علي حيدر الركابي - داخل أسوار الفقر

كانت حياتها مثل نفسها، واضحة المعالم وخالية من العقد وكانت لهذه الحياة البسيطة حدود ضيقة عاشت في داخلها ولم تكد تحس بما وراءها.

ما عرفت لها أماً بل عرفت نفسها أماً لأخوتها الصغار ترعاهم وهي لا تكبرهم إلا قليلا وتقوم على خدمة أبيها. انصرفت إلى أداء واجبها نحوهم جميعاً بكل ما أوتيت من إخلاص وقوة ومعرفة. أما الإخلاص فلم يكن من النوع الذي تعرفه المعاجم أو يعرفه الناس في مجتمع أرقى بل كان شيئاً مبهماً موروثاً تحركت به غريزة هذه الفتاة الريفية وما كانت لتستطيع تفسيره بالألفاظ حتى لو أرادت ذلك، بل كان يدفعها دفعاً عفوياً نحو الحدب على أخوتها لأنهم أضعف منها ولأنها أكبرهم ونحو خدمة أبيها لأنه أبوها، وحسبها أنه أبوها تبذل له الطاعة من جهتها ويتولى من جهته حمايتها من أخطار مجهولة. أما القوة فبدأت ضئيلة ثم نمت بنموها وهي في الحالين قوة فتاة ريفية سليمة الجسم أما المعرفة فهي مزيج ابتدائي من عادات وتقاليد انتقلت إليها شيئاً فشيئاً من أبيها أو جاراتها أو عابري السبيل تلتقط من هذا كلمة ومن ذاك أخرى فتتشكل من مجموع ما التقطت فلسفة ابتدائية للحياة أساسها القناعة والتسليم. ولما عجزت تلك (المعرفة) العجيبة عن مقاومة المرض الذي نزل باخوتها ثم الموت الذي اختطفهم الواحد بعد الآخر عملت تلك الفلسفة في نفسها عملها فطأطأت رأسها للقدر المحتوم وإن دهشت إذ لم يصبها ما أصابهم وأرجعت ذلك إلى عوامل مختلفة، ولم يكن ليخطر في بالها أنها إن سلمت فلم يكن ذلك إلا بفضل من الله وحده.

كانت حياتها مع أبيها في عرف الناس حياة بؤس وشقاء ولكنها ما كانت لتفكر في ذلك لأنها لم تعرف غير البؤس والشقاء: في قلبهما ولدت وعليهما فتحت عينيها ثم في كنفهما نشأت وترعرعت. فكانت حالة البؤس والشقاء هي الحالة الطبيعية، وأما ما سواها فشاذ. ولم يكن بها تطلع لسواها أو قدرة على المفاضلة بينها وبين سواها. كان السواد هو اللون الطاغي على كل ما يتصل بها من مسكن وملبس ومأكل فإذا دخل على هذا السواد بياض فهو ضئيل ولا يبدل ألوان حياتها القائمة بما هو أزهى بل جل ما يتوصل إليه هو أن يحولها أحياناً إلى لون الرماد!

وكما يعيش الموسرون في عزلة غافلين عن كل شيء خلا مالهم الموروث أو المكنوز ورفاههم المستقر، كذلك عاشت هي في عزلة تامة غافلة عن كل شيء خلا فقرها الموروث وضنكها المستقر

ثم دخلت حياتها حالة جديدة رافقها من الأوجاع والظواهر الجسدية ما أفزعها ولكنها ما لبثت أن اطمأنت إليها إثر ما تولتها به إحدى جاراتها من شرح وإرشاد ثم نسيتها تماماً حين انتقلت من دار أبيها إلى دار بعلها فغابت تلك الآلام الجسدية في نوع جديد من النشوة ما عتم أن احتل مكانه التقليدي بين معالم حياتها الرتيبة.

لم تكن دار أبيها داراً بالمعنى المعروف عند الناس بل كانت بقية من بناء متهدم في طرف القرية ليس له مالك على ما يظهر، أو إن كان له مالك، فلم يكن له به حاجة أو اهتمام. ولم يكن انتقالها إلى دار زوجها عرساً بالمعنى المألوف لأن أباها كان غريباً عن تلك القرية فلم يكن له فيها أهل أو عشير ولم تسمح لها حياة الكدح بأن يكون لها صواحب وأتراب، وكان زوجها كذلك غريب الدار. فلولا بعض الجيران وبعض رفقاء الزوج ولولا عدد من الناس لا يكاد يتجاوز أصابع اليد لما ارتدى ذلك الانتقال طابعه الخاص، ولولا محاولات قامت بها بعض جاراتها بدفع من قوة أجيال من التقاليد الموروثة لما أزهرت حياتها قليلا للمرة الأولى والأخيرة ولما اطرحت ألوانها الباهتة إطراحاً قصير الأمد

ولم تكن دار زوجها كذلك داراً بالمعنى المعروف بل كانت واحدة من تلك الأكواخ الضيقة الحقيرة يبتنيها العمال الزراعيون في أطراف المزارع ليكونوا على مقربة من الحقول التي يعملون فيها مأجورين، يبنونها بأيديهم من التراب المجبول بعرقهم فلا يكلفهم البناء مالا. وكما يعيش النمل في حفر يستقطعها من أرض الله كذلك يعيش هؤلاء العمال في تلك (الحفر) الطينية المسماة بقرى العمال يستقطعونها من أرض المالك، وكما يروح النمل ويغدو بصمت وإصرار حاملا إلى تلك الحفر المؤن التي تقيه عاديات الزمان كذلك يروح هؤلاء العمال ويغدون بين الحقل والكوخ صامتين صابرين ساعين إلى الحصول على قليل من الزاد يتبلغون به ولا يكاد بقى أجسامهم المكدودة عاديات الزمان، وكما يعمل النمل بإخلاص منصرفاً بتمامه عن العالم الخارجي الذي لا يعرفه ولا يفهمه كذلك يغنى العمال في علمهم ولا يكادون يحسون بما هو خارج عن عالمهم، وكما ينظر العالم الخارجي إلى النمل فيراه مخلوقاً أسود ضعيفاً وحقيراً لا يستحق الاهتمام كذلك ينظر هذا العالم إلى سواد العمال وحقارتهم وضعفهم فيشيح عنهم بوجهه، وكما أن النمل لم يلق الاهتمام إلى عند طائفة العلماء وهو اهتمام نظري لا يجني منه النمل نفعاً بل يعود نفعه على العالم والتاريخ كذلك اهتم بعض العلماء بشئون العمال اهتماماً نظرياً لا ينفع العمال أنفسهم في قليل أو كثير بل يعود نفعه على العلم والتاريخ ودوائر الإحصاء. وأخيراً، كما يعبث طفل بحفرة للنمل فيهدمها بقدمه ويسلط عليها الماء أو يعمد رجل إلى هدم الحفرة ليتخلص من تلك الحشرات البغيضة كذلك تعبث قوى الطبيعة بالأكواخ فيجرفها سيل أو يغمرها فيضان وتهدمها ريح أو تدكها صاعقة، هذا إذا لم يتعمد هدمها السيد المالك نفسه فيجليهم عنها لسبب من الأسباب المتصلة بمصلحته هو التي ليس لها أدنى علاقة بمصلحتهم هم.

وما كانت هذه الأمور - كلها أو بعضها - لتشغل حيزاً من تفكيرها بل راحت تخدم زوجها بدفع من الغريزة ذاتها التي حملتها على خدمة أبيها قبله، فهو رجلها وهو المكلف بحراستها من الأقطار المجهولة وهي امرأته وعليها له واجبان: الخدمة والطاعة.

لم تكن حياتها عند زوجها إلا امتداداً لما اعتادته في حياتها عند أبيها من جهد متصل وحرمان متأصل وبؤس وشقاء مقيمين.

ومع ذلك فقد دخل على حياتها الثانية عنصران جديدان أولهما ذلك الحب الذي يولد في قلب كل فتاة ليلة زفافها ولاسيما حين تكون في سن مبكرة وحين يكون الزوج أول رجل عرفته، وثانيهما الأوجاع التي كانت تتحملها من جراء ضرب زوجها إياها ضرباً قاسياً في أكثر الأيام عقب عودته من الحقل في المساء.

ولكن بهجة ذلك الحب وأوجاع هذا الضرب ما لبثتا أن استقرتا في حياتها استقرار العادة المألوفة فتحول الحب بلذته وبما يخلفه من الآم في الحمل والوضع، إلى عمل رتيب آلي مثل طهي الطعام وغسيل الملابس وكذلك الضرب ولاسيما أنها باتت تتلقاه بشيء من القناعة لأنها أحست بأن الدافع إليه لم يكن رغبة من رجلها في الإساءة إليها بل كان ناشئاً عن عوامل مستقلة عنها فما كانت هي إلا أداة طارئة للتنفيذ، مما أكد لها ذلك أن الضرب لم يبدل شيئاً من العلاقة الاعتيادية القائمة بينهما وأنه كان في الغالب حين يفرغ من ضربها يتركها برهة تكفكف دموعها ثم يعود إليها ليجرها، ثم ليطرحها إلى جانبه في فراشهما الحقير المشترك. ولو أوتيت ثقافة ووعياً لعلمت أن ما أحست به بغريزتها هو الواقع، وأن ضرب زوجها لها ما كان إلا انتقاماً لا شعورياً من مجتمع ظالم لم يعترف بوجوده كانسان فثار في نفسه وأراد أن يؤكد وجوده بشكل من الأشكال، وهو إلى جانب ذلك انتقام لا شعوري من نظام مقلوب لم يعترف له بالقوة والرجولة فثار كذلك وأراد أن يدلل على أنه قوي وأنه رجل.

قضت مع زوجها أعواماً لا تعرف لها عداً أو حصراً لأن الزمان وأقسامه لا يدخل في حساب من كانت حياتهم تسير على وتيرة واحدة لا فرق بين يومها وأمسها ولا يخبئ غدها غاية تحرك شوقاً أو تحيي أملا. كان يمكن أن تعرف تلك السنين من عدد أطفالها وأعمارهم ولكن هذا كان متعذراً لأنها ولدت له عدداً كبيراً من الذكور والإناث اختطف الموت أكثرهم وأبقى بعضهم كما اختطف قبلهم أخوتها وبقيت هي. ولم يترك موتهم أثراً عميقاً في نفسها وإن حزنت عليهم الحزن الشكلي التقليدي.

كذلك فعلت حين أدركت أباها الوفاة. ولم يكن هذا وليد نقص في حبها له أو لهم بل كان منشؤه ازدحام حياتها بأسباب الحزن والشقاء وهي عوامل لا تؤدي إلى كبير تعلق بالحياة أو عزوف عن الموت، وفي دنيا رتيبة قاتمة يحتل الموت مكانه التافه بين سائر عناصر تلك الحياة التافهة.

وانتقلت مع زوجها وأطفالها من مكان إلى آخر في الأرياف تبعاً لأهواء السادة مالكي الأرض والأرواح وسعياً وراء الرزق وهي إذ لم تختلف حياتها بين مكان ومكان، لم تحزن لفراق كوخ ولا فرحت لاستقبال كوخ فالكل عندها طارئ وغابر والكل عندها موقت مادام صلتها بالأرض وأهلها صلة عابرة ولا تربطها بها أو بهم تلك الروابط الضرورية الثابتة التي تجعل من الأرض وطناً وتخلق من نفوس سكانها عاطفة حب الوطن.

وفي مساء يوم مشئوم غادر رجلها الكوخ ولم يعد وآوت هي إلى فراشها وضمت إليها أطفالها تتولى في غيابه حراستهم من أخطار مجهولة. وتملكها الشك حين تقدم الليل دون أن يعود ثم استولى عليها الخوف حين سمعت في جوف الليل طلقات نارية وفي الصباح جاءها وكيل مالك الأرض وأبلغها مقتل زوجها إثر شجار نشب بين بعض الفلاحين وأن القتلى دفنوا حيث وجدوا وأن لا حاجة لإبلاغ الشرطة مادام عدد القتلى من الطرفين متساوياً فلماذا تحشر الحكومة في الأمر فتزعج وتنزعج وإن عليها أن تخلي الكوخ فوراُ لمن سيحل فيه محلها. قال الوكيل كلمته هادئاً وانصرف مطمئناً وكأنه ما أتى ليخرب بيتاً بل ليوجه تعليماته اليومية حول سقاية أو زرع. لم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف أو تقليد يرغم مالك الأرض والأرواح على أن يحول جزءاً يسيراً من ماله الوفير عن سبل صرفه - أو كنزه - الاعتيادية ليعوض به على أسرة بائسة فقد معيلها، ولم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف تقليدي يرغم الفلاحين على أن يمدوا يد المساعدة إلى أسرة كهذه ولاسيما أن ما يملكونه لا يكاد يسد الحد الأدنى من حاجاتهم البسيطة. ولكن المسألة ليس مسألة عرف أو نظام بل هي مسألة شعور الإنسان نحو أخيه الإنسان وهو شعور تسمو به نفوس الفقراء غالباً ولا تستطيع أن تسمو به النفوس الفقيرة قط.

وهكذا غادرت الكوخ مع أطفالها مزودة بما جمعه لها الفلاحون زملاء زوجها الراحل من زاد حقير ومال قليل وتوجهت نحو المدينة البعيدة حيث قيل لها أنها قد تجد عملا تتعيش به وتنفق منه على أولادها. كانت الرحلة طويلة وشاقة أدمت على خشونتهما قدميها. ولكن عطف عليها مرة سائق يقود سيارة للشحن رق لحالها وأطفالها فأركبهم جميعاً وجنبهم تعب المرحلة الأخيرة. ودخلت المدينة على ظهر تلك السيارة فلم تحس بأنها دخلتها لأن الراحة النسبية خدرت أعصابها المرهقة فنامت ملء جفونها ولم تستيقظ إلى على صوت السائق يدعوها إلى النزول فنزلت وسحبت أطفالها لا تدري إلى أين.

مرت في رحلتها بمزارع غنية وحدائق غناء وقصور متكئة على تلك المزارع والحدائق ومرت بها على الطريق سيارات فخمة بحمولتها الثمينة من رجال أو نساء استدارت وجوههم وتكورت بطونهم، وهنا في المدينة سارت لأول مرة بين الأبنية الجميلة وفي الشوارع العريضة المستقيمة وعلى بعد خطوات من معالمها البارزة وعلى مسمع ومرأى من شبابها المتحمسين وقادتها المصلحين ولكنها لم تكد ترى شيئاً أو أحداً لأن انتقالها هذا إلى المدينة لم يكن ليختلف عن تنقلاتها السابقة مذ غادرت بيت أبيها فهي تسير منذ الأزل باحثة عن رزق ومأوى وهي عالمة بأن رزقها الكفاف أو أقل وأن مأواها خرابة أو كوخ - أو ما هو دونها.

أما تلك الدور والأبنية التي مرت بها فليست منها في شيء ولم تخلق لها ولا صلة لها بأهلها فدنياها غير دنياهم وقومها غير قومهم. كانت هذه الحقائق مستقرة في أعماقها دون أن تتكلف عناء التفكير فيها ولذلك لم تكن لتشعر نحو هذه المجموعة الأجنبية من الناس بكره أو حسد فلو دعاها داع إلى الثورة عليها لما لبث الدعوة ولاتهمت الداعي في عقله.

وكما عاشت في غفلة عن القصور وسكانها وعن المدينة وأهلها كذلك أغفلها هؤلاء جميعاً وتابعوا حياتهم اليومية وهم قانعون بأنهم إنما يستوفون حقهم المشروع لأنهم الفئة التي اختارها الله وخصها من دون غيرها بالنعم والميزات. أما تلك الجموع الفقيرة التي تتدافع بالمناكب لتطعم من فتات موائدهم الزاخرة فهي في نظرهم سوائم لا تستحق غير الفتات. إن هؤلاء السادة الأكارم أشبه بالدول المعظمة في هيئة الأمم المتحدة. في أيديهم الحل والعقد وفي جيوبهم مفاتيح الثروة المغلقة أبوابها في وجه غيرهم، وكل ما يجري بدفع منهم ولتأمين مصالحهم هم، وحدهم لا شريك لهم ثم إن هؤلاء السادة الأكارم يتمتعون بما تتمتع به تلك الدول المعظمة من حق (الفيتو) وحق الاحتفاظ بسر القنبلة الذرية والدولار!

ولكن، أنى لمثلها أن يعي شيئاً من ذلك؟. . .

لاقت في المدينة إعراضاً لأن الناس لا يستخدمون أماً مثقلة بعدد من الأطفال ولاسيما إذا كانت ريفية جاهلة قذرة. كانت تطوف في النهار على البيوت طوافاً مضطرباً فتعرض خدماتها وتتلقى الرفض مصبوباً في قوالب مختلفة بعضها جميل وجلها بشع مخيف. وكانت تجود عليها بعض البيوت بشيء من الطعام أو اللباس أو بدراهم معدودات أما الليل فكانت تختار له جانباً من طريق تأوي إليه مع أطفالها فإذا ما ناموا ظلت هي ساهرة تحرسهم من المارة والهوام حتى إذا تقدم الليل ونقص عدد العابرين وغلبها التعب والنعاس استلقت على الأرض إلى جانبهم وأحاطتهم بذراعيها ثم استسلمت مرغمة للنوم. ولحظت بعد حين أن بعض المارة يتصدقون عليها بدراهم يلقونها بين يديها دون أن تسألهم ذلك لقد أدهشها الأمر في البداية، ولكنها ما لبثت أن قنعت بأن الاستجداء هو العمل الوحيد المفتوح بابه لها فامتهنته وراحت تطلب الصدقة نهاراً من سكان البيوت وليلا من المارين. وفزعت من الشتاء حين دهمها بمطره وبرده فراحت توزع نهارها بين السؤال وبين البحث عن مكان تقضي فيه الليل بسلامة نسبية.

ولكن الرطوبة الشديدة والبرد القارس لا يرحمان الفقراء الذين لا يعرفون دفء المسكن والملبس والمأكل وليس في مقدورهم الاستعانة بطبيب أو اللجوء إلى مستشفى ففقدت بالبرد أحد أطفالها ووارته التراب في طرف المدينة دون أن تعلم بأن الدين فرض على الناس عند الوفاة طقوساً وصلوات.

الدين؟ وما الذي تعرفه هي عن الدين سوى أنه لفظ يفيدها في القسم أحياناً هو وعدد من الألفاظ الأخرى كاسم الله والنبي وبعض الأئمة والأولياء حفظتها بالسماع دون أن تعلم أن لهم في الكون وظيفة تنفع في غير الإيمان والدعوات. كان هذا كل ما تعرفه عن الدين، هذا وما سمعته من أبيها وزوجها عن زيارة يقوم بها الناس إلى بعض الأماكن المقدسة حيث يتعبدون ويدعون الله فيستجيب لدعواتهم. كانت تود أن تقوم بمثل هذه الزيارات لعل الله يمن عليها بما يساعدها على تربية أطفالها ولكن أنى لها ذلك وهي ما تزال تذكر رحلتها الأخيرة إلى المدينة بخوف ولا تحس بشجاعة كافية تدفعها إلى المخاطرة برحلة جديدة نحو المجهول.

وانقضى الشتاء فخفت آلامها بعد أن كاد البرد في شدته يقضي عليها وبعد أن كادت تعتقد أن الموت أدركها ذات ليلة فبكت وضمت إليها من تبقى من أولادها وأسلمت نفسها إلى غيبوبة طويلة أفاقت منها صحيحة قوية وأطفالها من حولها ينتظرون قيامها وقد أضناهم الجوع. ولم تدر مدى الزمن الذي انقضى وهي في حالة الإغماء ولكنها تعلم أنها بقيت لأولادها وتغلبت على الشتاء. وأتى الربيع فظنت أن قد زالت الأخطار ولكن يد الموت امتدت من جديد وتناولت من بين يديها ولداً آخر كان يهذي في ساعاته الأخيرة وكانت حرارة رأسه كحرارة الجمر. . .

وأقبل الصيف فانتعشت قليلا وراحت تغسل أولادها وملابسهم في النهر دون أن تخشى عواقب البرد واستمرت تعيش عيشتها البسيطة قانعة بالقليل من الذي تجود به أكف المحسنين فإذا ما هل شهر رمضان لم يكن له عندها سوى معنى واحد وهو أن عدد المتصدقين قد يزداد في الشهر المبارك ولعها تستطيع بهذه الزيادة أن تبتاع لأولادها مزيداً من طعام أو تحصل لهم على لباس يحل محل الأطمار أو الخرق التي لا تكاد تستر أجسامهم.

وأقبل العيد فقضت ليلته في طواف الشارع على عادتها وقد انتصبت في جلستها على الأرض تحرس أطفالها النائمين حولها، ولماذا لا تقضي ليلة العيد على حافة الطريق وهي واحدة من لياليها لا تفضلها في قليل أو كثير؟ لأي سبب من الأسباب يسهر أطفالها ولم يكن ليؤرق جفونهم شوق إلى مفاجأته؟ إن أملاً ضعيفاً ليداعب خيال هذه الأم فتتمنى أن يأتي لها العيد بما لم يحققه رمضان لكي تبتاع لأولادها بعض ما يحتاجون. ولم تكد عيناها تذوقان لهم النوم في تلك الليلة: لم يؤرقها ذلك الأمل ولا أقض مضجعها هم فالهموم لا تقض مضجع من لا يعرف غير الهموم، والأمل لا يؤرق من لا تحقق له الحياة أملاً واحداً، بل هي لم تنم لأن الشارع لم ينقطع ضجيجه في تلك الليلة وظل زاخراً بجمهور من الناس يهرعون إلى الأسواق في آخر لحظة ليكملوا نواقص العيد الذي لن يكون عيداً إذا لم تزدحم مائدة الأسرة بكل ما يفرضه العرف، وإذا لم ينل جميع أفراد الأسرة نصيبهم المقرر من الهدايا. إنهم يتضاحكون ويتدافعون في تلك الساعات الأخيرة ليحفظوا لصغارهم وكبارهم بهجة العيد. وما يكاد ينقطع عن الطريق سيلهم الصاخب حتى تقذف البيوت بأفواج جديدة من الناس وهم الأتقياء المتعبدون الذين يتسابقون إلى بيوت الله في الساعات الأخيرة من تلك الليلة الفضيلة ليكونوا في طليعة المؤمنين الذين يستقبلون فجر العيد بالصلاة والدعاء.

لو شاء إنسان أن يزور الدائرة الرسمية المختصة متسلحاً بعزم العلماء وبصبرهم، ولو شاء أن يبحث بين أكداس الأوراق والملفات عن سجل هذه الأم وأطفالها - إذن لوجدهم في عرف الحكومة، في عداد الأحياء من بني الإنسان الذين يحملون أسماء ولهم جنسية ودين.

بغداد

علي حيدر الركابي



مجلة الرسالة - العدد 741
بتاريخ: 15 - 09 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى