إبراهيم الخطيب - التهامي الوزاني ومحمد برادة ملامح تجربتهما القاهرية

كانا في القاهرة، في شهر يونيو 1957. أحدهما هو التهامي الوزاني (1903-1972) الذي حل بالعاصمة المصرية في طريقه لأداء مناسك الحج، والثاني محمد برادة (1938) الذي كان يتابع دراساته بها منذ سنة 1955، لكنهما لم يلتقيا. بيد أن التجربة القاهرية التي عاشاها تركت بصماتها في نصين لهما: فقد كتب التهامي الوزاني انطباعاته في مخطوط « الرحلة الخاطفة » الذي دونه عقب عودته إلى تطوان، واستغرقت عملية التدوين عاما كاملا: من أكتوبر 1957 إلى أكتوبر 1958. ظل المخطوط محفوظا لدى قسم الوثائق بالخزانة العامة بتطوان. وعندما تم رقنه ، طلبت من محمد برادة وضع مقدمة له ظنا مني أنه يمكن أن يكون قد التقى التهامي الوزاني في القاهرة أثناء زيارة هذا الأخير التي استغرقت أسبوعا واحدا فقط.
في مقابل « الرحلة الخاطفة » (جمعية تطاون- أسمير 2013 ) هناك كتاب محمد برادة « مثل صيف لن يتكرر » (الفنك 1999) الذي كتبه على شكل محكيات وجعل قرينه المتخيل (حماد) وذكرياته مركز هذه المحكيات. وخلافا للتهامي الوزاني، الذي يمكن تصنيف مؤلفه ضمن خانة نوع الرحلة كما هو متعارف عليه تقليديا، جعل برادة من كتابه سرودا لذكرياته ومراجعات لها، وهو ما يوحي للقارئ بأنه لم يُكتب دفعة واحدة، كما فعل مؤلف « الزاوية »، وإنما كتب على مراحل متباعدة. لكن ما يلفت الانتباه في المؤلَّفين هو تشابه اهتمامات كاتبيهما بفضاء القاهرة ومختلف مكوناته، وأحيانا تقابلها (كما سنرى على الصعيد الوجداني)، وذلك ما سنقوم باستعراضه في هذه القراءة المزدوجة.
شكلت الدارجة المصرية عنصر اهتمام مشتركا بين الكاتبين، رغم وجود فروق في ملامح هذا الاهتمام. ففيما يعترف محمد برادة بأن حياته الثانية في القاهرة « خرجت إلى الوجود بفعل انجذابها للغة الكلام المصرية، المختلفة، المليئة بالسحر والاستعارات، والقدرة على تملك المعيش من خلال عبارات سريعة، نافذة » (ص45 و 46)، نلاحظ أن التهامي الوزاني أبرز أن أصدقاءه في المغرب لم يكونوا مطمئنين إلى قدرته على فهم العامية المصرية، والتخاطب بها. لكنه لم يفتأ أن أدرك، وهو يصغي إلى المتحدثين بها، أن قربها من اللغة العربية واضح خاصة بعد تطورها وتخليها عن بعض مخلفات اللغة التركية، وانتشارها بواسطة الأفلام والأغاني. في هذا السياق يستشهد الوزاني بالذيوع الكبير الذي عرفته، أيام زيارته القاهرية، أغنية فايزة أحمد « يا امّا القمر ع الباب » حيث لاحظ أن « كلماتها لا تختلف عن الفصحى في شيء، سوى تغييرات بسيطة، مثل الاقتصار من كلمة (على) على خصوص (ع) و(من) على خصوص (م) » (ص28).
عندما زار التهامي الوزاني القاهرة، كان هناك طلبة مغاربة يتابعون دراساتهم العليا: بعضهم جاء من الشمال، أي منطقة الحماية الإسبانية، وبعضهم جاء من الجنوب، أي منطقة الحماية الفرنسية. يشير برادة في « مثل صيف لن يتكرر » إلى الطائفتين على النحو التالي: « بين المراكشيين (أي المغاربة) كتلتان متمايزتان: وافدون من شمال المغرب، ملتفون حول شاعر وقصاص، سليل الشرفاء، معتد بنفسه ويتصرف كزعيم لأصدقائه الشماليين. والآخرون من مناطق الجنوب، معظهم ينتمون إلى حزب الاستقلال أو يتعاطفون معه. لم تكن هناك مواجهة شرسة بين الفريقين، وإنما نوع من المنافسة، يغذيها الاعتزاز بالانتماء إلى المنطقة التي أنجبت محمد بن عبد الكريم الخطابي». زعيم الثورة الريفية كان مقيما بالقاهرة في ذلك الوقت، ومنذ سنة 1947.
يبدو أن التهامي الوزاني لم يلتق الطلبة الجنوبيين، واكتفى بلقاء الطلبة الشماليين (الذين كان أحدهم، وهو محمد مولاطو (1935-2002)، دليله أثناء جولاته القاهرية) في مقر طلبة شمال إفريقيا حيث حاورهم وناقشهم حول أوضاع المغرب بعيد الاستقلال، منبها إياهم إلى نزوع الإدارة المغربية إلى فرنسة الجهاز الإداري وإعطاء اللغة الفرنسية المكانة الأولى. وكان مما يثير الانتباه، في هذا الصدد، هو ما أجاب به مؤلف « الزاوية» بعض الطلبة حول مسألة اللغات، حيث قال: « إن أشد اللغات الأجنبية ارتباطا بالحياة هي اللغة الإنجليزية، لغة الأمريكيين الذين سيطروا على الغرب برمته. أما اللغة الفرنسية فقد فقدت حيويتها، بل أخذت تستعين بالإنجليزية لمواجهة منجزات العصر »(ص74).
لم يكن مؤلف « مثل صيف لن يتكرر » سنة 1957 كاتبا بل مشروع كاتب « يحاول كتابة القصة والشعر »(ص53). أما التهامي الوزاني فكانت قد صدرت له منذ مدة عدة كتب : « تاريخ المغرب » ( وهو في ثلاثة أجزاء، وصدر سنة 1943) و « الزاوية » (1942) و « سليل الثقلين » (1950) فضلا عن كتبه الأخرى التي نـُشرت مسلسلة على صفحات جريدة « الريف »(1936-1953) مثل « طفولة النبي » و« تاريخ العرائش والقصر الكبير » و « فوق الصهوات » إلخ. من جهة أخرى، لم يكن برادة على اتصال وثيق بالطلبة الشماليين، لكنه كان يعلم بوجود كاتب بينهم أشار إليه كـ « شاعر وقصاص » واستشهد بمطلع قصيدة تحريضية له ضد فرنسا (ص36 ) دون أن يذكر اسمه هو أحمد عبد السلام البقالي (1932-2010)، الذي كانت قد صدرت له بالقاهرة عن (المطبعة العالمية) مجموعة قصصية هي « قصص من المغرب » سبق أن فازت سنة 1955 بجائزة المغرب للقصة. ويبدو أن وصف برادة له بكونه كان يتصرف كـ « زعيم » لأصدقائه الشماليين ناتج، ربما، عن شعوره بأن البقالي لم يكن طالبا مثل زملائه فقط، بل كان كاتبا لا يخلو وضعه الاعتباري، بسبب نشر كتاباته، من سلطة معنوية. أشير هنا، على نحو عابر، إلى أن البقالي وجد في زيارة التهامي الوزاني للقاهرة مناسبة لإهدائه نسخة من مجموعته القصصية المذكورة، حيث كتب في صفحتها الداخلية يقول: « إلى أستاذي الكبير التهامي الوزاني ، تقديرا لأدبه، وإجلالا لعلمه. 19/6/1957».
يبدو من كتابي برادة و الوزاني أنهما كانا مهتمين بالسينما وممثليها. ويقول مؤلف « مثل صيف لن يتكرر » أنه اكتشف السينما في فاس عندما كان ابن خالته يصحبه معه إلى سينما « باب بوجلود » لمشاهدة الأفلام المصرية. أما في القاهرة فيروي بأن (حماد) بدأ في صيف 1956 يتردد على قاعتي ريفولي والأوبرا وخاصة أثناء العروض الأولى للأفلام التي يحضر فيها أبطالها. أما التهامي الوزاني فيروي في « الرحلة الخاطفة » أنه، بعد عودته من زيارة الضريح الحسيني، ركب الحافلة رقم 18. وأثناء وقوف الحافلة في محطتها الأولى « صعد أقوام بينهم شخص يلبس بذلة كاكية شديدة النظافة. يكاد يكون نحيفا، وليس بالنحيف. وخطه الشيب، وليل شعره أطول من نهاره. رفعت رأسي إليه فإذا هو عبد الوارث عسر الذي شاهدناه في أكثر من خمسين فيلما، لكنه يطفح نشاطا وقوة بخلافه في التمثيل السينمائي » (ص55). ومثلما تذكر برادة سينما « باب بوجلود » بفاس، استحضر التهامي الوزاني «سينما المنصور » بتطوان، والأفلام المصرية الذي كانت تعرض به، كما تذكر كيف حظر (الباشا أشعاش) على نساء تطوان، في الأربعينات، ارتياد السينما، الأمر الذي دفع مثقفي تطوان الحداثيين إلى السعي لملاقاة الصدر الأعظم في المنطقة الخليفية يلتمسون منه التدخل لإلغاء هذا الشطط الذي لا مبرر له.
كان محمد برادة وزملاؤه من الطلبة الجنوبيين « المنتمين إلى حزب الاستقلال أو المتعاطفين معه »، متعودين على زيارة علال الفاسي في بيته بمصر الجديدة حيث كان يقدم لهم الشاي والحلويات ويحدثهم عن تخوفاته وتحفظاته فيما يتصل باستقلال المغرب (ص 43). أما التهامي الوزاني، فقد التقى الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي في زيارة خاصة بمعية سفير المغرب بالقاهرة آنذاك السيد عبد الخالق الطريس (1910- 1970) حيث تناولا طعام الغذاء معه. أثناء ذلك دار حوار صريح بين الرجلين كانت الغاية منه إقناع الأمير بالعودة إلى المغرب، لكن تخلله نقاش حول الوضع الراهن إذ ذاك في هذا البلد لم يكن يخلو من حدة، خاصة وأن زعيم الريف لم يتفهم قبول المغرب استقلاله بصورة منفردة، فيما كانت الجزائر ما تزال تخوض حرب مقاومة ضروسا ضد محتليها الفرنسيين.
عندما كان محمد برادة أو قرينه المتخيل (حماد) يتيهان في الشوارع الخلفية للقاهرة المعزية، فإنه كان يتذكر، في نفس الوقت، مشاهد مشابهة عاينها عندما كان ينطلق عبر أزقة فاس القديمة وأسواقها ودروبها متأملا « لعبة الظلال والألوان، وفسيفساء المضاءات المتسللة عبر السقوف والكوى وأبواب الدكاكين المفتوحة أفقيا » (ص24)، أما التهامي الوزاني فاستعمل معرفته بمجالي التاريخ والمعمار، وعمل على المقارنة بين القاهرة القديمة وفاس « الإدريسية » مستنتجا من ذلك أن تاريخ إنشاء فاس قد يكون متقدما على تشييد القاهرة بفترة طويلة من الزمان، وأنه تم في تخطيط القاهرة تلافي بعض الأخطاء التي وقعت في تخطيط فاس. ذلك أنه « حين عزم العرب بناء حي الأزهر والمشهد الحسيني، لاحظوا أن دكاكين فاس ودروبها ضيقة، فوسعوا من حوانيت وأزقة الحي الأزهري» (ص18). أشار التهامي الوزاني أيضا إلى أبواب الدكاكين الأفقية التي لاحظ وجودها في فاس والقاهرة المعزية وحي الخرازين بتطوان، مضيفا أن هذه الأبواب وُجدت لها نظائر في أسواق المدن الإسلامية بالأندلس.
لاحظ محمد برادة أن قرينه (حماد)، إذا كان لم يحضر حدث استقلال المغرب، فإنه كان حاضرا في بور سعيد عندما أعلن جمال عبد الناصر، يوم 26 يونيو 1956، تأميم قناة السويس الذي ستمكن مداخيله الدولة من تشييد السد العالي، وأن نشوة الإعلان تواصلت بضعة أسابيع، إلى أن حل ما كان متوقعا، وهو الهجوم الثلاثي الذي بدأ بعدوان إسرائيلي على سيناء في 29 أكتوبر، ثم تلاه عدوان فرنسي وإنجليزي يوم 5 نوفمبر. في ذلك الوقت كان محمد برادة متحمسا للتجربة الناصرية، وأهدافها الإيجابية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، لكنه، بعد هزيمة 1967، سيقوم بمراجعة العديد من مواقفه حيالها وخاصة على صعيد حرية التعبير التي كانت تقابل بعنف شرس ضد المعارضين، وحرص من أجهزة النظام الإعلامية على بث الأوهام، بدل مواجهة الحقائق. التهامي الوزاني كان بدوره متحمسا للتجربة الناصرية في منحاها القومي « المعادي للرجعية ». في هذا السياق ثمّن، أثناء معاينته لمدينة القاهرة، الإصلاحات التي مسّت بنيتها التحتية، بما في ذلك « المجمع الإداري » الضخم. فضلا عن إعجابه بما شُيد حول النيل من عمارات شاهقة « ناطحة للسحاب »، وحواجز ضد فيضان النهر. لكنه، إلى جانب ذلك، انتقد حل الأحزاب وما نتج عنه من انصراف الناس عن الاهتمام بالشؤون العامة، كما انتقد اضطهاد الإخوان المسلمين، وإن عاتب هؤلاء على تدخلهم في شؤون السياسة وانصرافهم عن ممارسة دورهم الأخلاقي والتوعوي. لم يكن التهامي الوزاني حاضرا، كما هو واضح من تاريخ الزيارة، أيام العدوان الثلاثي، لكن وجوده بالقاهرة، بعيد مرور بضعة شهور على وضع الحرب أوزارها، مكنته من تبين بعض انعكاسات هذه الحرب، حيث لاحظ حركة غير عادية للجيش في محيط (متحف القلعة)، ونصب خيام كثيرة لإيواء الجنود، كما لاحظ تزايد نشاط السفارة السوفياتية كانعكاس للموقف الصارم الذي وقفته روسيا السوفياتية من الدول المعتدية على مصر، فضلا عن تضخم جهاز المخابرات الذي كان يترصد أنشطة السفارات والهيآت الأجنبية، ويطارد المثقفين الشيوعيين.
بقي أن نشير إلى الميولات الوجدانية لدى الكاتبين كما تجلت إبان إقامتهما القاهرية. فعند حلول التهامي الوزاني بالمدينة كان عمر محمد برادة لا يتجاوز السبعة عشر عاما، فيما كان هو في الرابعة والخمسين، وهو ما يعني أن اهتماماتهما الوجدانية ستكون لا محالة مختلفة. هكذا كان التهامي الوزاني، طيلة زيارته، متطلعا إلى ارتياد المساجد، والأضرحة (الضريح الحسيني، مثلا)، والإصغاء إلى أصوات المؤذنين، وقارئي القرآن، والاحتماء بمشاعره الصوفية العميقة من الإفراط في الانحياز إلى ما هو ضحل عابر من مغريات الحياة اليومية. في مقابل ذلك، نجد أن محمد برادة، ربما بسبب عامل السن، كان منجذبا، من الناحية الوجدانية، إلى معرفة المرأة في مختلف تجلياتها: يتذكر في« مثل صيف لن يتكرر» مغامرته الأولى مع (فوزية)، صديقة الطالب (نبيه) الذي غادر القاهرة إلى فرنسا لمتابعة دراسته، وكيف انجذب إلى سحر عينيها الحزينتين ووجهها الأسمر (ص28) وحديثها الذي سرعان ما تحول إلى تشابك للأيدي، قبل الانصياع إلى خبرتها وتجربتها اللتين مكنتاه من « معرفة مكامن الجسد ونقطه الحساسة » (ص29)، كما يتذكر حدث ولوجه لأول مرة إلى ملهى ليلي به راقصات (ص90) وكيف ذهل لمرأى راقصة وهي « تتلوى وتبتسم وتبرز قدرات جسدها » (ص91) على إثارة مشاعر الحضور المتحلقين حولها. غير أن الغاية من هذا المنحى الوجداني في علاقات برادة النسائية لم تكن الفضول والجري وراء الاستيهامات فقط، وإنما كانت أيضا رغبة روحية من أجل فهم الآخر و«استبطان رغائبه في خلق علائق تعلو على ما يبدو واقعا مكرورا».
يبقى أن أضيف إلى أن الفرق بين نصي « الرحلة الخاطفة » و « مثل صيف لن يتكرر » لا يعود فقط إلى تاريخ الكتابة والنشر (1957، 1999) وإنما إلى الغاية منهما. فالتهامي الوزاني لم يكن يريد من نصه سوى أن يكون وصفا أمينا لرحلة قصيرة ولما شاهده وسمعه وشعر به وهو يتجول في القاهرة، أما محمد برادة، الذي يبدو، كما قلت، أنه كتب نصه على مراحل، فقد كانت غايته من محكياته التعبير بعمق عن تأثيرهذه المدينة ومخيالها في وجدانه الذي نضج مع مرور السنين ( من الخمسينات إلى التسعينات)، كما نلاحظ أن هذه المحكيات، في مستوى آخر، صاغت هواه الأدبي إلى مصر التي غدت اليوم جزءا لا يتجزأ من ذاكرته، وتاريخه الثقافي، اللذين شكلا شخصيته التي تنحو منحى التحرر من ضيق الهويات، وتستبطن قيمها الخاصة عبر المغامرة والجرأة والسخرية واجتراح الممكن إلى منتهاه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى