مصطفى محمود - الهواجس

انفض الأصدقاء والصديقات وخلا (الصالون) إلا من سيدة البيت التي جلست منزوية في أحد الأركان وكأنها مازالت تتحدث إلى صديقة وفية لم تشأ أن تتركها كما تركها الآخرون فجلست إليها تبادلها الهمس وتسر إلى كوامن الأشجان. . . ولم يكن الحديث إلا حديث النفس تهمس به في ساعات الوحدة فتكشف به ما انطوى في أعماقها البعيدة.

هتف بها إبليس وقد وجد طريقه إلى عقلها الواعي.

- ألست جميلة؟

فرفعت رأسها إلى المرآة لتتأمل السحر الأسود الذي يكمن في عينيها الواسعتين والعقيق الذي يحتل شفتيها الرقيقتين وهتفت في ألم.

- نعم جميلة. . . رائعة!

فأردف إبليس وقد وجد طريقه ممهداً

- وهذا الجمال ألا يذبل؟

فقطعت حاجبيها وامتلأ جبينها بالتجاعيد وغاضت الدماء من خديها وطالعتها مئات من الصور البشعة ولم تجب، فاسترسل إبليس وقد شاع الحزن في نبراته.

- نعم إنه يذبل. . . ويترك وراءه الأسى والأحزان.

ثم صمت فترة وتركها بين أشتات الهواجس. ثم عاد يقول:

ولكنك جميلة الآن. . . ألا ما أجمل هذه الكلمة (الآن) إنها الكلمة الوحيدة التي تحوي كل شيء. . . فما أشد غفلة الإنسان حينما ينسى بهجة الحاضرة ويتعزى بلذائذ الأوهام.

- جميلة. . . وما الجمال، ولماذا خلق؟

- الجمال. ولماذا خلق؟. وهل خلق الجمال إلا لاجتذاب الفراش.

- الفراش. . . يا للشرير. . حقاً لقد ذكرتني أنه لا يفتأ يتهافت على كما يتهافت على النور الساطع. . . ولكن هناك زوجي. . . زوجي دائماً.

- آه، هذا الفراش العجوز الذي فقد جناحيه، يا للمأساة كم أضحك حينما أراه يتودد إليك وأسمعه يفتح فمه الواسع الخالي من الأسنان ويقول (أحبك). . . كم يبدو بشعاً قبيحاً ثقيل الظل. . . أليست هذه سخرية مريرة من سخريات الحياة، أين هو من فهمي وصبحي وصفوت من هؤلاء الشباب ذوي الخدود الوردية والدماء الحارة.

والضمير. . . أنسيته؟

- هذا المخلوق الهزيل الذي لا يني يحدثنا بالأباطيل ويهرب بنا من الواقع ليجد كنفاً أميناً في أحضان الخيال والوهم. . . إنه ألذع السخريات التي ابتكرها العقل ليحارب بها فطرة الجسم وطبيعته. . . إني أربأ عن الخضوع لهذا المرض الذي يسمونه الضمير.

- مرض؟!. . . يا للبشاعة؟!

- نعم إنه مرض عقلي. . . يقضي على كل راحة ولذة وصفاء وهناء في الحياة.

وسكت الشيطان بعد أن أوقعها في أحابيله وتركها تعاني الوساوس وتتقلب بين نوازع الشر وتبحث في أعماق نفسها المضطرمة عن الملاذ الأمين الذي تسكن إليه وترتاح إلى نجواه. . . وأخيراً جاءها صوت الخير رقيقاً ملائكياً.

- أنت أيتها الباحثة عن اللذة. . . هل وجدت لذة فيما سلف من أيامك.

- لا. . . ما وجدت إلا الألم.

- وحينما كنت تبلغين أمانيك.

- كانت تبدو هزيلة أمامي وتفقد سحرها الماضي فلا يسعني إبقاء على اللذة وخيالها الحبيب إلا الاستسلام إلى أماني ورغبات جديدة.

- وهكذا ظلت حياتك رغبات وآمال كاذبة، ولذة مفقودة لا تورث إلا الألم والحسرة.

- نعم هكذا ظلت دائماً. . . رغبة جائعة نهمة لا تشبع.

- ولن تشبع.

- نعم لقد بدأت أرى أنها لن تشبع.

- وهكذا الحياة. . . آلام تتفاوت مقاديرها. . . فحسب العاقل أن يخرج منها بالقليل من الألم. . . أما اللذة فهي غاية الأحمق ولن يحصل منها إلا على غاية الألم.

- لقد فهمت الآن. . . فهمت الآن. . . ما أجمل كلام. . . انك حكيم

وسكت الخير قانعاً وانطوى في أعماق النفس بينما أخرج إبليس لسانه السليط وعاد يقول:

ولكن بالرغم من كل هذا الكلام فهناك لذة. . . أولى بالضعيف أن يقول:

(إنني بائس) من أن يقول: (إن الحياة مليئة بالبؤس) نعم صدقيني يا سيدتي إن الحياة مليئة باللذة وهي تنتظر إيماءة من رأسك الجميل لتقدم إليك الحب، تحية الجمال، واللذة ثمرته اليانعة الغضة. فلا تترددي وتذكري أن الزمن يرسم خطوطه الكريهة على الوجه الجميل، وينزع السواد عن الشعور الفاحمة ويطفئ بريق الحياة من العيون المليئة بالحياة. - كفى أيها الشرير. . . كفى.

- ويقوس الظهور التي لم تتعود ذل الانحناء ويتقل الأصدقاء ويشتت الأحباء، ويقدم الصاب والعلقم في كؤوس الوحدة والسأم والمرض وأخيراً يفتح لنا باب القبر على مصراعيه ويهيل علينا التراب. . . ذلك التراب الذي كنا نطؤه بأقدامنا.

- رفقاً بالنفس الضعيفة يا رسول السوء.

- وهو لا يرحم. . . فأولى بنا ألا نرحمه. . . وأن نقتله كسباً ولذة وحياة فعقارب الساعة لن تقف دقيقة واحدة من أجلنا والشمس لنا تقف عن دورتها يوما لتعطينا فسحة للتفكير.

- أنت. . . أنت هو العذاب والجحيم نفسه فكفاني من لهيب ألسنتك يا هاتف الشر. . . فلو لم تتكلم لكنت الآن سعيدة قانعة راضية. . . أما الآن. . . فالويل لي من جحيم النفس. . . الويل.

- عجباً من هذا الإنسان ومن منطقه الأعرج. . . أدفعه إلى اللذة فيقول إنني إبليس اللعين. . . ويسمع هاتفاً آخر يدفعه إلى الألم والعذاب والحرمان فيقول هذا ملاك الخير. . . أليست هذه كبرى مهازل العقل.

وسكت إبليس وهو يبتسم ويرقب الصراع الأليم والعذاب يتجسمان في ملامح المرأة التعسة والدموع تطفر من عينيها والعناء النفسي يبدو في أصابعها الشاحبة الباردة وهي تتصلب وترتعد في عصبية وسمعها تهمس وهي تبكي.

- حقاً ما أضعف الإنسان يشقى في الحياة ويعاني حتى إذا ما سكن وهدأ واستقر. . . شقي في نفسه.

وتيقظ الخير من نومه العميق فقال في نبراته الحزينة.

- نعم. . . لقد أدركت الآن لم أجر ورائي مواكب الألم والحرمان لأني أفضلها على مواكب الوهم.

وسكت هاتف الخير وهاتف الشر وغرقت أصوات النفس في أصوات الحياة حينما امتلأت الحجرة بأشباح صغيرة. . . وقامت المرأة المعذبة تمسح دموعها وتستقبل لوناً جديداً من ألوان الكفاح والعناء.

ومرت الأيام والشهور وتزوجت الشابة الجميلة من شاب جميل. . . فهل ماتت الهواجس. . . وهل حصلت النفس على راحتها؟ لا يا سيدي. . . إن قصة الهواجس قصة حية خالدة ما خلدت النفس فيها هي صاحبتنا التعسة في (صالون) آخر ربما كان أبهى وأجمل من زميله القديم ولكنها لا ترى هذا الجمال ولا تشعر به بل ترى بعين النفس وفي مرآتها عشرات من أشباح النساء الجميلات تلتف كالأفاعي حول الزوج الجميل. . . وتسمع صوت إبليس يصرخ.

- إنه لم ينم هنا البارحة وتعلل بالأسباب والمعاذير. . . ولكن من يدري في أي أحضان قضى تلك الليلة. . . يا لك من ساذجة. . . لماذا لا تقابلين الخيانة بالخيانة. . . إن أمين يتمنى لو.

وتكاد تضعف وتخضع حينما تسمع صوت الخير يهتف.

- يا للمسكين. لقد بات ليلته مسهداً يفكر فيك ويستعجل أنوار الصباح ليلقاك. . . يا له من زوج وفي.

وتحار الزوجة التعسة وتتعذب، وليست هذه هي المرة الأولى التي تحار فيها وتتعذب. . . فقصة الهواجس تكون حياتها كما تكون حياة كل إنسان وحياة كل نفس فما أشقى نفوسنا نحن البشر وهي تتمزق تحت ضغط القوة الهائلة التي ركبت فيها.




مصطفى محمود



مجلة الرسالة - العدد 732
بتاريخ: 14 - 07 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى