعنى هذا أن راوي الأشعار واللغات يجب أن يكون عدلاً، وإلا رفضت روايته. وحماد لم يكن عدلاً، لأنه كان ماجناً فاسقاً مستهتراً.

وأما تحامل المعاصرين له عليه، وطعنهم في روايته، فهما مظهر من مظاهر الحسد والغيرة. فقد كان كثير الرواية، بل كان أحفظ الجميع، وكان لا يسأل عن شيء إلا عرفه. فلم يجد معاصروه مطعنا في روايته من نقص وقصور، ولم يمكنهم اتهامه بقلة الرواية؛ فزعموا أن روايته غير صحيحة. وأنا أحب أن أنبه إلى أن هذه حال المتعاصرين من العلماء في كل الأزمان والأقطار. والشواهد على هذا كثيرة في أيامنا هذه. فقد ينفس الناس على أديب عبقريته، فيرمونه بالكفر والمروق، وقد ينفسون على كاتب إنتاجه الكثير، فيزعمون أنه إنما ينقل عن الغربيين. هذا وذاك نسمعه في عصرنا هذا، وهو عصر مثل باقي العصور، حاله حالها وناسه ناسها. واستمعْ إلى السيوطي وهو يقول (ج 2ص204): (وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفانه ويناوئانه (الكلام عن الأصمعي) كما يناوئهما، فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية ولا يذكره بالتزيّد). فهذه حال أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي، وهي حال ككل الأحوال، لها نظائر في كل العصور.

7 - خاتمة

هذه هو حماد كما طالعنا به البحث الطويل، وهذا هو رأيي فيه وفي روايته. وهو دون ريب من اعظم رجال الرواية العربية، ولا سيما رواية الشعر. ولئن كان قد طال الطعن عليه وعلى روايته، فقد آن لنا أن نحييه ونحيّي روايته.

ولكني لا أترك القلم قبل أن أهدي هذا البحث إلى أستاذي الجليل الدكتور طه حسين بك، وقبل أن أسأله رأيه في مقدماته ونتائجه. وأنا أرجو أن يكون رأيه فيّ حسناً؟ إني إذاً لسعيدُ.

السيد يعقوب بكر


مجلة الرسالة - العدد 652
بتاريخ: 31 - 12 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى