أديب عباسي - علم النفس والتربية والأخلاق عند إخوان الصفا

فلسفة اللذة والألم - كيف تحس وكيف تتجمع التذكارات في الدماغ غاية التربية - الطفل صحيفة بيضاء - واجبات المتعلم والمعلم - فعل البيئة - الوظيفة بحسب الاستعداد. . . منشأ الأخلاق التساهل - أسباب التعصب - فوائد التعصب - الدين العملي - اختبار الأصدقاء. . .

في رأي الأخوان أن الحيوانات في اكثر الأحيان تحس باللذة والألم (لأن أبدانها مركبة من الأمهات الأربعة ذات الطباع المتضادة: وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وهي دائمة التغيير والاستحالة والزيادة والنقصان. فهي تخرج المزاج تارة من الاعتدال إلى الزيادة في أحد الأخلاط والطباع، أو إلى النقصان في واحد منها. واللذة هي رجوع المزاج إلى الاعتدال بعد أن يكون خارجا عنه. فمن أجل هذا لا يحس الحيوان باللذة إلا بعد أن يتقدمها ألم. وكل محسوس يخرج المزاج عن الاعتدال فأن الحاسة تكرهه. وكل محسوس يرد المزاج إلى الاعتدال فأن الحاسة تحبه)

تأمل هذه الأفكار فأن لها - على سذاجتها - حظاً كبيراً من الصدق والإصابة.

أما كيف تصل المحسوسات إلى الدماغ فهو انه ينتشر في مقدم الدماغ عصبات لطيفة لينة، وتتصل بأصول الحواس وتتفرق هناك وتنسج في أجزاء جرم الدماغ كنسيج العنكبوت. فإذا باشرت كيفية المحسوسات من أجزاء الحواس، وتغير مزاج الحواس عندها وغيرتها عن كيفياتها، وصل ذلك التغيير في تلك الأعصاب التي في مقدم الدماغ فتتجمع كلها عند المخيلة كما تتجمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة الذي يوصل تلك الرسائل كلها إلى حضرة الملك. ثم ان الملك يقرأها ويفهم معناها ثم يؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار.

هذا رأي الأخوان في تفسير الإحساس واختزان التذكارات في الدماغ. وللقارئ أن يتناول كتابا في علم النفس الحديث ليرى كيف يفسرون هذه الظواهر النفسية كالإدراك والإحساس والتذكر، ثم ليقابل ذلك بما يبثه إخوان الصفا من رأي صائب في هذه القطعة الطريفة الساذجة. بيد إنني لا احب أن يستقر في روع القارئ أن رسائل الأخوان كلها أو جلها على هذا النحو، وفي هذا الحد من الابتكار والإصابة. فان فيها من السخف والضحولة الشيء الكثير. ولهذا كان حتما على المطالع لهذه الرسائل ان يوطن النفس على ما فيها من تجاوز بين الفكرة الملهمة العميقة والفكرة الغثة المضحلة إذا شاء أن يمضي في هذه المطالعة ويواصل المجهود إلى النهاية.

أما التربية فغايتها ومثلها الأعلى، في رأي الأخوان، هما الغاية والمثل الأعلى اللذان كانا لها في القرون الوسطى حينما كانت الأديرة والكنائس وما إليها هي معاهد التثقيف الوحيدة في أوربا. ولعلك تعلم ان نظرية القرون الوسطى هذه هي أن هذه الحياة دار فناء، والآخرة دار بقاء، فالسعيد السعيد هو الذي كانت حياته عدة وسلماً يرقى عليها مبراً من كل وزر إلى دار البقاء. واليك ما يقوله الإخوان في هذا الشأن، وان لم يكن صريحا في الدلالة على قصدهم كل الصراحة، قالوا:

(وأما رتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة، فهي أن يجتهد الإنسان ويترك كل عمل أو خلق مذموم ويكتسب أضداداها من الأخلاق الجميلة حتى يكون إنسانا خيراً فاضلا. فإذا فارقت روحه جسده عند الموت صارت ملكا بالفعل، وعرج بها إلى ملكوت السماء، ويرى أخوان الصفا - كما رأى غيرهم - أن الطفل صحيفة بيضاء قابلة لكل ما يطبع عليها من تأثيرات. ومتى لوثت هذه الصحيفة مرة أو سودت كان من الصعب جلاؤها وإماطة السواد عنها (لانه إذا كتب فيها شيء حقاً كان أم باطلا فقد شغل المكان ومنع أن يكتب فيه شيء آخر ويصعب حكه ومحوه)

لهذا فالإخوان لا يطمعون في إصلاح المشايخ الهرمين (الذين اعتقدوا من الصبي آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقا وحشية. فأنهم يتعبونك ولا ينصلحون، وان صلحوا قليلا فلا يتعلمون. ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور الراغبين في الآداب المبتدئين بالنظر في العلوم

وهم يحددون واجبات المتعلم والمعلم تحديداً صريحاً إذ يقولون: (ان ما يحتاج إليه المتعلم من الأخلاق الجميلة والخصال الحميدة هو فصاحة اللسان والتواضع للمعلم والتعظيم له ومعرفة حقه. أما المعلم فواجب عليه الشفقة على تلاميذه وعد الضجر من إبطاء فهمهم، وقلة الطمع في اخذ العوض، وقلة المنة عليهم)

ويدرك أخوان الصفا ما لفعل الوسط والقدوة من أثر في تربية الطفل فيقولون:

(وأعلم أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان يتخلقون بأخلاقهم ويصيرون مثلهم. وهكذا أيضا كثير من الصبيان إذا نشأوا مع الصبيان والمخانيث فانهم يكتسبون أخلاقهم، وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق التي ينطبع عليها الصبيان منذ الصغر)

وإخوان الصفا يوصون بأن يدأب المعلم (ولفظهم صاحب الشريعة) في دراسة تلاميذه والتفطن إلى احوالهم، والانتباه إلى أخلاقهم وسجاياهم واحداً واحداً (حتى يعرف كل واحد منهم، ما اسمه وما نسبه وما صناعته وما هو سبيله في أمر معاشه وما هو الغالب عليه من الطبع الجيد والرديء وحتى يثق بهم علما ويتبين منازلهم، ويستعين بكل واحد منهم في العمل المشاكل له، ويستخدمه في الأمر اللائق به)

تقرأ هذا فيخيل إليك أن إخوان الصفا مطلعون على فلسفة التربية الحديثة التي تصر على وجوب دراسة الطلاب دراسة دقيقة منظمة تقضي إلى فهم كفايات كل طالب ليعطي من الدروس والأعمال ما يتلاءم وأعظم هذه الكفايات بروزاً وأكثرها خيراً مأمولا.

والأخلاق عند إخوان الصفا خاضعة لفعل الوراثة ولفعل الوسط الطبيعي والوسط الاجتماعي ولشيء آخر هو فعل الكواكب فيهم يقولون:

(اعلم يا أخي إن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربع جهات: أحدها من جهة أخلاط أجسامهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة ترب بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم وعادات معلميهم وأساتيذهم ومن يربيهم ويؤدبهم، والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم، وقد تكلم إخوان الصفا في الأخلاق كثيراً ولا نستطيع أن نعطيك رأيهم إلا في النذر القليل.

يعجبك حقا من إخوان الصفا اقتناعهم اقتناعا عميقا بفائدة التساهل. فلسفتهم الانتخابية قد بنوها على هذا المبدأ. فالأديان والشرائع كلها عندهم سواء. وليس لدين فضل على دين إلا بمقدار ما فيه من صدق وإصابة. ولذا فهم ينصحونك بان تخضع دائما للحق وتحترمه أنى كان مصدره. واليك ما يوصون به:

(لا تتمسك بما أنت عليه من دين ومذهب واطلب خيراً منه، فأن وجدت فلا يسعك الوقوف على الأدون، ولكن واجب عليك الأخذ بالأخير. ولا تشغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب؟ وهم يعتقدون أن للتصلب في الرأي والتعصب للعقيدة أسبابا جمة منها: (شدة تعصب المرء فيما يعتقده بقلبه من غير بصيرة، وأخرى إعجابه بنفسه في اعتقاده، وأخرى اعتقاده أصولا خفي فيها خطأه بين ظاهر الشناعة في فروعها. ولهذا فهو يلزم هذه الشناعات في الفروع مخافة أن تنتقض عليه الأصول، فيطلب لها وجوه المراوغة عن إلزام الحجة عليه: تارة بالشغب، وتارة يموه وتارة يروغ في الجواب والإقرار بالحق ويأنف أن يقول: (لا أدري)

على أن أخوان الصفا لا يمقتون التصلب في الرأي كل المقت لأنهم يرون فيه فوائد تغطي على بعض مضاره. يرون أن اختلاف العلماء في آرائهم وتعصبهم لها يدعوان إلى شحذ الافكار، لان كل فريق يحاول أن ينصر مذهبه على مذهب غيره مما يدعو إلى الغوص على المعاني الدقيقة، والنظر إلى الأسرار الخفية، فيكون ذلك سبباً في يقضة النفوس.

كذلك هم يرون أن اختلاف العلماء يدعو لي نشر معائبهم، إذ يكون هم كل واحد تبيان مساوئ الآخر وإظهار رذائله، فيكون ذلك حاثاً للجميع على ترك الرذائل.

ويرون أيضاً أن هذا الاختلاف في الآراء والمذاهب يوجد مضطرباً أوسع في أمور الدين وممارسة شعائره.

وقد قادهم تساهلهم إلى هذا الدين العملي: وهو اعتبارهم: أن العبادة ليست كلها صلاة وصوماً، بل عمارة الدين والدنيا معاً، لان الله يريد أن يكونا عامرين)

وللإخوان رأي جميل في اختيار الأصدقاء والوفاء للصداقة الصادقة فيقولون:

(ينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقاً أو أخاً أن تنتقده كما تنتقد الدراهم. واعلم بأن إخوان الصدق هم نصرة على دفع الأعداء، وسلم للصعود إلى المعالي، فان غبت حفظوك، وإن تضعضعت عضدوك. والواحد منهم كالشجرة المباركة تدلت أغصانها بثمرها إليك، وأظلتك أوراقها بطيب رائحتها، وسترتك بجميل فيئها. فإذا أسعدك الله يا أخي بمن هذه صفته فابذل له نفسك ومالك وق عرضه بعرضك، وافرش له جناحك، وأودعه سرك، وإن هفا هفوة فاغفرها له، وإن زل زلة فصغرها في عينيه).

هذا بعض ما في رسائل الإخوان من طرافة في التفكير، وهدى في البحث، وجدة في التعليل والتفسير. وعسى أن يتاح لهذه الرسائل من يكشف كشفاً أعم وأشمل عما استتر فيها من لؤلؤ وغاب من در.

شرق الأردن

أديب عباسي


مجلة الرسالة - العدد 26
بتاريخ: 01 - 01 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى