عبد الوهاب الفقيه رمضان - قوس بلا وتر..

عندما هلل المؤذن لصلاة العشاء فرشت السجادة ، وأديت الصلاة بفرضها وسنتيها. جلست قليلا تسبح وتتلو في سرك بعض الآيات المخصوصة والأدعية التي تعودت الدعاء بها إثر كل صلاة . طويت سجادتك . أرجعتها إلى مكانها المعتاد . التفتت حواليك فبدا اتساع بيتك أكبر من المعتاد ، وبقدر ما اتسع الفضاء ضاقت نفسك . كان السكون حواليك قد أقلقك .. اعتدت صياح الأطفال وصخبهم وضجيجهم وشجارهم ، في البيت وفي ساحة المدرسة وأحيانا في القسم . إذا كان المعتاد أن المرء يقلقه الضجيج ، فأنت يقلقك الهدوء .

سرت نحو المطبخ ، فتحت الثلاجة : تأملت في بعض الأوعية ولكنك لم تزح الأغطية . أنت تعرف ما فيها إناء إناء . لقد قضت زوجتك المصون وقتا في إعداد ما تشتهيه نفسك المهم لديها أن تجعلك لا تحس بأنها قد أهملتك هذه الأيام التي ستغيبها عند أهلها . أغلقت باب الثلاجة ، وأخذت قارورة زيت الزيتون ، صببت ما ملأ نصف صحفة تقريبا ، فتحت قارورة مصبر الزيتون الأخضر ، أخذت بالملعقة ما قدرت أنه يكفيك . تناولت عشاءك واقفا . لم يكن يهمك أن تتلذذ الأكل . كان عليك أن تلبي رغبة جسدك من حاجته فقط . القلق .. الوحدة .. الوحشة .. لقد ألحت عليك الزوجة في مرافقتها . بقدر ما ألحت بقدر ما امتنعت . أصهارك يحبونك ، ويبجلونك ، ويقدرونك ..لكنك لا تريد أن تقضي عندهم أكثر من نصف يوم . وإذا كان لا بد أن تطعم عندهم فإنك لا تتجاوز وجبة واحدة إن غداءا أو عشاءا . طالت الأيام التي لم تزر فيها الزوجة أهلها ، واشتاق الصغار إلى شيء من اللهو وتبديل المكان فسمحت لهم بثلاثة أيام ، ثلاثة أيام لا تزيد ولا تنقص . وإذا كان لا بد من الزيادة فللأطفال فقط .

جلت في أرجاء البيت ، هممت بالخروج ، لكن أين عساك تذهب ؟ ليس لك مقاه خاصة ، وليس لك أصدقاء اعتدت أن تسهر معهم . كان العمل كل همك في الحياة . أما وقت الفراغ فللمطالعة أو الكتابة من حين لآخر . في إحدى العطل الصيفية كنت تسامر كل ليلة نجيب محفوظ في إحدى رواياته . قال لك أبوك :

- كفاك يا ولدي لم كل هذا . حتى الشهادة قد نلتها .

لم يكن أبوك يعلم أنك تبحث عما لا يوجد في الشهادة . استلقيت على الأريكة . فتحت التلفاز . انتقلت بين القنوات ، حتى ما كان يعجبك لم يعجبك . فتحت كتابا لكنك لم تتمم قراءة فقرة واحدة . فتحت مجلة . لكنك لم تتمم تصفحها . فتحت جريدة فلم تع شيئا من كتابتها ... فراغ عميق ... فجأة وجدت نفسك تنقاد إلى غرفة الكمبيوتر . انطلقت نحو الخزانة فأخذت مجموعة من الأقراص الليزرية ووضعتها على المكتب . استويت جالسا أمام الكمبيوتر . أنت ما زلت تتحسس خطواتك الأولى . كنت تعلم أبناءك فصار أبناؤك يعلمونك . لم تدر كيف تعلم أبناؤك استعمال الكمبيوتر . فلا أنت سجلتهم في أية مدرسة لهذا الاختصاص ، ولا هم تعلموا ذاك في المدارس . رغم ذلك من اليوم الأول الذي حل الكمبيوتر في البيت كان الأطفال قادرين على فتحه وإغلاقه ، والدخول في البرامج والخروج منها . كنت تقف مشدوها تنظر إليهم وأنت لا تصدق عينيك : كنت كبدوي في عاصمة . كنت مبهورا ومنبهرا . تساءلت في سرك :

- من أين لهم ذلك ؟

ثم قلت في سرك : والصبي بالصبي ألقن وبه آنس ومنه آخذ . تلك المقولة التي حفظوك إليها لتصبح معلما ناجحا . صرت كلما استعصى عليك تعليم تلميذ سلمته لصبي في سنه فيتعلم منه ما لم يتعلمه منك . كان الأطفال في أيام طفولتك يلهون بألعاب ساذجة على قدر سذاجة عصرك . أما الأطفال اليوم إذا التقوا في بيت أحدهم فإنهم يلهون لهوا على قدر عصرهم . لذلك تعلم أبناؤك استعمال الكمبيوتر قبل أن يكون لديهم كمبيوتر . علموك ما لم تكن تعلم .

لم تكن تحلم أنك تمتلك كمبيوتر . كلفك أستاذ جامعي في الحقوق بتدريس ابنه . تكونت بينك وبين الأب ألفة أعمق من الألفة بينك وبين الابن . كان الأب ينتظر انتهاء الدرس ليدعوك إلى مكتبه بالبيت فتتبادلان الأحاديث في مواضيع مختلفة . كنت تروي له الكثير من الطرائف فيستعذب حديثك . كنت كلما جلست إليه تنبهر بالجهاز الموضوع على مكتبه . كنت ترى الفأرة بين يديه يعبث بها ويحركها على سطح المكتب فينطلق سهم متحركا على الشاشة . لم تكن تعرف شيئا عن ذلك . ما سألته يوما عن سر ذلك الجهاز رغم أنك كنت في شوق لمعرفة ذلك . ربما شيء من الكبرياء منعك .. اليوم صار لك جهاز في بيتك تمسك فأرته فيتنقل السهم على الشاشة . جلست أمام ابنك أول مرة في حياتك هو ابن الثالثة عشرة وهو المعلم وأنت المتعلم في السابعة والأربعين من عمرك . فتح أمامك الكمبيوتر وأغلقه . طلب منك أن تفعل فنفذت وأنت تحس بزهو . كررت العملية مرارا . حين تأكد لديك أنك حذقت تلك المهارة أحسست كأنك تكتشف العالم من جديد . طلبت من ابنك أن يعلمك كيف تكتب . لقد كنت ماهرا في النقر على لوحة مفاتيح الراقنة . لم يعلمك أستاذ أيضا . تعلمت وحدك حين أردت أن ترقن أول رواية تكتبها . رقنت الرواية كلها وأنت تنقر بإصبع واحدة . ولازمتك هذه العادة . لله درك أيتها السبابة للكف اليمنى كم نقرت وكم كتبت نصوصا . لماذا يصر الكتاب على تصدير مؤلفاتهم بذكر بقلم والحال أنهم لم يكتبوا بالقلم بل بلوحة مفاتيح الكمبيوتر . إن النقر على الراقنة سهل لك النقر على الكمبيوتر . بدأت تنقر كنقر الصوص ثم كنقر الكتكوت واليوم تنقر كنقر الديك الجائع .

كم كانت فرحتك كبيرة يوم أنشأت ملفا وكتبت وسجلت وأغلقت ثم فتحت فوجدت كتابتك كما تركتها . كان يوم فتح عظيم لك . قلت لابنك :

- لا أحمد الله على شيء قدر حمدي له أنه أحياني حتى شهدت عصر الكمبيوتر وقدرت على استعماله .

أجابك ابنك يومها :

- ما سيأتي أعظم .

فتحت الكمبيوتر . نظرت في بعض الملفات التي أنشأتها . لقد أصبح عددها كبيرا .. خطرت ببالك فكرة . تنجز عمل ثلاثية كاملة . تبدأ بإعداد التخطيط الثلاثي . تعد المذكرات لكل مادة . تعد التمارين والمسائل التي ستدعم عملك . فكرة جميلة ومفيدة ، تسهل لك العمل . كل ليلة تفتح الملف الخاص بهذا العمل فتطبع ما أنت في حاجة إليه غدا سيكون العمل نظيفا مقروءا جميلا .

بدأت برسم الجداول . لا باستعمال القلم . كنت تنجز جدولا شاملا بعدد من أصغر خانة ثم تفرغ مجموعة من الخانات حسب مقتضيات الجدول . أنجزت جداولك على أحسن هيئة . فلا زوجة تذكرك بأن الكمبيوتر صار لها ضرة في البيت ولا ابن ينتظر فراغك لاستعمال الكمبيوتر في لعبة ولا ابنة تنتظر بدورها لتستمع إلى أغنية ..

تفرغت تفرغا كليا للعمل ، انغمست فيه انغماسا لا مثيل له . كنت كما لو كنت تلحن سنفونية أو ترسم لوحة أو تكتب قصيدة أو قصة ... لم تحس بالتعب ولا بالملل ولا بجوع أو عطش .. من حين لآخر تشعل سيجارة لكن ما لا تدخنه منها أكثر مما تدخنه .. حتى أنك وضعت الطفاية في طبق معدني حماية . كانت الساعات تمر فلا تحس بمرورها وكان العمل يتواصل بلا تحس بمقدار ما أنجزت منه .

كل شيء في الكمبيوتر ، فأنت لا تقف لإحضار مرجع ، ولا أنت تتصفح كتابا للتحقيق في معلومة من المعلومات . يكفي أن تضع القرص الليزري في مكانه حتى يكشف لك ما في داخله . هذا القرص فتح من الفتوحات العلمية . لقد فاخر أستاذك للغة العربية يوما بأن أبا الفرج الأصبهاني أو الأصفهاني قد حمل كتابه الأغاني إلى الخليفة على أربعين جملا . اليوم زال انبهارك بالأربعين جملا جملة وتفصيلا . هذا الكتاب الذي حمله أربعون جملا صار خدشا ليزريا على قرص . قرص صغير يكاد يكون لا وزن له بالإمكان وضعه في الجيب يحمل ما كتبه العرب منذ بداية الكتابة إلى اليوم . قمت بعمليه حسابية طريفة فوجدت ما كتبه العرب يحمل على مائة وسبعة وأربعين جملا .

وضعت حمل مائة وسبعين جملا في الكمبيوتر وانطلقت في البحث عن النصوص والمعلومات التي تحتاجها . أنت لا تغادر مكانك ، أنت لا تفتح خزانة مكتبتك ، أنت لا تتصفح كتابا أو تنظر في فهرس . كل ما تحتاجه يأتيك حالا بلمسة واحدة على مفتاح في لوحة المفاتيح أو حركة واحدة للفأرة في كفك .

أنجزت ما تحتاجه من اللغة والنصوص ومواضيع التعبير الكتابي والنحو والصرف . كل شيء موثق من المصادر التي اعتمد عليها أصحاب المراجع .

انتقلت إلى المواد الاجتماعية . لم تكن لديك أقراص لهذه المواد .اعتمدت بالأساس على الوثائق الرسمية وتوسعت أحيانا لكن بالرجوع إلى كتب لم تكتب بلغتك الأم . أعددت دروسك على أحسن هيئة مادة وكتابة وإخراجا . كنت من حين لآخر تنظر إلى جدول من الجداول التي أجزتها فتعتز أكثر بما أصبحت قادرا على إنجازه . ما كنت تحلم يوما أن يتيسر لك في بيتك وبين يديك هذا الكم من المعلومات وهذه الوسائل للكتابة والرسم وغيرهما . حتى الخرائط نقلتها كما هي . نقلتها من الكتب لتثبتها في مذكراتك ودروسك والتمارين التي ستقدمها لتلاميذك على الهيئة التي وردت بها في البرامج الرسمية .

بقي الإيقاظ العلمي .. إنه المعيار الذي به قست مدى تخلفك عن العالم الحي . وبه أدركت مدى الهوة التي تفصلك عنه . خاطبت أحبابك بحاجتك إلى موسوعات علمية بحتة جاءتك نسخة لكل من أشهر الموسوعات في العالم أنكرتا وأنفرسياليس . جاءتك كما لو كانت صحيفة يومية . كل منهما في نسخة محينة حسب ما وصل إليه الفكر البشري . انكشف لك عالم ليته ما انكشف حين أردت الحصول على موسوعة بلسان قومك . كلما سألت صاحب محل للمعلومات الالكترونية عن موسوعة بلغتك نظر إليك مستنكرا . موسوعتك العربية الوحيدة تصور لمدة نصف قرن على الهيئة التي صدرت بها أول مرة. قومك يحملون معنى إيجابيا للعتيق . ربما يرجع السبب للخمر والخمريات إذ أجودها ما تعتق أكثر . ربما تشبثا بالسلف الصالح . أو ربما لأن قومك يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان . أمرنا الله بالانتشار في الأرض إذا قضيت الصلاة فجعل البعض قواعد شرعية حتى في كيفية قضاء الحاجة البشرية ابتداء بالرجل التي بضعها الأولى داخل الكنيف وانتهاء بالرجل التي تخرج بها . وأكثر الأقراص الليزرية التي أنجزها قومك في الشأن الديني . لكن أي شأن . يقول ابن تيمية في جامع الفقه مجموع الفتاوى المجلد التاسع والعشرون ص 368 وما بعدها : ما يصنعه بنو آدم من الذهب والفضة وغيرهما من أنواع الجواهر والطيب وغير ذلك مما يشبهون به ما خلقه الله من ذلك مثل ما يصنعونه من اللؤلؤ والياقوت والمسك والعنب وماء الورد وغير ذلك ، فهذا كله ليس مثل ما يخلقه الله من ذلك ، بل هو مشابه له في بعض الوجوه وليس هو مساويا له في الحد والحقيقة . وذلك كله محرم في الشرع بلا نزاع بين علماء المسلمين الذين يعلمون حقيقة ذلك . ومن زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق فقوله باطل في العقل والدين .. وينتهي إلى تحريم الكيمياء تحريما مطلقا .. لو حصرنا الورق الذي استهلكته طباعة الفتاوى لابن تيمية لوفرت نسخة من العقد الاجتماعي لكل فرد من بني جلدتك .. لكن المطابع التي يمتلكها قومك تطبع العقد الفريد ولا تطبع العقد الاجتماعي .. وحين هل عصر الالكترونيك يكاد لا يوجد قرص عربي ليس فيه هذه الفتاوى .. لهذا السبب لم تجد مراجع بلسان قومك تساعدك في دروس الإيقاظ ..

وما دامت الأمة الحية تتيح للبشرية سبيلا للعلم والمعرفة فقد استعملت ما لديك من أقراص احتوت علما بلسان أعجمي . ترجمت ما تحتاجه لدروس الإيقاظ .سجلت منها صورا تساعد التلميذ على الفهم ، كانت الصور ملونة واضحة جميلة .. سجلت كل مذكراتك ودروسك معلومات وصورا بتبويب منطقي وتسلسل منهجي .

راجعت كل العمل الذي قمت به ، فأصلحت ما تسرب من أخطاء في النقر أو هفوات بسيطة في الرسم أو اللغة . كان عملك جاهزا على أحسن ما يرام .

انطلق آذان الصبح وقد وضعت آخر لمسة في عملك . بدأ النعاس يغالبك . فجأة أخذتك سنة من النوم على غفلة منك . انتفضت مذعورا . لمست يدك على غير إرادة لوحة المفاتيح فإذا الشاشة أمامك بيضاء . كانت على الحالة عند آذان العشاء . وقفت مدهوشا . عمل ليلة هكذا يتبخر بلمسة لاإرادية .

غضبت لكن أي غضب . عالجت كل المفاتيح . تجولت بين كل المعلومات الخاصة بالبرمجة الداخلية . لكنك لم تكن تفهم منها الكثير . أنت تعلمت لتكتب فكتبت . لم تتعلم كيف ترجع الكتابة إذا امحت ، بل إنك لم تكن تعلم أن الكتابة يمكن إرجاعها بعد محوها . كانت أعصابك متشنجة ، وكان الإرهاق قد استولى عليك . بدأ النوم يغالبك . كرهت ليتك تلك ، كرهت العمل الذي أنجزته . كرهت الكمبيوتر ومن صنع الكمبيوتر . كنت إذا واجهتك صعوبة تستنجد بابنتك أو ابنك . بمساعدة أحدهما تتجاوز صعوبتك . لكنك الآن وحيد في البيت . أحسست بالضيق ، أحسست بالاختناق . أحسست برغبة في تحطيم الكمبيوتر الذي محا عمل ليلة كاملة في لحظة بلمسة لاإرادية ... تركت كل شيء على حاله . توضأت . بسطت السجادة . أديت السنة والفرض . طعمت شيئا يسيرا أبعد عنك ما كنت تحس به من جوع .. ثم جلست أمام الكمبيوتر . فتحت البرامج ، جلت في محتوى كل عنوان من عناوينه . لم تفهم شيئا ، ربما حالة الإحباط التي كنتها قد أغلقت أبواب الفهم لديك .

هممت بإغلاق الكمبيوتر والهروب إلى فراشك . ولكن أي فراش ستهرب إليه ؟ وأي نوم ستنامه !!!

كان الزمن فجرا .. كالمجنون انطلقت نحو الهاتف .. أدرت أرقاما .. انتظرت قليلا ، جاءك صوت .. حين عرفوك تهاطلت عليك الأسئلة ..بالله أخبرنا ماذا جرى ؟؟ كنت تقسم بأغلظ الأيمان أنه ليس ثمة خطر : كل ما في الأمر أنك تريد أن تخاطب زوجتك في شأن من الشؤون .. خمنت بخيالك أن حالة من الفوضى سادت بيت أصهارك، لقد فزعوا جميعا لهده المكالمة في وقت غير مناسب .. جاءك صوت زوجتك يستحلفك بالله أن تخبرها بالحقيقة .. هل أصابك مكروه ؟ هل سطا لصوص على البيت ؟ هل مات أحد الأقارب ؟ هل ؟ هل ؟ هل ؟؟؟ وكنت تصر أن لا شيء من هذا قد حدث . إنك فقط تطلب مخاطبة ابنك أو ابنتك .. وكان الفزع أكبر .. ماذا سمعت ؟ .. بعد جهد استوعبت زوجتك الموضوع .. بدا لك الامتعاض من صوتها .. قالت :

- الكمبيوتر ! .. من أجل الكمبيوتر تفزعنا جميعا ! ! !

- آلو بابا ..صباح الخير ... ماذا تريد ؟

- لقد قضيت ليلة كاملة في إعداد ملف هام جدا .. لكن في الأخير امحى كل المحتوى .

- وماذا في ذلك ؟

- لقد امحت كل الكتابة والصور والجداول و...

قاطعك صوت ابنتك :

- لا تنزعج .. يمكن إرجاع كل شيء بسهولة .

- بسهولة ؟؟

- أجل بسهولة

- ماذا يجب علي أن أفعل ؟

- اضغط على قوس التراجع .

- أي قوس وأي تراجع .

حاولت ابنتك إفهامك لكنك لم تفهم .. فحسمت الأمر قائلة :

- لا تقلق يا أبي .. دع كل شيء كما هو واذهب إلى فراشك .. عند طلوع النهار سوف آتي أنا أو أخي ...

قاطعتها :

- ويرجع المحتوى .

- أجل ..

- كل المحتوى ..

- كل المحتوى

- إلى اللقاء .

- إلى اللقاء.

تركت كل شيء كما هو . ارتميت على الفراش . لم تستيقظ إلا على طرق باب غرفتك .

- من ؟

- قم يا أبي لقد عاد كل ما في الملف .

قفزت من فراشك .. كدت تخرج شبه عار لولا أنك تفطنت في آخر لحظة . لبست ما يسترك وخرجت مسرعا . لا تدري هل رددت التحية أم لم ترد . وقفت أمام الشاشة مبهورا منبهرا . كل كتابتك وجداولك وصورك قد عادت .. كنت خائفا أن يكون شيء من الملف قد اختفى .. كانت ابنتك ترمقك وهي تشاهد فرحة الطفولة في ملامحك كلها .. قلت :

- أنت عظيمة يا ابنتي ..

ابتسمت وهي تقول :

- لم أفعل شيئا يستحق كل هذا .

- بل فعلت وفعلت وفعلت .

أحضرت ابنتك كرسيا ، جلست بجانبك تشرح لك القوس . وما هو دوره ..عرفت دوره وكيفية استخدامه .. قلت :

- كيف يمكن العثور عليه .

- القوس قوسان واحد للتراجع والثاني لتراجع التراجع ..

- فهمت فهمت كيف يمكن العثور عليهما؟

- يمكن استحضارهما عند الحاجة فقط ويمكن تثبيتهما على الشاشة .

هتفت كمن وجد كنزا :

- ثبتيهما .. هذا ما أريد ..

أثبتتهما ابنتك على الشاشة .. قررت أنك لن تكتب شيئا في الكمبيوتر إلا بعد التأكد من وجود القوس .. عادت ابنتك من حيث أتت ..وبقيت تردد في سرك وجهرك :

- يا له من قوس ! ! ! ولكنه قوس بلا وتر ! ! !

عبد الوهاب الفقيه رمضان
  • Like
التفاعلات: نبيلة غنيم

تعليقات

تعايشت مع الحروف التى مررنا جميعا بما تحمله من مواقف
تحياتى لقلمك المبدع
 
أعلى