عثمان طه شاهين - الشرارة الأولى..

أخذت المدينة بأجمعها تستروح النسيم العليل ودلف إبراهيم - كعادته - إلى الشاطئ ليلقى بنفسه في أحضان الطبيعة من عناء يومه المنصرم وليستقبل الحياة الجديدة في غده السعيد، بيد أن إبراهيم لم يستطع أن يتخلص من تأملاته إلا قليلا إذ كانت روحة شاردة كأنها تريد أن تبحث عن سر الصمت العجيب الذي يلف الكون والناس والأشياء، فأخذ يتجه ببصره إلى الأنوار الجميلة التي تبعثها قصور المدينة وطرقاتها، مودعة النهار، مستقبلة الليل كما يستقبله الأحياء. . .

جلس إبراهيم على مقعد خشبي تجاه الشاطئ يرقب المياه المصطخبة ويتمثل الحسن الرائع الذي سكبته الشمس على الشاطئ وهي تكاد تودع يومها المكدود، والناس من حوله فرحون مستبشرون ضاحكون عابثون في أغلب الأحيان، ولكن صاحبنا شارد اللب، ساهم الطرف، والرؤى والأشباح تتراءى أمام ناظريه في هذه اللحظة السعيدة، وكل ما في الوجود ينبئ عن شيء جديد. . . أخذت الشمس تبتعد شيئاً فشيئاً وأخذ الأصيل يفقد بهجته ورواءه، وجيوش الظلام مسرعة، ملحفة في الإسراع، والناس فرحون مستبشرون يودعون الأصيل الحبيب كما ودعوا نهارهم الذي كانت فيه بقية من قيظ وسحابة من عبوس، وأخذ إبراهيم يبعد نفسه عن المقعد الخشبي الذي ألف الجلوس عليه عند الشاطئ ليستقبل الليل. . . .

آوى إلى غرفته يطلب الراحة والاطمئنان وترددت في نفسه هذه الأحاسيس المتباينة من أضواء الحياة ومساربها وأخذ يستعيد الصور الجمة المتباينة ليبتعد بها عن عالم المحسوس. . . أخذت الخليقة تسلم أنفاسها لسلطان الكرى، وأخذت جيوش الظلام تتسلل إلى المدينة رويداً رويدا حتى لفتها بالغطاء الموحش الكئيب، وأضواء المصابيح تبدو خافته باهتة أمام هذا السكون، وإبراهيم يتطلع من نافذته ليبصر الكون، والكون - من حوله - صامت لا يبين، والأغصان هادئة ساكنة والدجى مهود وسنان. يسرح الطرف ناظراً إلى بعيد، محاولا سبر المستقبل ومعرفة الغد القريب، بيد أن المستقبل عالم مجهول. وأحداث الماضي تتراءى ماثلة للعيان، وسر الحياة عنده لغز حار فيه الفلاسفة والمصلحون، والرؤى والأشباح ومعالم الحياة والفكر تتراءى أمام ناظريه في كل عين.

والناس فرحون مستبشرون إلا قليلا وتزدحم أمام صاحبنا الأفكار ويستعرض تاريخ العالم وقصة الإنسان، فهذا عبقري أعجبت به الإنسانية وأحبه طلابه المخلصون، وهذا شاعر غنى على قيثارته فأودع الحياة أناشيدها العلوية الرفيعة فتغنت بها الأجيال، وهذا فنان سكب روحه فجاءت صورة أو تمثالا ينبئ عن قصة الإيمان بالفن والجمال والجلال، وهكذا تزدحم الرؤى والأشباح وصاحبنا لا يكاد ينام. . . والظلام يمعن في قسوته وجبروته، والإنسانية قد أسلمت أنفسها لسلطان الكرى، وصاحبنا ينصت إلى نداء الظلام والناس من حوله غافون نيام. . .

يغمض الفتى عينيه لينام ويدثر نفسه علها تجد الراحة من فرط عالمها الخارجي الذي اضطربت فيه طول النهار ولكن الأشباح ما فتئت تتراءى أمام ناظريه فيحدق في الظلام من جديد ويفكر في حقائق الأدب وروعة الفكر وجلال الأداء؛ وساعات الليل تكاد تتعثر عرجاء، مثقلة الخطى غير ناظرة إلا إلى المحبين، والظلام من حوله يلف الكون في صمت عميق والإنسانية بين أحضان الكرى؛ والأشباح تتراءى أمام ناظريه من جديد، فينظر - في سر وإيمان - إلى أرباب العلم وأساطين الفن ويقدر الجهد المبذول، ويكبر معالم التضحية والصبر والإيمان، والناس من حوله هادئون نيام، والوجود يلقى نظرة صادقة على صعود الحياة وأحلامها الوادعة، وعمود الفجر يكاد أن ينشق ليسفر الصبح عن نبأ جديد!؟

أخذ الطفل الكبير ينظر إلى الأم التي جاءت لتستقبله كما يستقبل الفرد صباحه الجديد، وتلهف القلب لرؤيته حتى بدا جلال الكون متمثلا في روعته البهية، وأخذت تنشد موسيقى الحنان الأبدي التي تدخرها كل أم لطفلها الحبيب قائلة في صوت خفيض: الأمهات من حولي ينعمن بأطفالهن والقلوب عامرة برؤية الأطفال عند كل صباح، وأنا وحدي أتلفت إليهن، فرحة بك، ذاكرة لك، ولكنك لست بجانبي. . . والعصافير تغرد فوق الأغصان، والطيور تشقشق فرحة بربيع الحياة الندى، والطبيعة توحي بالروعة والجلال، وعند طرفي المدينة ألمح شآبيب النور الحي، ولكنك عني بعيد!؟ أتذكر يا طفلي الوحيد يوم ودعتني متجهاً صوب الشمال، أتذكر يوم خلفت قلبي الثاكل الآمل؟ فالقطار الذي تحرك بك ليقلك إلى وطنك الروحي الأصيل كان بداية عهد جديد في حياتي نحوك؛ ففي الصباح الباكر أصحو على موسيقى ذكراك الحبيبة وأتلمس أخبارك في كل آن، وأنا اليوم أحب الحياة لأنك وهبتها لي، وهل الحياة إلا في طفلي وهل طفلي إلا عند الحياة؟. . كان بكاء الطفولة فيك يؤلمني ويقض مضجعي، وكان مرح الطفولة فيك يملأ قلبي حباً بالحياة وتعلقاً بها، وأنا الناظرة إليك من أقصى الجنوب يتلفت قلبي إليك ليدرك حياتك بين اللدات والأتراب، فإذا رسائلك تحمل إلى فرحة الروح والحس والشعور فأذداد إيمانا بالحياة وتعلقاً بالوجود.

إذا ما دعا داعي الحي بأن فيه أحداً قد ذاق المصاب ذكرتك يا بني واتخذت المصاب مصابي والعلة علتي وأحاطت بي الهموم والأحزان، وإذا ما أذن مؤذن الحي بأفراح الشباب تهللت أساريري مرتجية لك مثل ما للداتك الكرام، وإذا ما عاد أترابك حاملين لأمهاتهم أفراح الشمال تلقيتهم فرحة لأني أجد فيهم ريح طفلي الكبير، ولكن دعني أعرف جوانب الحياة وجوانب الروح فيك، ودعني أتحسس ما تريده في الغد السعيد. . .

جلس إبراهيم على مقعده الخشبي تجاه الشاطئ يرقب الناس في صمت وسكون وإطراق، وأحاديث الأم تعاوده وتلح عليه وتملأ القلب فيه والشعور والإحساس؛ والناس من حوله فرحون مستبشرون يستقبلون الحياة في لذة ونشوة وسرور، والأمواج تقذف الشاطئ ثم ترتد عنه في حياء وخجل، والبساط الأخضر مورق على ضفاف الوادي متحدث في صمت وسكون، والفتى تتعاوده أحاديث الأم والقلب والروح. . .

جد الفتى خطاه المتثاقلة إلى الدار، وأخذت الرؤى والأشباح تستعيد صورتها السابقة من جديد؛ ولجأ إلى كتاب مسطور يتحدث إليه عن الشعر والعلم والفن ولكن جوانب نفسه تزحمه ولا تترك له بقية لنظرة في كتاب، فيهرب إلى فراشه عله يدفن رأسه فيه لينام ساعة من ليل، ولكن الرؤى والأشباح ما فتئت تطارده فينهض ليقرأ في صفحة الكون من جديد. . .

والظلام المطبق يكاد أن ينجلي شيئاً فشيئاً، والأصوات الخافتة التي تزحم أنفاس البشر أخذت تتأهب للمسير، والأشجار المورقة ترسل موسيقاها الخافتة في هدأة الليل البهيم، وهمسات الدوح البعيد تستدعيه ليعمل مع العاملين ونقيق الضفادع يملأ أذنيه فلا يكاد يترك له بقية عابرة من ليلة المنقضي. . ألمت بفتانا إغفاءة الفجر، وأدرك عند ما استيقظ - أن المدينة أخذت كعادتها تزدحم في ميدان الحياة العابرة، وأن لهذه الفنون - التي جذبته بسحرها الرائع وجلالها المكنون - أرباباً عبدوها وقدسوها فكانت متعة للناظرين، ولكن دقات الزمان ما فتئت تضرب على أوتار الحياة فتوهنها وما برحت تبدد أمامها آثار القوة والعظمة والطموح وهكذا تتجدد الإنسانية وتفنى العصور ويولد الكون من جديد. . .

وأخذا الإنسانية تضطرب في حياتها التي اعتادت منها أن تعيش وانقضت سحابة النهار كما انقضت بقية الأخوات، والشاطئ الحبيب يستدعيه ليجلس على مقعده الخشبي ليرقب الأشياء والناس ولكن جوانب النور أخذت تتراءى لديه من بعيد، وفقد الشاطئ بهجته ورواءه، والفتى ساهم الطرف، شارد اللب ونظر حوله فلا يرى إلا الوجوه التي أخذت تضحك منذ أن استقبلت الحياة وعرفت الوجود، فإذا بنشيدها ينقلب أسى وحديثها يصير همساً وضحكاتها المرتفعة تغدو عبوساً مطرقاً، والشمس تنحدر للمغيب وجوانب الحي تتهيأ لاستقبال الليل كما استقبلت أحاديث النهار، بيد أن القمر يبسط أشعته الفضية الزاهية على الربى والبطاح فيملأها حياة وجمالا وجلالا، والنجوم الخفرات تتداعى من فرط استحيائها وجيوش الظلام تكاد تولي هاربة. وحديث الأم يطرق الآذان من جديد فيصيح إليه إذ يقول: ومن قدر السماء يا بني أن تبسم الأمهات لأطفالهن وقد بسمت للوليد الجديد يوم ميلاده وابتسم له اليوم عند الشباب وفي الأفق البعيد تتبدى أنوار العدالة والحق فتنعكس صفحاتها المشرقة على جبين الحياة فتزيدها نوراً على نور، وتبعث الحضارة بما فيها من قوى روحية سامية، ذلك لأن الحياة هي في حقيقتها تلك اللحظات الروحية الرفيعة؛ والفنون وأنماط المعرفة تملك التعبير الصحيح عن خير ما في الإنسان من رقة ونبل وإحساس، وهل حياة المعرفة والفن إلا نوعاً من التضحية والقلق يدفع بصاحبه للبحث وراء المجهول. . .

وفي ثنايا الليل يظل صاحبنا باحثاً عن الحكمة، ناظراً في دنيا العلم، مطرقاً مستغرقاً؛ وهل عادت الروح من جديد تجاه الشرق لتجد عالم الهدوء والاطمئنان أم تبدت حياة الآلة كالحة في نظرة الفتى الذي أجهده طول السهاد؟! وأنغام الموسيقى تتهادى في ضوء القمر، والزهور الندية ترسل العطر لأبناء الإنسان، وأذان الفجر يكاد أن ينادى بالصلاة والدعاء، والمدينة أخذت تتأهب للحياة من جديد، وجيوش الظلام أخذت تولي خاربة ولكنها لن تعود. . .

واليوم تنبعث من جوانب المدينة أنغام الخلود، وأضواء الشمس تتساقط من جلال الأشجار، وعبير الأزهار بداية الربيع الساحر، والأم فرحة بطفلها الذي يستقبل الحياة، وحفيف الأشجار وهمسات النور المنبعث وأسارير الطبيعة تنبئ عن بداية الفوز؛ والثغاء يملأ جنبات الوادي، والرعاة يهدهدون القطيع فرحين مستبشرين، والوليد الجديد فرحة القلب عند الأم الرؤوم.

عثمان طه شاهين
ليسانسيه في الفلسفة


مجلة الرسالة - العدد 745
بتاريخ: 13 - 10 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى