واسيني الأعرج - «حقيقة حيزية» بين التاريخي والتخييلي؟

كلما طرح سؤال الكتابة عن الشخصيات التاريخية روائياً، أي تلك التي وجدت حقيقة، استحضرت شخصية حيزية (1855-1878) بكثير من الحيرة، ليس خوفاً من الموضوع، فهو عام وواسع ويمكن التعامل معه إبداعياً نظراً لغناه ولتعددية أوجهه، لكن السؤال الثقيل هو كيف ننقل شخصية تشكل اليوم جزءاً من الوجدان المجتمعي العام دون الإخلال بقيمتها الثقافية وقيمتها الإنسانية وقوة حضورها. أي كيف يمكن أن يكون النص المبدَع في قيمة الحكاية الأصلية وتنويعاً عليها، لكن كيف يمكن أن يكون ذلك دون هز اليقينيات الأصلية التي تعود الناس عليها، وفي الوقت نفسه إدراج الجديد الناتج عن التخييل الممكن، وإغنائه أدبياً، وجعل الناس يقبلونه دون رفض مسبق واعتباره جزءاً من مسار عام يتعلق بشخصية هي على حافتي التاريخ والممارسة الأدبية؟ الرهان كبير. جربت ذلك مع مي زيادة بوصفها شخصية تاريخية وُجِدت حقيقة. وكان القبول القرائي والنقدي كبيراً. أضفت وجهاً جديداً لمي زيادة ظل مدفوناً في الظل. بالخصوص مرحلة مرضها في العصفورية، واتهامها بالجنون، ومقاومتها للظلم من خلال كراسة مذكراتها التي أحرقت: ليالي العصفورية. إن مجتمع العشرينيات والثلاثينيات لم يكن أكثر رحمة مع المرأة، في ظل بداية انتشار الفكر الحداثي، إذ مهما تثقفت المرأة، تظل تحت رحمة الطقس الاجتماعي القبلي، المتحكم في نظام التفكير العام. لم يسأل عنها أحد من أصدقائها القدامى، لم يلحظ غيابها كثير من مثقفي ذلك الوقت من العقلانيين من أمثال طه حسين والعقاد وسلامة موسى وأمين الريحاني في البداية، وغيرهم كثير. واصطدم قراء الرواية بمي تشبه مي زادة وتختلف عنها، وتعاطفوا معها ضد المظالم التي لحقت بها. ولكن السؤال الكبير هل حالة مي هي نفسها حالة حيزية؟ صعب القبول بذلك دون السقوط في التسطيح. الفرق كبير. إن شخصية مي ظلت في دائرة الحقيقة، وهي معاصرة لنا، وكتب التاريخ والسير والأدب التي اهتمت بها كثيرة، بينما حيزية هي حالة متفردة. تقع بين الحقيقي الأسطوري. الكتابة عنها اعتمدت على الحقيقة التاريخية المشوشة إذ لا توجد لها أية سيرة حقيقية تناولت حياتها بالتفصيل نظراً لغياب المعلومة الموضوعية. وكل ما نعرفه عن حيزية قادم من حياة افتراضية مصدرها الأوحد هو مرثية شعرية حملت اسمها: قصيدة حيزية لمحمد ابن قيطون، وبعض الشذرات التاريخية غير الدقيقة، حول قبيلتها المبعثرة هنا وهناك. وهذا ينقص كثيراً من معيار الحقيقة واللجوء إلى المعيار الإبداعي بينما القارئ مهيكل معرفياً بأنه يتعامل مع شخصية تاريخية بملامحها وصفاتها وتاريخ قصتها، والحقيقة الثابتة أن منبع ذلك هي رؤية ابن قيطون، كتب عنها بحجة أن القصة وقعت لصديقه سعيد الذي خسر حيزية بسبب مرض طارئ وغامض أدى إلى وفاتها وهي في عز شبابها، ومن شدة آلامه طلب من الشاعر أن يخلد القصة بقصيدة، وهو ما فعله ابن قيطون. وتتوقف القصة هنا. لكن هذه الفرضية تتوفر على فرضيات موتها ولا تاريخيتها اجتماعياً ونفسياً، إذ كيف يمكن لفارسة مثل «حيزية» مات حصانها حزناً عليها في اليوم الثاني الذي أعقب وفاتها (؟) أن تقبل الزواج من شخص موظف عند الفرنسيين مدنياً، حتى لو افترضنا أنه ابن عمها. من الصعب تخيل هذا الزواج في قبيلة عرفت بحسها المقاوم الكبير المضاد للاستعمار؟ السؤال الذي يتردد دائماً: لماذا بقيت حياة حيزية الخاصة سرّاً مغلقاً، مع أن قصّتها العشقية الرسمية يعرفها القاصي والداني وإن كان بأشكال مختلفة؟ هل هناك يد رتبت هذه القصة بكل تفاصيلها كما في قصة قيس وليلى؟ بالخصوص نهايتها التراجيدية أو «الموت الغريب» لتصبح مقبولة ورومانسية أيضاً في ظل نظام قبلي وعروشي شرس نظرته للمرأة لم تتغير إلى اليوم إلا قليلاً؟ لماذا لا يكون الموت الفجائي جريمة أخلاقية (؟) استمر التستر عليها إلى أن وصلنا؟ بعد مرور أكثر من قرن ونصف على قصة حيزية التراجيدية، ما تزال العقلية المتحجرة هي المتحكم في كل شيء؟ أجنحة القبيلة كلها متفقة على الانغلاق على القصة وعدم إظهار الحقيقة التاريخية، مع أن إنسانية القصة تخطت العتبات القبلية والمحلية والوطنية والقومية لتصبح قصة إنسانية لها تفردها ضمن القصص العشقي التراجيدي العالمي.
الأخطر من القصة الغرامية كلها، لغز موتها الذي تقول القصيدة عنه أنه جاء فجائياً بعد رحلة الهضاب، والعودة إلى سيدي خالد. على الرغم من هذه الحيرة، فالمتداول شعبياً، إلا في حالات نادرة، هو أن موتها كان طبيعياً. مرضت فجأة، فتوفيت. في ظل حرقة الحزن، ركض زوجها نحو صديقه الشاعر ابن قيطون وطلب منه أن يكتب له قصيدة عن زوجته المتوفاة يبث فها آلامه، وهو ما فعله الشاعر. هناك قصة أخرى لموتها تتعلق بوالدها وسلطته الثقيلة في القبيلة، الذي فضل تزويجها بشخص من علية القوم بدل حبيبها، فماتت كمداً وحزناً. رواية ثالثة شديدة الخطورة تتعلق ليس بموت ولكن بعملية قتل مدبرة بعد اكتشاف العلاقة؟ في كل الحالات، لم يكن ابن قيطون حسب القصة، إلا وسيطاً شعرياً بين حيزية وحبيبها (سعيد) إذ كان ابن قيطون معروفاً بالمراثي القوية (مرثيته في الشيخ المختار، شيخ زاوية الهامل)؟ السؤال: كيف يمكن لوسيط أدبي أن يلبس لباس سعيد ويدخل في حميميات الزوجين في مجتمع قبلي؟ لنا أن نتخيل رجلاً شرقياً (سعيد) يروي حميمياته وتفاصيله الأيروتيكية مع زوجته لشاعر لا يعرف حفظ السر، في ظل نظام قبلي محافظ؟ إن قصيدة بتلك القوة، وذلك القدر من الألم، والسحر والجمال، لا يمكن أن يكون بطلها إلا الشاعر نفسه. لا يمكن أن يكون إداري صغير في بلدية بسكرة (سونييك) هو مركز القصة. لدرجة أني تخيلته في البداية مجرد قناع لابن قيطون، مثلما كان سيد أحمد بن انجلي قناعاً لسيرفانتس. ولكني اكتشفت لاحقاً أن لسعيد حفيداً اسمه خالد بوعكاز، وأنه حقيقة تاريخية. تزوج ثلاث مرات، الأولى بامرأة كان اسمها حيزية من باتنة لكنها كانت عاقراً، ثم تزوج من قريبته بآية بنت عثمان بوعكاز، ورزق منها ببنت، وبطفلين إسماعيل (والد خالد) وبلقاسم.
وأنا أجوب منطقة بسكرة، وسيدي خالد، والدوسن، وغيرها من مواقع القصة، تلمست بسرعة التناقض الذي صاحب قصة حيزية الذي غزته عقلية الأخلاق، الحب العفيف؟ بصريح العبارة، ما الذي يمنع من نشوء العلاقة الجنسية في قصة مثل هذه؟ لنتأمل هذه الأبيات التي تم نزعها من صلب القصيدة. فقد دونها وحافظ عليها في نهاية القرن التاسع عشر الباحث الفرنسي والعسكري، سونيك ((Sonneck في الجريدة الآسيوية le journal Asiatique، (شهرا يناير وفبراير 1899) لم يكن ذلك الحب عذرياً الذي يحرم لقاء الجسدين. قراءة القصيدة قراءة لغوية من خلال المفردات الإيروتيكية تكشف لنا عن حقيقة العلاقة.
صدرك مثل الرخـــــــام فيه اثنين تـــــوام، من تفـــــــــاح السقام، مسوه يــديـا
بيدي درت الوشــام، في صدر أم حــزام، مختـم تختام في زنود طــــوايــــــــا
ازرق عنق الحمام، ما فيهشي تلــــــطام، مقدود بــــلا قلام، من شغل يديـــــــا
درتــــه بين النهود، نــــزلتـــــه مقــدود، فوق سرار الزنود، حطيت سمــايــــا
يجب إزالة الغطاء الأخلاقي للتمكن من الوصول إلى جوهر قصة حيزية. فالكتابة هي رحلة في المبهم الجميل، لكن المليء بالمزالق والمخاطر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى