مصطفى ملح - نور العشق ونار الميثولوجيا.. مصافحة لديوان ( تراتيل الجمار الخابية ) للشاعر عبد الله فراجي

في ”تراتيل الجمار الخابية“ للشاعر عبد الله فراجي تتحرّك اللّغة مستندة إلى نار العشق وامتداد التّاريخ وورشة الشّعر. كلّ مستوى من هذه المستويات يحضر ليتفاعل مع باقي المستويات الأخرى بصورة فيها تشاكل وانسجام. واللاّفت في هذه ”التّراتيل“ هو انفتاح الذّات على الآخر البعيد على مستوى التّحقّق الجغرافي، والقريب حدّ التوّحّد. والآخر قد يكون مكانا: (بابل، بيروت، بغداد، الرّوم..) وقد يكون أسماء علم ذات دلالات مختلفة: (عمر، الحلاّج، صلاح الدّين..) وتارة يكون الآخر متّصلا اتّصالا وثيقا بالأسطورة والميثولوجيا والرّمز: (المسيح، أوليس، السّندباد، دونكيشوط..)..
.
ولعلّ المثير في هذه التّجربة الشّعريّة هو تيمة العشق، كأنّما الشّاعر يروم خلاصا ممكنا عبر تفجير مشاعره على ورق ظمآن، أو كأنّ العشق هو المعادل الموضوعي لواقع يعجّ بالفوضى العبث، فهو بذلك يسعى إلى أن يضع الزّهرة مكان الرّشّاش، وأن يستبدل الرّصاصة بالأغنية. والتّيمة الثّانية تتعلّق بتعرية شعريّة لواقع مؤلم، فما استحضاره لصلاح الدّين وعمر والحلاّج وغيرهم إلا للتّعبير عن رفضه لموت المعنى بهذا الواقع المتوحّش، واضمحلال قيم الحقّ والجمال داخله.
.
إنّ ”تراتيل الجمار الخابية“ ديوان شعريّ أزعم أنّه متماسك دلاليّا، بمعنى أنّه ليس مجرّد تجميع لنصوص وإقحامها بين دفّتي كتاب، وإنّما استطاعت نصوصه أن تخلق الوحدة، وأن تحقّق الانسجام. والجدير بالإشارة أنّ الشّاعر كان حاضرا بقوّة في الورشة التّخييليّة لعوالمه المجازيّة، إذ أنّ موضوع الكتابة شكّل حضوره المعجميّ حقلا دلاليّا أساسيّا:(لكن أتيت منافحا في أحرفي عن أحرفي/ عبارتي/ وأكتب أجمل الأشعار في قدري/ أخطّط في متون الشّوق.. نار قصيدتي/ لأنقش الأشعار/ وعلى دفاترها التي رضعتها دررا/ حروفا من بهاء كالسّنا/ أدبّج أحرفي/ رسمتها حرفا فحرفا/ في قصائدها/ ونقشتها.. في السّحاب بأحرفي/ ومن القريض قصيدة/ همسها في القوافي قداسة حرف/ قواف لها أينعت في يراعي..). هذا الحضور اللاّفت للقصيدة وكل شجرتها اللّسانيّة دليل على انشغال الشّاعر بهمّ الكتابة كصنعة إضافة إلى كونها تعبيرا أو موقفا أو إحساسا. قديما ألمح الجاحظ إلى أنّ المعاني مطروحة في الطّرقات، وإنّما الشّعر هو مهارة صياغتها..
.
إنّ تجربة الشّاعر عبد الله فراجي تجربة حيّة باتّكائها على تذويت المقول الشّعري دون إغراق أو مبالغة، بل إنّ الذّات في نهاية المطاف ليس سوى الآخر في طموحه وآلالمه وفرحه وحزنه وطموحه إلى كتابة القصيدة نكاية بالصّمت والعبث. وأخيرا أقرّ بأنّ ”تراتيل الجمار الخابية“ مجموعة شعريّة تستحقّ النّشر والتّداول لتخلق مصافحة حقيقيّة مع قارئها..
.

مصطفى ملح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى