مقتطف حسين البعقوبي - ثلاثة قتلى - قصة قصيرة

فيروز تنشد .. (طلعنا على الضو طلعنا على الريح طلعنا على الشمس طلعنا على الحرية) الصوت انساب الينا من علب اربع زرعت في بطانة الابواب المعدنية ، الرجل على يساري صالب ساعديه فالتصقا مع جبهته بالمقود . خيل لي بأن ثمة دموع ستنساب على الجلد الذي حفرت عليه ماركة عالمية واختبأ تحته زر المنبه ، ولشدة ولعي بالتقنيات شط بي الخيال لأرى تلك الدموع المالحة وهي تنساب بين ملامسات المنبه لتغلق الدائرة فينطلق الصوت بشكل مغاير مترجما تلك الدموع بكاء صائتا . انسابت يدي برفق لتلامس كتف صاحبي ، وعلى الرغم من أنها لم تكتشف أي اختضاض داخلي يمكن تحسسه أو قراءته بطريقة ما ، إلا ان حرارة الجسد كانت تشي بتفاعلات قاسية تحدث في الداخل .. لم ارغب كثيرا تقمص او اتخاذ دور مخفف الصدمات في مقدمة ومؤخرة العربة . الأمر بدا لي غاية في السخف ، فأنا ايضا تختض في داخلي أشياء وأشياء وأحتاج بشدة لمن يهون عليّ جراحاتي التي لا تريد أن تندمل لكنها ترفض أي يد حانية (ربما لأنها لم تحظ بمثل هذه اليد) لذا انسحبت يدي بشكل مفاجئ تنبه له صاحبي فنظر ناحيتي ، لم تنقل له ملامحي المحايدة أي فكرة . لكن ادرت نظري يسارا الى النافذة ، وقذفت بعدد هائل من الجمل لم أكن قادرا على احصائها أو السيطرة على مسار تدفقها : صديقنا لم يمت .. واجبه .. الصحافة .. نقاء سريرته .. الطلقات الغادرة .. الارهاب .. الارعاب . الموت .. كان ينقل الأخبار .. صار موته خبر .. العراق .. بهرز .. مجلس متكلس .. عيناه الخجولتان .. رؤى .. دموع .. نحن أيضا .. طلقات الغدر .. لو أبصرت عيناك .. أظنها .. لا أظنها .. تعتذر .. الكلمة في مرمى القناصة .

شعرت بمدى جنون كلماتي من نظرات الذعر التي حلت في وجه صاحبي ، حاول أن يتكلم لكن يبدو أن ريقه قد يبس ، حدقت في عينيه مستفهما ، ومستغربا ان تكون كلماتي قد ارعبته الى هذا الحد ، لكنه وبعناء شديد استطاع ان يرفع يده ليشير بسبابته الى يميني حيث النافذة ، تابعت خط الاشارة ، فانتقل الرعب إلي ، ، فتى كث الشعر غريب الهندام ، توقف على بعد امتار قليلة من سيارتنا وراح ينظر الينا وهو يضع يده اليمنى داخل قميصه القطني الرمادي المتسخ . في تلك اللحظة توقف الزمن بالنسبة لي وبرزت في مخيلتي لحظة اغتيال زميلنا على ايدي اناس من اشباه هذا الفتى ، تلك اللحظة التي لم اشهدها صارت قاب قوسين منا او أدنى ، وكما يعاد المشهد السينمائي بشكل بطيء رأيت اليد وهي تتحرك بشكل بطيء خلف القميص متلمسة جسما ما اختبأ تحتها ، وفي تلك الأجزاء من الثانية احسست بشكل واضح وجلي بأن الحياة برمتها قد تحولت الى دعابة سمجة ، وبلا منطق ، ظهرت امامي صورة جبل من الطموحات والاعمال التي ينتظر مني ان انجزها فيما تبقى لي من العمر ، وصورة أسرة تشتمل على أم وثلاثة أبناء وبنت بينما الأب متوار .. غير موجود .. مختف .. ماءت .. ثمة فوهة معدنية ستطل علي من تحت ذلك القميص لتحيل هذا الجبل الى كومة رماد تكفي لملىء علبة ثقاب !! الثواني تكسرت تهشمت ومع تهشمها ودورانها الاعصاري الى الأعلى تضببت الرؤية والرؤيا ، ثم خفقت الأجنحة البيض ............. لم اصح الا على دوي قهقهات صاحبي وهو يطلق ضحكات معدنية بلهاء ويصرخ : ألم أقل لك انه مجرد طير .. أطلقه الفتى !!


2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى