صبرى حافظ - إدوارد سعيد ورايموند وليامز وتناظر المشروع النقدى

إذا كانت الشهرة كما يقول الشاعر الألمانى الكبير ريلكه هى حصيلة سوء الفهم الذى يتجمع حول اسم جديد، فإن هذه المقولة تنطبق كثيرا وخاصة فى عالمنا العربى على الناقد الكبير إدوارد سعيد. فهو عند كثيرين من المثقفين العرب الناقد الذى أنصف الشرق من ظلم الغرب له، وهدم صرح الخطاب الغربى المغلوط عن الآخر، وخاصة الآخر التابع أو المقموع. وهو عند عدد أكبر من المحافظين الباحث الذى كشف أراجيف المستشرقين الذين طالما اشتكى المحافظون عندنا من عدائهم للإسلام وتشويههم له. وهو عند البعض الآخر الممثل الحقيقى للثقافة العربية فى الغرب، والعربى القادر على دحض تحيزات الغرب عنا والدفاع عن حقوقنا المهضومة. ومع أن إدوارد سعيد قد فعل كل ذلك، فإن إنجازه النقدى الحق على الصعيدين الفكرى والمنهجى وتيارى النقد الثقافى والنقد ما بعد الكولونيالى اللذين انبثقا عن هذا الجهد المنهجى الخلاق أهم من هذه الأدوار المختلفة التى تعد نتائج ثانوية للتغييرات الجذرية التى أحدثها منهجه النقدى الجديد. لأن هذين التيارين النقديين الجديدين هما اللذان غيرا حقل الدراسات النقدية فى الجامعة وفى المؤسسة الثقافية الغربية برمتها. وهما فى اعتقادي، واعتقاد الكثيرين غيري، ما سيبقى حقا من إدوار سعيد الناقد والمفكر والأديب. على العكس من جهده السياسى والإعلامى الخارق فى وضع القضية الفلسطينية على خريطة الضمير الغربى وتقديم وجه إنسانى مضيء لها، وهو الجهد الذى خبا بوفاته، ولم يواصله أى فلسطينى أوعربى بعده. بل إن فاعلية سعيد فى القيام بهذا الجهد السياسى والإعلامى تعود إلى مصداقيته الجامعية والنقدية والفكرية التى اكسبت خطابه السياسى ثقلا نابعا من ثقله النقدى والأكاديمى كأستاذ مرموق فى جامعة كولومبيا، إحدى كبريات الجامعات الأمريكية.
ابن الثقافة الغربية
تطرح هذه الدراسة فكرة أساسية قد لا تروق للقارئ العربى والمثقف العربى خاصة، وهى أن جزءا كبيرا من سحر إدوارد سعيد بالنسبة للثقافة العربية خاصة، ومن ورائها الكثير من الثقافات التى عانت من التهميش والثانوية فى الحقل الثقافى الإنسانى الواسع، هو أنه تجسيد عربى وبالنسبة للآخرين عالم ثالثى لموضوع الرغبة الأساسية Object of Desire فى هذه الثقافات، أى الغرب. يمكننا أن نحتضنه بقوة، وبلا تحفظ، دون أن نتهم بخيانة ذواتنا، أو الأغتراب عن ثقافتنا. فإذا كان من المسلم به أن الإنسان ابن ثقافته، فإن إدوارد سعيد ليس بأى حال من الأحوال ابنا للثقافة العربية التى تعانى من التخبط والفصام والهزيمة. ولكنه ابن الثقافة الغربية واللغة الإنجليزية المهيمنة فيها. ليس فقط لأنه وبرغم المجهود الخارق فى تعلم اللغة العربية من جديد، واستخدامها فى الحديث فى محاولة لاسترداد بعض معالم هويته المنتزعة لم يكتب شيئا باللغة العربية، ولكن أيضا وأساسا لأنه ابن التكوين الثقافى الغربي، والخطاب الثقافى الغربى فى أحد أبرز تجلياته وأخصبها. فقد تم تكوينه الثقافى فى مؤسسات الثقافة الغربية من تعليمه الابتدائى والثانوى فى كلية فيكتوريا الإنجليزية بالإسكندرية، وجتى دراسته الجامعية فى جامعتى هارفارد وبرينستون، إلى الحد الذى يمكن أن نقول معه بأمانه إنه ابن مؤسسات رابطة الجامعات الأمريكية العريقة المعروفة باسم Ivy League الشهيرة. صحيح أنه أصبح، وخاصة بعد اكتشافه لهويته الفلسطينية فى السبعينات صوتا معارضا Dissenting Voice فى الثقافة الغربية ذاتها، ومعبرا مقنعا عن وجهة النظر العربية فى كثير من القضايا، ومدافعا صلبا عن قضية شعبه فى شتى منابر الثقافة الغربية، يتيح للمثقف العربى أن يتماهى معه. إلا أنه حتى فى هذا الجانب المعاصر ابنا بارا للثقافة الغربية. إذ يجب علينا ألا ننسى أن الاحتفاء العقلى بالاختلاف، والاهتمام بالصوت المعارض، جزء أساسى من الثقافة الغربية، كرسته تقاليدها العريقة منذ أن أعلن فولتير صرخته القوية إننى لا اتفق معك فى الرأي، ولكن على استعداد أن أضحى بحياتى كى يكون من حقك التعبير عما تريد . وكم من مرة سمعت، أثناء فترة وجودى الطويلة فى بريطانيا، عددا من غلاة المحافظين بل الرجعيين، يفخر بأن ماركس الذى لا يحب أفكاره خرج من قاعات المتحف البريطاني، وليس من أروقة الكريملين. لأن الثقافة الغربية ثقافة عقلية تعرف أن الصوت المعارض أساسى فيها، يدعم حيويتها، ويتيح لها تمحيص مقولاتها، ويوقظها من سبات الاستنامة لدعة بديهيات مغلوطة.
روافد سعيد الفكرية
أقول إنه حتى معارضة إدوارد سعيد للسائد فى الخطاب الغربي، والتى تقربه أكثر من ثقافتنا العربية وتمكننا من التماهى معه بشكل مطلق، ليست من ميراثنا الثقافى العربى بأى حال من الأحوال. لأن الثقافة العربية تستمرئ الخضوع والإذعان. ويستميت فيها أغلب المثقفين كى ينطووا تحت لواء السلطة مهما كانت مستبدة أو عميلة أو خائنة، بل ينحو كثير منهم إلى الاستقواء بها على مخالفيه واستخدامها لقمعهم، وليس للدفاع عن حرية المعارضين أو توسيع هامش الجدل الحر فى الثقافة ككل. فمشروع إدوار سعيد الثقافى ابن التراث الإنسانى الحر فى الثقافة الغربية Liberal Humanism، وليس ابن الثقافة العربية بأى حال من الأحوال. ولا يمكن لنا حقا أن نفهم مشروعه النظرى والفكرى معرفة حقيقية دون إدراك الروافد المختلفة التى نهل منها من الإيطاليين فيكو وجرامشى إلى أدورنو ولوكاتش وحتى ميشيل فوكو ورايموند وليامز. وإذا كان الكثيرون قد تناولوا تأثيرات فوكو وجرامشى على إدوارد سعيد، لأن حفريات فوكو المعرفية وتحديداته المهمة للخطاب وفعالياته المراوغة التى تنطى على علاقات القوى جلية أشد الجلاء فى مشروع سعيد الفكري. كما أن النقلة التى أحدثها سعيد فى الدراسة الأدبية التى كانت تعترف بالتاريخ ولكنها تغفل دور الجغرافيا، تعتمد كلية على إنجاز جرامشى الذى رد الاعتبار للجغرافيا فى الدراسات الإنسانية، وجعلها من العوامل التى لا تقل أهمية عن التاريخ، لأن المكان عنده هو البعد الرابع للزمان. هذا فضلا عن أن سعيد كان أهم الذين ردوا الاعتبار لفيكو الإيطالى الذى كان مغمورا حتى أعاد إدوارد سعيد اكتشافه فى كتابه المهم "البدايات: القصد والمنهج Beginnings: Intention and Method"، كما اعترف سعيد أكثر من مرة بتأثير أدورنو عليه، وبرغبته فى أن يكتب بنفس وضوح أدورنو وعمقه ونصاعة أسلوبه. إذا كان هذا كله قد تم درسه والوصول إلى استقصاءات مهمة فيه، فإن العلاقة بين إدوارد سعيد ورايموند وليامز من الأمور التى لم تنل ما تستحقه من تمحيص واستقصاء فى هذا المجال. وهذا ما تسعى هذه الدراسة للكشف عنه، وتوضيح مختلف أبعاد العلاقة بينهما. وحتى نتمكن من استقصاء طبيعة هذه العلاقة علينا أن نبدأ بطرفها الأول: رايموند وليامز.
نشأة وليامز الفقيرة
على العكس من إدوارد سعيد الذى كان أبوه تاجرا ثريا، وفر له بسهولة الدراسة فى أرقى المدارس وأعرق الجامعات، ناهيك عن دروس البيانو الخاصة فى البيت منذ نعومة أظافره، فإن رايموند وليامز "1921 - 1988" ابن الطبقة العاملة الفقيرة فى ويلز، بل يوشك أن يكون ابن الشريحة الأكثر فقرا فى هذه الطبقة. فلم يكن أبوه هنرى جوزيف وليامز عاملا من عمال المناجم ذوى الدخول المرتفعة نسبيا، وإنما كان "محولجيا" أو عامل إشارة فى السكة الحديد. ولم يكن متوقعا لمن هو فى طبقته أن يتعلم ابنه فى الجامعة، ناهيك عن أن يتعلم فى جامعة كيمبريدج، إحدى أرقى الجامعات البريطانية وأعرقها. لكن نبوغ رايموند الصبى المبكر وشغفه المستمر بالقراءة هو الذى أتاح له الحصول على منحة مجانية للدراسة فى هذه الجامعة العريقة التى كانت ولا تزال معقل الطبقات العليا، ومستودع خطابها الثقافى والأيديولوجى على السواء. كان رايموند هو الطالب الوحيد من مدرسته الحكومية فى ويلز الذى حصل عليهذه المنحة، لذلك لم يكن غريبا أن شعر عند وصوله إلى كيمبريدج فى سبتمبر 1939 أنه غريب فيها، وأن طلابها يتكلمون لغة غريبة عليه. لغة بالمعنى الكامل للغة، وليس مجرد اللهجة أو اللكنة، وإنما تلك اللغة الكاملة المبنية على الخبرات المشتركة، والإحالات لتجارب يفترض أنهم جميعا خاضوها ويعرفون أدق تفاصيلها، واستخدام اختصارات مألوفة لديهم تشعر الغريب بالغربة حقا.
وليامز اليساري
وبالرغم من هذه الغربة استطاع وليامز أن يثبت نفسه بسرعة، فانضم إلى مجموعة الطلاب اليساريين فى الجامعة، والتى كانت تكون النادى الأشتراكى Socialist Club بها. لأنه كان ذا خبرة بالعمل السياسي، فقد عمل وهو طالب بالمدرسة الثانوية فى المكتب الفرعى لحزب العمال، وساهم بحهد تطوعى فى حملة الدعاية لمرشحه فى الانتخابات. وكان وليامز طالبا راديكاليا من البداية، وأصبح، قبيل نهاية سنته الأولي، محرر مجلة الجامعة Cambridge University Journal التى يصدرها الطلاب. وخصص بالمجلة منبرا لمناقشة القضايا السياسية من منظور القوى السياسية المختلفة فى هذا الوقت: الاشتراكيين، والمحافظين والأحرار، مما أكسبها قدرا كبيرا من الحيوية، وجعلها فى نظر عدد من المعلقين على هذه المرحلة إرهاصا بكثير من رؤى الثقافة المعارضة التى تبلورت فى بريطانيا أثناء الحرب وبعدها، وجسدتها فيما بعد مجلة اليسار Left Review. وبالإضافة إلى المجلة شارك فى تحرير مختارات أدبية من أعمال الطلاب الإبداعية، ونشر فى هذه المختارات أولى قصصه القصيرة "سكر" التى تربط بين نقص السكر محليا أثناء الحرب، مما أدى إلى تقنين استهلاكه، وبين التجارة الدولية فى هذه السلعة. ولكن الحرب كانت قد اندلعت، فما أن اكمل عامه الثانى بالجامعة "1940 / 1941" حتى استدعى للتجنيد قبل إكمال دراسته. وقاد أثناء الحرب نشكيلا صغيرا من أربع دبابات حتى انتهت الحرب. وعاد بعدها عام "1945/1946" من جديد إلى كيمبريدج ليكمل دراسته الجامعية. ولأنه خدم بلده عسكريا لأربع سنوات، فقد سمح له بأن يكتب بحثا من خمسة عشر ألف كلمة بدلا من الامتحان التقليدى لليسانس "بكالوريوس" الأدب الانجليزي، فقد تقادم العهد به منذ درس منهج الدراسة العادى الذى ربما اختلف محتواه عما درسه قبل أربع سنوات.
من إبسن إلى إليوت إلى بريخت
هنا رجعت إليه عادته القديمة فى إعادة قراءة العمل الواحد عدة مرات، فأعاد قراءة مسرحيات إبسن أكثر من مرة، ليكتشف فى كل قراءة أبعادا جديدة لدراسته. وعززتها تجربة أخرى اكتسبها من الحرب هى تجربة الاعتماد على العين بدلا من الاعتماد على الأذن بسبب ارتفاع الضجة داخل الدبابة التى تجعل الحديث مستحيلا، وتحيل الاتصال إلى اتصال مرئى يأخذ فى اعتباره كل عناصر المشهد وعلاماته المرئية. فقد اختار أن يكتب بحثه عن مسرحيات إبسن، وكان الجانب البصرى فى مسرحيات إبسن الأخيرة مثل "براند" و"بيرجينت" من الجوانب الذى ساعدته خبرته فى الحرب على سبر أغوارها بطريقة جديدة ناجعة. وكان هذا البحث المبكر هو نواة كتابه المهم "انمسرح من إبسن إلى إليوت Drama from Ibsen to Eliot" الذى صدرت طبعته الأولى عام 1952، وبعد عدة سنوات أعاد النظر فيه وأصدر منه طبعة جديدة مزيدة ومنقحة بعنوان "المسرح من إبسن إلى بريخت" عام 1968. لكن "المسرح من إبسن إلى إليوت" لم يكن كتاب وليامز الأول، لأ كتابه الأول هو "قراءات ونقد Reading and Criticism" عام 1950. غير أن هذا الكتاب الأول لم يكن فى حقيقة الأمر إلا تجميعا لعدد من المقالات التى نشرها وليامز فى الصحف المختلفة فى الأربعينات، ولم يرض عنه فيما بعد لأنه لم يعد طبعه بعد ذلك قط. على العكس من كتابه عن المسرح الذى يعد البداية الباكرة لمشروعه الفكرى الذى جعل عملية الاتصال، وما يتبعها من وسائل الاتصال المختلفة محورا مهما من محاور مشروعه الفكري. فالمسرح عنده هو أداة توصيل الخبرة الإنسانية وتقطيرها معا. بل إننا نجد فى هذا الكتاب الباكر مفهومه الأساسى عن التناظر المتراكب بين بنية التجربة الإنسانية، وبنية المشاعرالسائدة، وبنية العمل الأدبى أو المسرحى فى هذه الحالة.
مجلتان أدبيتان
وإذا كان كثيرون يعتبرون كتاب المسرح هو الكتاب الأول الذى يتسم بقدر من المنهجية والتماسك، فإن جل دارسى وليامز وتلاميذه الأوفياء، يعتبرون كتابه المهم الأول هو "الثقافة والمجتمع Culture and Society: 1780-1950" عام 1958. لأن هذا الكتاب جاء بعد خبرة طويلة فى العمل الثقافى والسياسي. فبعد ان تخرج وليامز من جامعة كيمبريدج عام 1946 عمل فى رابطة الثقافة العمالية Educational Association Workers مدرسا لبرامج التعليم المسائى للعمال، وواصل العمل بهذه المؤسسة حتى عام 1961 حينما انتقل إلى العمل فى جامعة كيمبريدح التى ظل يعمل بها حتى تقاعد منها قبيل وفاته فى 28 يناير عام 1988 بعام ونصف. ولأن اختياره للعمل فى هذه المؤسسة العمالية كان اختيارا آيديولوجيا واضحا، فلم يكن من الطبيعى مع شخص مثله أن يكون عمله فيها مجرد وظيفة يكتسب بها رزقه ورزق عياله، كما كان الحال مع الكثيرين من زملائه. لذلك ما أن التحق بها وليامز حتى بدأ نشاطا واسعا فى تغيير طبيعة دراسة لأدب فيها وتثويره إلى الحد الذى تضاعفت معه فصول الأدب فيها عدة مرات خلال فترة عمله بها. ولم يكتف بالعمل على تغيير المناهج وتوسيع أفقها، بل حرر مجلتين عقب انضمامه لها. كانت أولاهما هى "الناقد The Critic" التى صدر منها عددان عام 1947، وخصصها وليامز للقراءة التمحيصية للنصوص close reading وللجدل المفتوح حول القضايا الأدبية والنقدية. وكانت الثانية هى "السياسة والآداب Politics & Letters" التى كانت اسعد حظا من سابقتها حيث صدرت منها خمسة أعداد بين عامى 1947 - 1948، أوسع من سابقتها طموحا لأنها طرحت برنامجا يسعى لاستقصاء العلاقة بين المؤسسات الثقافية والسياسية المختلفة والحرية الفردية فى شتى أبعادها الاجتماعية. كما اهتمت بسبر أغوار العلاقة بين السياسية والكتابة فى المجتمع الانجليزى الطالع من بوتقة الحرب الطاحنة. فقد التقى على صفحاتها أبرز كتاب المرحلة من جورج أورويل وف. ر. ليفيز إلى كريستوفر هيل وليونيل إلفين. كما ظهر فيها لأول مرة باللغة الإنجليزية قسما من كتاب جان بول سارتر الشهير "ما الأدب" الذى يتناول فيه قضية الالتزام. ودار فيها جدل واسع حول مفهوم الالتزام خاصة وأن المرحلة الجدانوفية فى الاتحاد السوفييتى وقتها كانت قد ألقت بظلالها على هذا الجدل وشوهت سمعة الالتزام فى بريطانيا خاصة فى بداية اندلاع الحرب الباردة. وقد عارض وليامز مفهوم سارتر الذى يتيح للشعر أن يتحرر من الالتزام الذى يلتزم به النثر وحده عنده. ويطرح بدلا من فكر سارتر الوجودى فكرة أن مؤسسة الأدب هى أولا وأخيرا مؤسسة المسؤولية الإنسانية. وهى باعتبارها المؤسسة التى تجسد هذه المسؤولية عليها أن تعى تأثير مؤسسات الدولة والمؤسسات الإعلامية المختلفة على دورها فى ترسيخ قيم الإنسانية وتعزيزها ورعايتها.
الثقافة والمجتمع
لكن أهم إنجازات مرحلة عمل وليامز فى رابطة الثقافة العمالية كانت بلا شك كتابه "الثقافة والمجتمع" الذى جاء نتيجة لهذه التجربة فى تعليم الكبار من ناحية، ونتيجة لاشتباكه مع الجدل الثقافى والفكرى السائد وقتها، لا فى بريطانيا وحدها، وإن كان المشهد البريطانى هو منطلق وليامز الأول فى جل أعماله، ولكن فى أوروبا عامة. فلم يكن الهدف من تعليم العمال الارتقاء بتحصيلهم المعرفى فحسب، أو منحهم شهادات تمكنهم من تحسين وضعهم المعيشي، وإنما كان النهوض بوعيهم السياسى كذلك. والواقع أن فترة العمل فى رابطة الثقافة العمالية كانت جوهرية بالنسبة لصياغة أجنة رؤى وليامز الفكرية والنقدية ومقترباته المنهجية التى تبرعمت فيما بعد فى أعمال لاحقة. فقد شهدت مرحلة بدايات تدريسه فيها تغيرا منهجيا واسعا فى دراسة الأدب الإنجليزى عامة، بسبب تراكم تأثيرات أعمال كل من إيمبسون وريتشاردز وميرى وليفيز نحت بها بعيدا عن المنهج التاريخى الفقهى التقليدى الذى يهتم بالتحقيب، وبالحديث العام عن ملامح كل حقبة. فقد دعت أعمال هؤلاء النقاد الأربعة على اختلاف مشاربهم إلى تركيز أكبر على قراءة النصوص وتمحيصها لغة، وبنية، ومعني. ولم يكن هذا الأمر بغريب أو جديد على وليامز الذى اعتاد منذ بواكير صباه على قراءة النص عدة مرات والتعرف على مستويات المعنى المتعددة فيها، والذى استخدم منهجا فينومينولوجيا فى دراسته الجامعية الأولى عن إبسن. "لاحظ أن هذا المسار كان هو نفسه مسار إدوار سعيد الذى استخدم هو الآخر منهجا فينومينولوجيا فى دراسته الأولى للدكتوراة عن جوزيف كونراد" هذا التأويل الذى يطرحه بعض دارسى وليامز لسياق الكتاب، وللعوامل الفاعلة فى تكوين منهجه وصياغة رؤاه، ويطرح معه نوعا من العلاقة بالتضاد مع كتابين تناولا قضية الثقافة قبله، وكان لهما فضل طرح هذا المصطلح "الثقافة" للجدل وهما: "الحضارة الجماهيرية وثقافة الأقلية" عام 1930 للناقد الأدبى الشهير ف. ر. ليفيز، وكتاب ت. س. إليوت المعروف والمترجم للعربية "ملاحظات نحو تعريف الثقافة" عام 1948، تأويل ضيق ومحدود لأهمية هذا الكتاب الرائد، وأكثر منه ضيقا ومحدودية ذلك التأويل الذى يعتبره ردا على كتاب إليوت خاصة، وعلى فهمه المحافظ للثقافة باعتباره فهما شديد الخطورة. صحيح أن الكتاب ينطوى على نقد حاد لمفهوم إليوت الرجعى للثقافة، ولمفهوم ليفيز النخبوى لها، وحتى لمفهوم الجمعية الفابية له وكانت تعد من الجمعيات التقدمية باعتبارها كلها كما هى الحال مع تصورات أواخر القرن الثامن عشر مفاهيم لا تتحدى الأساس الاقتصادى الذى تنهض عليه بنية الثقافة الرأسمالية العميقة. وصحيح أيضا أنه يقبل مفهوم إليوت بكلية الثقافة كمفهوم، ولكن بعد أن يدخل عليه تعديلا جوهريا وهو تناقضية هذه الكلية contradictory totality. وهناك تأويل آخر يموضع الكتاب فى سياق حركة الثقافة التقدمية البريطانية وقتها، وفى مد الفكر التقدمى الذى جاءت على موجته أول حكومة عمالية بريطانية بعد الحرب العالمية الأولي، ويربطه تحديدا بكتاب ريتشارد هوجارت الرائد "مزايا التعليم" وبدوره فى حركة الثقافة العمالية.
سارتر وبارت
صحيح أن كل هذه السياقات كانت فاعلة فى تأليف الكتاب، أو فى تخليق بعض دوافع وليامز لكتابته، لكن كان هناك إلى جانب هذه السياقات كلها سياق آخر أعرض يطرحه كل من أوكونر وبيرى أندرسون وتيرى إيجيلتون بشأنه، ويضعه فى سياقه الأوروبى الأوسع. إذ يضع هذا التأويل كتاب وليامز الرائد ذاك على الوتر المشدود بين كتاب جان بول سارتر الشهير "ما الأدب؟" عام 1947 وكتاب رولان بارت "درجة صفر الكتابة" عام 1953. فهو من هذه الناحية كتاب يستوعب إنجاز الإثنين معا، ويضفى عليه مجموعة من التحويرات وكأنه تطبيق حقيقى لما يدعوه إدوارد سعيد بارتحالات النظرية التى تحتم التغيير والإضافة. فنحن نعرف أن وليامز كان على وعى بكتاب سارتر ذاك، وكان أول من نشر مقتطفات منه باللغة الإنجليزية فى مجلته "السياسة والآداب"، ونعرف أيضا أنه اشتبك مع آراء سارتر فى جدل خلاق بلور عبره مفهومه عن المسؤولية الإنسانية للأدب. لكن ثمة قدر من الشك فى أن وليامز كان على علم بكتاب رولان بارت الذى لم يكتسب شهرته وذيوعه فى الثقافة الإنجليزية إلا بعد نشر "الثقافة والمجتمع" بأكثر من عقد كامل. لكن من المؤكد أن ثمة صلة وثيقة بين أعمال كل من بارت ووليامز تنبع من تركيز كل منهما على النص، والشكل الأدبي، والبنية النصية، وعلى إعلاء شأن الموقف النقدى من الثقافة السائدة ودور الناقد فيها. بل إن كتاب وليامز فى مستوى من مستويات التحليل له ينهض على بنية الثنائيات المتعارضة التى اعتمد عليها منهج رولان بارت البنيوى فى هذه المرحلة الباكرة من مسيرته النقدية. لكن القاسم المشترك بين هذه الكتب الثلاثة هو الوعى بالعلاقة بين الكتابة والقوة، وبتاريخ الكتابة باعتبارها نشاطاً يخص الأقلية إبداعا وتلقيا. فبينما يهتم سارتر بتاريخ الكتابة ويجعل الحرية هى البنية العميقة لها أو أجروميتها الأساسية، ويركز بارت على الأشكال الأدبية معتبرا اختيار الكاتب لشكل معين التزاماً مضمراً بمصادرات الشكل الفلسفية، فإن شاغل وليامز الأساسى هو العلاقة بين الكاتب الفرد وتاريخ الأشكال الأدبية الجمعى بما تنطوى عليه هذه العلاقة من تصورات أيديولوجية مضمرة. والواقع أننى أميل إلى هذا التأويل، لأنه التأويل الذى يحل كثيرا من إشكاليات تلقى هذا الكتاب غير المسبوق الذى لم يكتب فى سياق مؤسسة انتاج المعرفة السائد وقتها وإنما لمعارضة هذا الخطاب وتقويض أسس مصداقيته. لأنه لم يتبع أياً من الطرق المنهجية أو المحددات الموضوعاتية التى كانت تتحكم فى الإنتاج المعرفى للمؤسسة الأكاديمية وقتها. فهو مثل كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" كتاب حير المؤسسة السائدة فى تصنيفه. لأنه ليس كتابا فى الدراسات الأدبية بالمعنى المألوف، ولا هو كتاب فى الثقافة بالمعنى الإجتماعى أو الأنثروبولوجى لها، وليس دراسة فكرية خالصة لأنه يعتمد على الكتاب والأعمال الإبداعية أكثر مما يعتمد على المقولات والأطروحات الفلسفية. لكنه كتاب يندرج الآن تحت ما يمكن تسميته بمصطلح النقد المعاصر ب"البنية الإشارية للأدب".
وسوف نتابع فى مقال الأسبوع القادم التعرف على بقية مشروع وليامز النقدى ونقدم فيه مراجع هذه الدراسة



* نقلا لكل فائدة عن مصرس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى