عبد القادر وساط - دردشة مع أبي الأسود الدُّؤَلي

قال لي دليلي ونحن نتمشى، في بداية الحُلم، في زقاق ضيق من أزقة البصرة، بينما الشمس قد جنحت للمغيب:
- هل تَعرف شخصا اسْمه ظالم بن عمرو بن سفيان؟
ودون أن ينتظر إجابتي واصلَ قائلا :
- إنه أبو الأسود الدُّؤَلي، ونحن الآن في طريقنا إليه...
أحسستُ بغبطة لا توصف، وقلت لنفسي: ها أنذا أخيرا أحظى بمجالسة الرجل الذي وضعَ النقط على الحروف....
لم تمض دقائق قليلة - بزمن الحُلم- حتى بلغنا بيتَ الشيخ أبي الأسود. كان هو واقفا في انتظارنا، رغم علوِّ سنّه. كان بيته بسيطا للغاية. وقد لاحظتُ ونحن ندلف إلى داخله وجودَ حجارة كثيرة في فنائه، ولما سألتُ الشيخ عن سبب ذلك أجابني قائلا:
- إنهم بنو قُشَيْر، جيراني، يرجمونني في الليل فإذا أصبحتُ وذكرتُ لهم ذلك قالوا:( الله هو الذي يرجمك) فأقول لهم: ( تَكذبون، لو رجَمني الله لأصابني وأنتم تَرجمون ولا تُصيبون...)
إثر ذلك دعانا أبو الأسود إلى الجلوس في غرفة رحبة بالداخل، على حشايا ناعمة، ذات ألوان متناسقة. ولاحظتُ عندئذ أن الشيخ ما زال خفيف الحركة، رغم أنه جاوز الثمانين... سألته قائلا:
- يا شيخنا، لمَ يرجمك بنو قشير؟ ألأنك وصفتَهم بالأرذلين في بعض شعرك؟
- قاتلهم الله، إنهم يرجمونني لأنني من المتحققين بمحبة عَلي بن أبي طالب... وقد شهدتُ معه الجمل وصفّين ومختلف المواقع...
قلتُ مستغربا:
- وكيف يفعل بك جيرانك ما يفعلون، وقد أجمعَ الناسُ على أنك حكيم أديب وداهية أريب؟ وهذا أبو عثمان الجاحظ يقول عنك في كتاب البيان والتبيين بأنك جمعتَ شدةَ العقل وصوابَ الرأي وجودةَ اللسان والظرف وقول الشعر... كما تحدثَ عنك أبو الفرج الفرج الأصبهاني في الأغاني بقوله: (كان شيخَ العلم وفقيه الناس وصاحبَ عليّ بن أبي طالب وخليفة عبد الله بن عباس على البصرة)... ووصفك الآمدي في كتاب المؤتلف والمختلف بأنك (حليم حازم وشاعر متقن للمعاني...)
وعند هذا الحد تدخل الدليل قائلا:
- دعك من هذا أيها الحالم، ولننتقل إلى ما هو أكثر أهمية، فالشيخ أمد الله في عمره هو أول من نقط المصاحفَ، ولم تكن النقط معروفة قبله، فانظر أية خدمة عظيمة أسدى للناس من بعده. كما أنه أول من أسس قواعد اللغة العربية وأرسى مناهجها ووضعَ قياسَها...
وعنّ لي عندئذ أن أعابث الشيخ، وهذه عادة درجتُ عليها في الأحلام، فقلت للدليل مبتسما:
- نعم يا أخي، إن أبا الأسود يُعَدُّ في التابعين والمحَدّثين والشعراء والنحويين ولكنه يُعَدُّ أيضا في البخلاء...
فلما سمع الشيخُ كلامي شرعَ في الضحك ، ثم اقترب مني ووضع يده اليمنى على كتفي وقال لي:
- وأعَدُّ كذلك في العُرْج والمَفاليج...
ثم اكتست نبراتُه بعض الجدية وهو يضيف قائلا:
- أيها الحالم، أنا لم أكن بخيلا ولكنني كنت دائما أدعو إلى عدم المبالغة في الجود... وقد قلتُ في وصيتي لأولادي: ( لا تُجاودوا اللهَ، فإنه أجْوَد وأنْجَد، ولو شاءَ أنْ يُوَسِّعَ على الناس كلهمْ حتى لا يَكُون محْتاجٌ لَفَعَل...) فهل أنا مخطئ فيما ذهبتُ إليه؟
قلت:
- يا أبا الأسود،أنت تقول في إحدى قصائدك:
( لا يَكُنْ بَرْقُك بَرْقاً خُلّباً = إنّ خَيْرَ البرق ما الغيْثُ مَعَهْ)..

ولكنّ برقك يا شيخنا كان خُلّبا فيما يتصل بالعطاء...
فأطرق الشيخ ولم يجبني وأشار إلي الدليل بتغيير وجهة الحديث، فعَنَّ لي من جديد أن أمازح الشيخ، فتوجهت إليه قائلا:
- جاء في كتاب الأشباه والنظائر أنك أحببتَ امرأة نصرانية زرقاء العينين، كنْيَتها أم خالد، فلما عاب عليك الناسُ ذلك أنشأتَ قصيدة تقول فيها:
يَقُولون : نَصْرانيةٌ أمُّ خالد = فقلتُ: ذَرُوها، كُلُّ نفْس ودِينُها
فإنْ تَكُ نصرانيةً أمُّ خالد = فإنّ لها وجهاً جميلا يَزينُها
ولا عيبَ فيها غير زرْقة عينها = كذاك عتاقُ الطير زُرْقٌ عيونُها

وعند هذا الحد، نهض الدليل وقبل رأس أبي الأسود وهو يقول: ( لله أنت يا أبا الأسود، ما أجمل وأرق هذا الشعر !)... كان الحلم قد بلغ نهايته، فاختفى المنزل واختفى أبو الأسود واختفى الدليل، ولم أعد أسمع سوى صوت قادم من مكان خفي، ينشد بصوت رخيم:
يَقُولون : نصرانيةٌ أمُّ خالد = فقلتُ: ذَرُوها، كلُّ نفسٍ ودِينُها


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى