حنيف قريشي - الحميمية.. ترجمة: خالد الجبيلي

منذ أسابيع قليلة، قمنا أنا وسوزان بزيارة زوجين لم يكن قد مضى على زواجهما سنة واحدة. وفي الطريق شرحت لها نظريتي بأن الناس لا يتزوجون إلا عندما يكونون في أقصى درجات اليأس والقنوط، وأن الحاجة إلى شهادة ما هي إلا دلالة أكيدة على وجود مودة واهنة.
لاحظت في تلك الليلة أن الزوج يستخدم كلتا يديه عندما يشرح شيئاً. لاحظت ذلك لأنه كان من الواضح أن زوجته تمقت تلك الحركة. حتى أنها قالت، عندما كنا في زيارتهما: "ألا يمكنك أن تتوقف عن عمل ذلك؟". وفي الطريق أثناء عودتنا إلى البيت في السيارة، تراهنا أنا وسوزان على الفترة التي سيدوم فيها زواجهما. ضحكنا لأول مرة منذ زمن بعيد، وتساءلت عن مقدار التقدير والعرفان الموجود في مرحنا وجذلنا.
رحت أفكّر في هذه الأيام بالأزواج الذين كنت أعرفهم، أو الذين التقيت بهم، وأحاول أن أحدد من هؤلاء الأزواج يحب بعضهم بعضا. هناك البعض منهم. فهذا شيء ملموس، يمكنك أن تراه فيهم، وتحسّ بعمق سرورهم. منذ عهد قريب، عندما كنت أحضر اليوم المخصص للأطفال، لفت انتباهي زوجان، لم يكن أحدهما مشغولاً بالآخر كثيراً – كان لكل منهما أشياء يقوم بها. لكن أحدهما كان يقر بوجود الآخر. وفيما كان طفلهما يجري ويلعب، ظنت الزوجة أنه لا يوجد أحد ينظر باتجاههما، فلم تتمالك نفسها ووضعت يدها على شعر زوجها تداعبه وقبّلها.
لا عجب أن الجميع يريدون ذلك، كما لو أنهم كانوا يعرفون مثل هذا الحبّ من قبل، وبالكاد يستطيعون تذكرّه. ومع ذلك يضطرون بعد ذلك لأن يبحثوا عنه وكأنه الشيء الوحيد الذي تستحق الحياة العيش من أجله.
بدون حبّ، تظل معظم الحياة متوارية. لا شيء يسحر كالحبّ، لسوء الحظ.
أعرف أن الحبّ عمل شاق. ولكي تبقى شعلته متقدة، على المرء أن يبذل جهداً كبيراً. وإذا ترددت وتقاعست، فلن يحدث شيء ذو أهمية. وعليك في الوقت نفسه، أن تجد المسافة الملائمة التي تفصلك عن الآخرين. فإن اقتربت كثيراً، سحقوك وهيمنوا عليك؛ وإن ابتعدت كثيراً، هجروك وتخلوا عنك. السؤال هو كيف يمكنك أن تحافظ على العلاقة الصحيحة معهم؟.
من المثير للاهتمام كيف أنه يمكن أن تنكشف فجأة، في العلاقات الجيدة، شذرات من نفوس الناس لم تكتشف من قبل، حتى بعد انقضاء سنوات عديدة على العلاقة، كما هو حال الحفريات الأثرية. فهناك أشياء كثيرة ينبغي استكشافها وفهمها. أما مع الآخرين، فيمكنك أن تدير ظهرك وتبتعد، عندما ينتابك السأم والملل.
أريد أن أقول: هكذا تسير الأمور
لم أتمكن من أن أبدو في أفضل أحوالي عندما قمنا أنا وسوزان بزيارة الطبيب النفساني في المرة الأولى. فما أن تعرف أن الأمر قد انتهى حتى لا تعد هناك راحة في الحاضر. كان الجميع يثيرون حنقي. كنت أدفع الناس الغرباء بكتفيّ وأنا أسير في الشارع. وكنت قد دفعت شخصاً إلى أسفل الدرج في محطة قطار الأنفاق، وأحسست بالرغبة في أن تلقي الشرطة القبض عليّ وتوجه لي تهمة حيازة عقل لا يمكنني التحكم فيه. رحت أتنقل في الشقّة من غرفة إلى أخرى. وأنتقل من شيء إلى آخر. وراح طبيبي، وهو صديق، يخبرني جذلاً عن مدى مفعول المسكّنات المتاحة. لكني لم أشأ أن أمنحه المتعة في أن يشهد إن كانت تلك المهدئات ستمنحني الهدوء والسكينة أم لا.
ما فاجأني هو أننا ذهبنا إلى الطبيبة النفسانية دون أي عراك أو شجار. وطوال الطريق راحت سوزان تقدم لي محاضرة عن الفترة التي يجب أن يظل فيها كيس الشاي مغموراً في الماء. ففي رأيها ليس لديّ أدنى معرفة بطريقة إعداد الشاي، رغم أني لم أكن أتوقف عن شربه طوال النهار، بل حتى أنني كنت أضع - بنجاح - قدراً قليلاً من الحليب ، وفي بعض الأحيان، كنت أضيف إليه شريحة من الليمون. لكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة لسوزان. كنت أتمنى ألا تثار مسألة الشاي مع الطبيبة، على الأقل ليس على الفور: فسيخيّل لها عندئذ أني سأغادر البيت لأني لا أستطيع أن أعدّ لها كوباً من الشاي.
كان بوسعي أن أصبّ ماء حاراً على رأسها وأخلق لها الكثير من المشاكل والمتاعب، وكانت سوزان على استعداد لأن تلقي خصيتي في الماء المغلي، عندما ركنا السيارة في موقف صف السيارات الخاص بالعيادة الطبيبة، وهرعنا نحو الباب.
يخيّل إليّ أن فيكتور استفاد من العلاج النفسي. فقد أتاح له الفرصة لأن يفّكر بنفسه أكثر مما كان يفعل على الدوام، لكن بقدر أقل من الاكتئاب. وقد بدأ الآن يعرف شيئاً عن نفسه. إن كان قد تغيّر فهذه مسألة أخرى. أظن أن ذلك يتوقف على فيما إذا كان المرء يرى أن معرفة الذات مفيدة، ويؤمن بأنها الهدف المحوري للبشرية. وتساءلت أيضاً عما إذا كان قد برز تمييز طبقي جديد، بين الذين يمكنهم أن يحافظوا على عقولهم وعواطفهم، ويطهّروا أنفسهم من الأفكار السامة كلّ أسبوع - والذين يجب أن يعيشوا مع الأشياء التي تسمّم حياتهم.
ومع ذلك، ورغم ترددي في الذهاب كي أخضع للقهر، قرّرت مرة أخرى أن أعترف بكلّ شيء، أن أكشف شيئاً من أسراري بدون كبت. لقد أردت أن أتصرف جيداً لأمكنّهم من مساعدتي. ومع ذلك، عندما دلفنا إلى الغرفة تعثّرت، وتخيّلت أني سأسمع صراخ ونواح الأزواج الذين يستحقون الرثاء وهم محشورون معاً إلى الأبد داخل أربعة جدران. كان عليّ أن أستند بوجهي إلى حائط المرحاض وأقاوم فكرة الهرب من النافذة والهرب عبر وادي الصحة.
جلست أنا وسوزان جنبا إلى جنب لا تفصلنا سوى مسافة ستة أقدام أمام امرأة في منتصف العمر تبدو عليها تعابير " قلقة"، إن لم تكن ممضة. ياله من عمل، حصاد التعاسة. لن تكون بحاجة إلى هذا الضرب من العمل.
وسرعان ما أخرجت سوزان منديلها الثاني.
ومثلي أظهرت الطبيبة تعاطفاً مع سوزان، وخاصة - في محاولة مني لبدء الحديث – عندما حاولت أن أعرّف الحبّ بأنه فضول. جادلت قائلاً إن الاضطراب، والقلق، وحب الاستطلاع والرغبة في المزيد تكمن كلها في جذر الحياة التي يمكنك أن تراها في الأطفال. قلت إنني فقدت فضولي بسوزان. قلت إنه لم تعد لدي رغبة في التعرف على روحها. إنها تشعرني بالملل، أو أني أشعر بالملل منها عندما أكون معها. قلت:
"كلّ ما يهم هي المفصلة".
انحنت الطبيبة إلى الأمام وقالت: "ماذا تعني المفصلة بالنسبة لك".
"المفصلة؟".
"نعم. كيف تجعلك تشعر؟".
ملت نحوها. مفصلة عقل المرء! سواء كانت تُفتح إلى الداخل أم إلى الخارج. دعيها تفتح إلى الخارج. دعيها تخرج".
جلست باسترخاء في الكرسي، وقد اعتراني شعور بالخجل من رغبتي، من كلّ شيء كنت أريده. بأني لم أكن أريد أن تكون حياتي مع سوزان، التي ينبغي أن تكون كافية- غير قابلة للتفسير وقاسية. ولا بد أن الطبيبة ستساعدني وخاصة بعد أن فهمت مسألة المفصلة.
المرأة، التي من المفترض أنها تؤمن بالرغبات اللا واعية الصعبة الانقياد، بدا أنها مع ذلك، امرأة عقلانية. فقد أجابت بتؤدة أن العلاقات أضحت أقل عاطفية، وهذا شيء متوقّع. فقد حلت عزاءات أخرى مكان الحماس.
عزاءات! كنت في توق لأن أعرف ما هي، كان بوسعي أن أقبّل تلك العزاءات من شفتيها!.
"نعم؟"، قلت.
"القناعة"، دمدمت.
انحنيت إلى الأمام مرة أخرى. " آسف؟".
كرّرت ما قالته: "القناعة".
كانت تؤيد النضوج والقبول. نعم!.
أومأت سوزان برأسها وهي تنشج.
كم كنت أتمنى أن أهز رأسي بالموافقة ووجهي بين ساقيّ نينا، ويداي ترفعان مؤخرتها مثل صحن أتوق لالتهامه، ولساني يجوس في كلّ فتحاتها في آن واحد - دموع، لعاب، عصير الفرج، فريز! أمتصّ حساء حبّك. طبيب الروح، المعالج النفسي الذي يدغدغ لسانه فتحتك القديمة؟ لم أكن مستعداً لسماع حكمة التعاسة. لقد فعلت ذلك مع أمي. إني مع العاطفة، مع الطيش، مع المتع الطفولية! نعم، إنها صيحة مراهق. أريد المزيد. من ماذا ؟ ماذا لديك؟.
أصرّت الطبيبة على أن نراها في وقت لاحق من ذلك الأسبوع.
وجه سوزان المكتنز، الباكي، المضرج بالحمرة في تلك الغرفة، للمرة الثانية، وأنا أعلن أنني لا أظن أنه يمكن إصلاح الأمور. ولكي أوضح فكرتي لها تماماً، كان يجب أن أسدد لها لكمة أو أخزق عينيها بإصبعي. عندها ستفهمان! لكن بدلاً من ذلك، هبت الطبيبة واقفة، واتجهت إلى الرفّ وسحبت كتاباً. طلبت مني أن أقرأ قصيدة بصوت عالٍ. ألقيت نظرة باتجاهها. وبعد أن تأكد لي أنها قصيدة رديئة، وبما أنني رجل مهذب، قلت لها إني نسيت نظارتي. وكان على سوزان المطيعة – أبداً - أن تقرأها بصوت مرتعش وهي تنظر إليّ بطريقتها القديمة، وكأنها تريد أن تقول، سنضحك من ذلك في وقت لاحق. لا يزال عقلي يفكرّ: أأدفع مالاً لأسمع قصيدة بصوت عال. لا، لن أدفع لأسمع هذا. حتى الشعر لا يمكنه أن يساعدنا!.
بعد أن احتسيت قهوتي الصباحية، مدت سوزان رأسها ذا الشعر الأشقر من النافذة المنفرجة من شقتي في غرب لندن - وخلف ظهرها باقة زهور، أو كتاب أو فيلم فيديو. لم تكن تعمل في ذلك الوقت. كان ذلك قبل عشر سنوات. وكانت بعد أن عملت بما فيه الكفاية في ذلك اليوم، راحت تقود سيارتها الصغيرة السوداء في ضحى ذلك اليوم، وكان ثمة شيء مشدود حول نهديها جعلهما منتفخين، بارزين رجراجين، يتأرجحان يمنة ويسرة. قبّلتها وسحبتها عبر النافذة.
انطلقنا إلى الريف بالسيارة.
"ارفعي تنورتك"، قلت وأنا أتمعن في وجهها وهي تقود السيارة، آملاً في المزيد. "أعلى".
في صباح اليوم الذي أعقب المرة الأولى، خرجنا وتناولنا سمكاً مملحاً وفطراً مقلياً. وبينا كنا نمشي طوقتني بذراعيها. أتذكّر قبضتها على نحو خاص. هكذا جذبتني إليها! كم أتمنى لو أني كنت قد كرهتها تماماً، ولم أكن وقعت في غرام نينا. ماذا نحبّ: المدن الساحلية الإنكليزية، مثلاً، حتى في الشتاء. بعض النكات، ذوقها في الطعام والصور. المناقشات الطويلة عن الفرق الإنكليزية التي درجت في الستينات.
كانت هناك متع أخرى؛ لا بدّ أنه توجد متع أخرى. أو ربما كانت عزاءات. لكني لا أستطيع أن أبحث عنها الآن في فوضى الماضي. بالتأكيد، لم أكن أرغب منها الكثير. لا يخطر ببالي الشيء الكثير الآن. لا أستطيع أن أقول إن سوزان قد تعمدت أن تخذلني، أو كانت قاسية أكثر من اللازم وبشكل مجاني مع شخص عنيد مثلي. لقد قدمت لها دلائل جيدة.
"لقد حاولت أن أجعل الأمور تسير على خير ما يرام هنا!"، صاحت البارحة. حاولت أن يكون كلّ يوم لطيفاً من أجلك! ".
أقف أمامها خجلاً. لكني في الحقيقة لا أقدر على تسليتها أو إثارتها. ومع ذلك، ومن بين كلّ الناس المحتملين في العالم، اختار أحدنا الآخر. لأي غرض؟ لمهمّة خطيرة وصعبة: لكي يحبط ويعاقب أحدنا الآخر. لكن لماذا ؟.
ألكزها قليلاً، بفظاظة، لأرى إن كانت ستستيقظ. تحرّكت، تنهّدت، وواصلت نومها، غير واعية.
كم من النادر حقاً يمكننا أن نتحرر من الوهم! فأنا لن أترك جنة عدن التعيسة هذه لأني لا أحبها فقط، بل لأني أريد أن أصبح شخصاً آخر. حلم، أو كابوس الأسرة السعيدة الذي يطاردنا جميعنا. إنها إحدى الأفكار الطوباوية التي تستحوذ علينا هذه الأيام. لكني أؤمن، رغم كلّ شيء - عندما قلت لآصف- بالحب. نبدأ بالحب، وننتقل إلى بعض المشاكل لنظل نعيش في تلك الحالة باقي أيام حياتنا. أليست هي الحالة التي يرجح أن يزدهر فيها الرجال والنساء؟، حيث يُظهر الناس أفضل ما لديهم؛ فالساديون يصبحون أكثر حلاوة، والمصرفيون أكثر كرماً، ويجد الطبيب الشرعي متعة في الحياة، حتى ناشرو الكتب يصبحون على قدر من الحساسية، مرهفي الحس. وهناك، في تلك الليلة، في تلك المدينة الحقيرة التي تصدر طنيناً، ثمة شخص، وأنا واثق من ذلك، شخص مستعد ليحبني.
غير أن فيكتور يؤمن بذلك أيضاً. فعلى مدى سنوات ثلاث، كان على علاقة مع امرأة متزوجة ظنّ أنها ستهجر زوجها. إذ لم تكن سعيدة في زواجها. لكنّها فضّلت الزواج غير السعيد على فيكتور. هل كان ذلك فشلاً؟ لقد انتهت العلاقة بينهما، لكن ربما لا تقاس نوعية الحبّ بالمدة التي يستمر فيها.
كان فيكتور راديكالياً عندما كان في الجامعة في أواخر الستينات. أما الآن فهو يعيش في شقّة محترمة ويكسب أجراً جيداً. لكنه كان دائماً يريد شيئاً واحداً. وهو أن تتاح له فرصة أخرى في الوقوع في حبّ مثالي، أن يتزوج المرأة الملائمة، قبل أن يفوت الأوان ولا يتمكن من إظهار حماسه الذي اكتشفه مؤخراً، وقبل أن يمر الوقت ولا يستطيع أن يلاعب أطفاله على أرض الغرفة، الذين لا يتوانون هذه المرة عن قذفه بالسباب واللعنات وإلقاء ملابسه من النافذة وراءه. كان يريد أن يرى إن كان بوسعه أن يفعل ذلك على النحو المطلوب. هذا كلّ ما في الأمر. مثل الآخرين، لا أكثر ولا أقل. إنه يريد أن يعرف أنّ هذا الشيء المهم بالنسبة له لا يتجاوز طاقته. فالكثير من الناس يفعلون ذلك وبعضهم في غاية السعادة.
لكن سرعان ما ظهرت أخريات لفيكتور. نساء جذّابات. نساء طيبات. بعضهن كنّ متحمّسات صغيرات، وخاصة تلك الأمريكية التي قلما دخلت إلى غرفة النوم، وحكى لي كيف أنها كانت تنوي تجديد الشقّة. لكن لم تكن واحدة منهن مهمة حقاً. كن مسنات جداً، لطيفات جداً، مستغرقات تماماً في أعمالهن، محتاجات جداً، أو هذا أو ذاك. عندما ألتقي بامرأة أفكّر به. كنّا جميعنا نعمل لتحقيق ذلك، أصدقاؤه، أقرباؤه، حتى أحد أطفاله. فقد مرت حالات حبّ محتملة من غرفته مثل الممثلات اللاتي يتم اختبارهن لمشهد لم يُكتب بعد.
رآني مع نينا وأحبّها. فما دامت لا تخصه، كان يرى خصالها ويتمتّع بها. لكن ما أن تبدأ الأمور الأخرى مع المرأة – الحنين، الاشتياق، الخوف، الأمل – حتى كان يطلق ساقيه للريح. كان ذلك كثير. لماذا لا يمكنه أن يفعل ذلك؟.
لماذا لا أستطيع؟.
لعلي أستطيع.
لا أريد أن أتساءل مع من توجد نينا في هذه الليلة، وأنا مستلق هنا أتذكّر كيف كانت، عندما كنت آتي، تمسك برأسي وتهمس في أذني، " وأنا أحبّك، وأنا أحبّك. . ." وتداعب أذنيّ وتقارنهما بأذنيّ الكلب الذي كانت تراه عبر الطريق عندما كانت طفلة. كنت أشعر بالإطراء. فقد كان كلب صيد.
أدلك نفسي من وراء بنطالي الجينز. أتمنى لو قام أحد بعمل ذلك لي. إذ لا يمكنك أن تفعل كلّ شيء بمفردك. لن أفعل ذلك هنا. سوزان تشعر بالإهانة لهذا المجهود المنفرد. إنها من جيل النساء الرافض. تعتقد أنها من المؤمنات بالمساواة بين الجنسين لكنها مجرد امرأة سيئة المزاج.
شجّعتني نينا على الاستمناء على ظهرها أو على بطنها أو على قدميها وهي نائمة. كانت تحب أن أفعل لها ذلك قبل أن تهرع خارجة، كي أنالها في قطار الأنفاق.
لكني كنت أشتهي نينا دائماً عندما أكون منتعظاً. سأختبر نظريتي في أنه ينبغي للمرء أن يستمني قبل أن يفكر في نيل أيّ امرأة. بتلك الطريقة يتبين له إن كان يريدها لممارسة الجنس، أم أن الأمر يتجاوز ذلك.
لكن هذا يعني انه يجب عليّ أن أنهض. وعلى نحو متزايد أجد نفسي أتخذ أوضاعاً غير طبيعية، لكي أتحرك إن كان عليّ أن أتحرك. فقد كان عليّ أن أجلس لأرتدي جوربي. وكان طفلاي يجلبان لي حذائي، إذا كانا في مزاج رائق. ثم عليّ أن أربط سيور الحذاء، أستقيم في وقفتي، أنحني نحو قدمّي، وأتحرك إلى الأمام. وكنت مثل طفليّ، أعتبر الانتهاء من ارتداء ملابسي إنجازاً. أما الآن فكلّ ما أفعله، عندما آوي إلى الفراش في هذه الأيام، هو أن أخلع بنطالي. يخطر لي الآن أنه لعل ذلك ما كان يجعل سوزان تجدني أقل جاذبية مما كنت عليه في السابق.
أنهض رويداً رويداً وأبتعد على أطراف أصابعي عن المرأة التي تغط في سبات عميق..كم هو ضعيف القوس المتشكل عن بولي، وكم يجب عليّ أن أضغط كي يندفع البول ويصبح في شكل نصف دائرة ليصب في الحوض. حتى عندما كان ولداي صغيرين، عندما لم تكن هاتان الدودتان الصغيرتان المستديرتان، عضويهما، أثخن من سلك رفيع، كان قوس بولهما يندفع بسرعة وقوة. وأصبحت أخلّف دائماً بقعة دبقة على الأرض. وقد كان والدي قد أصيب بسرطان البروستات، وأدخلوا أدوات معدنية وبلاستيكية من خلال فتحة قضيبه.
بدأت أزور المستشفيات. أصبحت أعرف أين تقع جميعها، من ألفها إلى يائها. أتذكر أصدقائي: امرأة عشت معها أسبوعاً أصيبت بورم في الدماغ؛ صديق آخر أصيب بسرطان الحنجرة، وزميل طيب أصيب بجلطة في الدماغ؛ سرطان الخصيتين متفشٍ. أُدعى إلى الجنازات أكثر مما أدعى إلى حفلات العشاء. تلك هي أجسامهم. أحذف عقولهم حالياً. إننا نتجه إلى الدرك الأسفل، وقبل أن نتمكن من أقلمة أنفسنا.
على المغسلة.
أدفع بنطالي إلى الأسفل وأبحث عن زيت تزليق مناسب. كانت آخر مرة فعلت فيها ذلك، عندما دعت سوزان بعض الأصدقاء إلى العشاء، وقد استخدمت حينها شامبو أطفالي، وأحسست كما لو أنّ دبوراً قد انزلق في إحليلي. كان يجب أن أتقدم بشكوى ضد الشركة المصنّعة لكي تجري تجارب على الحيوانات قبل طرح بضائعها في السوق. حتى الاستمناء قد يكون حقل ألغام طبياً.
عثرت في الخزانة على كريم يميل إلى اللون الأخضر ذي رائحة سكّرية. رحت أحدّق في العلامة الموجودة على الأنبوب، لكني أجد صعوبة في تبين الكلمات بدون نظارات للقراءة. بعد برهة من الفحص أكتشف أنه مرهم لمكافحة الشيخوخة. يعلم اللّه كم تنفق سوزان من مالنا على دهن الخنزير هذا. وجدتني ذات مرة استخدمه ككريم لليد، فاستشاطت غضباً. لعلي إذا دهنت قضيبي به كلّ يوم فسيعود إلى صباه ويصبح في الرابعة عشرة من عمره ثانية.. أحشر قضيبي فيه.
منذ بضعة أشهر، رأيت امرأة في بهو شركة كنت أقوم بزيارتها. يا إلهي ما هذا، قلت في نفسي بحيرة. أخيراً أدركت أنها سوزان، ترتدي ملابس ضيّقة وعصرية جداً، هذا بالإضافة إلى طلاء الأظافر الأرجواني. لم تكن تحاول أن تبدو شابة، لكنها لم تدرك كم أنها تغيّرت.
في الآونة الأخيرة، ورغم أنها بدأت تشعر بالقلق بسبب تهدل جسمها، قالت بعد أن أنجبت الصبي الثاني، إنها تعرف أن وجهها لن يستعيد نضارته كما كان في السابق. ولم يعد بوسعها أن تنظر إلى نفسها في الصور الآن. ويبدو أنها كانت تدهن على الدوام الشقوق في وجهها بالكريم. وفي عطل نهاية الأسبوع، كانت تقف أمام شريط فيديو تمارين الرشاقة، بينا نجلس أنا والأولاد على الدرجات، فيعلق أحدنا بتفاؤل قائلاً: "لقد أصبحت ماما أنحف". لم يكن الأمر أنها أصبحت غير جذابة، بل أصبحت في منتصف العمر، ولذلك، فقد دخلت في مرحلة مختلفة من الحياة. ومن سوء طالعها أنها لا تحظى إلا باهتمام جديّ.
ماذا لو التقيتها الآن، لأول مرة، في حفلة ما؟ سأنظر إليها مرتين، لكن ليس ثلاث مرات. وقد أشعر بالرغبة في التحدث إليها. إنها تخشى الذين لا تستطيع إغواؤهم – فقد كانت تتودد كثيراً إلى بعض الرجال، وترمقهم بنظرة أسميها "نظرة جذلى" إلى درجة أنهم يتساءلون لماذا تريد أن تغوي كبرياءهم لا ذكاءهم. فهناك نساء يرغبن في إمتاع الرجال، وثمة رجال يحبّون أن يستمتعوا. يخيّل إليك أن أحدهما يناسب الآخر. لكن النساء، في رأيي، هن اللاتي في حاجة إلى هذا الاهتمام بأنفسهن، لكنهن سرعان ما يبدين امتعاضهن من هذا الامتياز الذي كن قد منحنك إياه.
كان يجب عليّ أن أخرج معها ستة أشهر. أو لعل علاقة لليلة واحدة كانت تكفي. لكني لم أكن فظاً معها، ولم أكن أعرف ما أريد.
أبدأ بفرك قضيبي وتدليكه.
إلى متى ستكرهني؟ بضعة أشهر؟ بضع سنوات؟ قد يحدث هذا الفراق أو الهجران شرخاً عميقاً. لكن أن تكره شخصاً لهو أمر منهك؛ فلكي تكره يعني أن تتمالك نفسك لفترة طويلة.
لا تزال زوجة فيكتور لا تكلمه. ولا تسمح له بالدخول إلى البيت بل تجعله يجلس في الخارج في السيارة حتى يتهيأ الأطفال لرؤيته. ربما كان ذلك لأن فيكتور حاول أن يقنعها أن تمتصه وتبتلع سائله - وهو شيء لم تفعله في حياتها - في الليلة التي سبقت مغادرته بعد خمس عشرة سنة. في ذلك الوقت، لم يكن بوسعه إلا أن يكرهها. ومنذ ذلك الحين راحت تغذي البغض وأورثته إلى أطفالهما، كما لو أن استقامتها كانت تتوقف على هذا الأمر.
هل أطيق أن أكون مكروهاً؟ لعله يوجد لدينا، بطريقة ما، خيال أركادي بأنه سيأتي زمن يتوصل فيه الجميع إلى اتفاق بأنه لن يحدث انشقاق أو تنافر أو نزاع. لكن إحدى مزايا أن تكون أباً، في رأيي، تكمن في القدرة على أن لا تعبأ إن كان أولادك لا يحبونك. في بعض الأحيان، كانت تمر أوقات كنت أكره فيها أبي. كنت أصرخ في وجهه، حتى عندما عاد من المستشفى بعد أن أجرى عملية قلب مفتوح. فقد وضعت مسهّلا في وجبة الطعام التي كان يتناولها ليتغوط على نفسه في القطار. وأكره أحياناً أطفالي، ولا بد أنهم يكرهونني. إنك لا تتوقف عن حبّ شخص فقط لأنك تكرهه.
قد تكون سوزان مقاتلة شرسة، ذات لسان لاذع كنت أجد متعة به. لكن، ولسوء الحظ، فإن إحساسها بالمرارة لجوج وعنيف لا يمكنّها من أن تصبح مرحة. إنها تفتقر إلى الانفصال والتقوقع. لكن ضرباتها الفجة قد تصيب الهدف. غير أن المرء سرعان ما يملّ منها. إني أتطلّع إلى اليوم الذي لا أعير فيه أي اهتمام إلى ما تقول، عندما يتوقف مفعول السحر.
ما الذي أطلبه؟ شيء من عدم الاكتراث، وبعض الملابس الداخلية المثيرة. كما كتب سكوت فيتزجيرالد، "وهكذا نقهر..".
أفتش في سلة الغسيل وأستل سروالها الداخلي وأضعه في حوض المغسلة. فيكتور يقول إني أصبحت منكراً لذاتي إلى درجة كبيرة. الأبيض قد يوفي بالغرض. ولعل الأسود ذا التخريمات أكثر إثارة. عندما يتعلق الأمر بانتقاص الذات، فأنا شخص أحبّ الجمال.
هل هذا فعل من أفعال الحبّ أم الكراهية، أم كليهما؟.
أتمنّى أن يكون لديّ شيء أنظر إليه. انظر، فقد علّقت على الحائط بطاقة بريدية لماتيس أوداليسك* ترتدي بنطالاً مخططاً. إنها شهوانية ومثيرة، أفضل من أجمل الصور الخلاعية. لكني أرى أن الحياة هي أفضل شيء خلاعي.
أبحث في مكتبتي عن مشاهد مثيرة. أيّ منها أريد أن أراها ثانية - الزمن في برلين، أم ذلك الإيطالي في منتصف العمر الذي يبكى؟ وماذا عن الفتاة التي كانت تمتطي دراجتها بدون سروال داخلي؟ أو ربما تلك المناسبة التي كنت أرتدي فيها حذاء راعي بقر ضيقاً طويلاً، وبنطالاً ضيقاً مشدوداً، وبعد أن استلقت المرأة من أجلي، اكتشفت أني لم أتمكن من خلع بنطالي الجينز أو حذائي، حتى عندما أخذت تشده لي، واضطررت أن أواصل عملي وأنا لا أزال أرتديه، في نوع من العبودية العاثرة.
في الماضي كانت المشاهد المحتملة هي المشاهد المستقبلية - مشاهد يمكن أن تحدث في الواقع - التي أستخدمها كشيء مساعد، بدلاً من هذا الحنين. وعندما، أنظر بطريق الخطأ، إلى المرآة وأرى شعراً أشيب، حاجبين مقطبين، عينيّ مجنون، وجسداً أشبه بالقرد وقبضته ممدودة إلى الأمام، بينا تستند اليد الأخرى قليلاً إلى خصره لأن ظهره يؤلمه بسبب حمله للأطفال. أعرف أني قد أبكي ولن أقذف.
كنت طفلاً ذات يوم، أيضاً.
سأفكّر بنينا.
--
* (صورة لجارية في حريم السلطان.م)
كم مرّة كنت أجلس في إحدى الحانات أو في أحد المطاعم، أو في إحدى الحفلات مع الأصدقاء، وكان كلّ ما أرغب به هو أن أراها تدلف من هذا الباب. وكان يتملكني انطباع بأن كلّ شيء سيكون على ما يرام في تلك اللحظة. فلا أحد يضاهيها. وثمة الكثير الذي أوّد أن أقوله لها. إن حبّنا أكثر أهميّة من أي شيء آخر. ومع ذلك فأنا أدرك ضعفنا جميعنا إزاء الوهم. وكم من المزعج حقاً أنّ أوهامنا غالباً ما تكون هي اعتقاداتنا الأكثر أهمية.
لا أظن أنه يمكنني أن أبقى هكذا فترة أطول من الزمن. في الماضي، كان مجرد التفكير بجسد امرأة يجعلني أتدفّق، أما الآن، فإن ذلك يحتاج إلى تركيز وجهد كبيرين. إذا حدثت إثارة قريباً، فلا بد أن عضلاتي ستصاب بالتشنج.
ثلاثة أصابع تُدفع في داخلك، تتوسع في اللحم المطواع حتى تبدو مثل قفاز جلدي. تقولين: "أحس بها كنبضة". يدايّ جزء منك، ومع ذلك فهي تتحكم بك".
وجه نينا. ثمّ الطريقة التي تستدير فيها وتنقلب على بطنها وتعرض لي مؤخرتها.
يجب أن يكون لذلك تأثير.
يا إلهي. نعم.
ألقي ببنطال سوزان في السلة، وأتذّكر عبارة د. ه. لورانس بأنه حتى الحيوانات تغدو حزينة بعد القذف. أتساءل ماهي الملاحظة التي مكنّت لورانس من التوصل إلى هذه المعلومة.
مع ذلك، فإني أشعر بالتحسّن، كما لو أني أريد أن أخلّص نفسي من الرغبة الجنسية.
أغسل يديّ عندما أسمع ضوضاء. بسرعة أغلق فتحة بنطالي. يُفتح باب الحمّام بقوة، كما لو أنّ شبحاً فعل ذلك. أراقب وأستمع.
عندما أترك البيت، أريدها أن تختفي هي أيضاً. قد يكون هناك القليل من الحبّ، لكن الغيرة تبقى. أريد أن أعيش حياتي، لكني لا أريدها أن تعيش حياتها. عندما يتم ذلك – لنقل، بعد أن يمرّ ثمانية عشر شهراً - قد يحل مكاني رجل آخر في هذا البيت. قد يجلس حيث أجلس أنا الآن. وإذا رأى طفلاي كوابيس في نومهما، فلن يجدا أحداً يلجآن إليه إلا هو. طفلانا اللذان لم يتعلما أساليبنا بعد، تنتابهما مشاعر مختلطة جداً في مودتهما. فهما على استعداد للجلوس في حضن أي شخص.
سيقبّلهما هذا الرجل ويضمهما عندما يستيقظان، وقد يضعهما في السرير ويحكي لهما حكايات حتى يناما. قد يتكلم بلهجة أهل الشمال. وقد يشجّعهما على تأييد فريق آرسنال. أو ربما كان نافد الصبر ويصفعهما على مؤخرة رأسيهما. عندها قد أصبح دخيلاً، وأجلس في السيارة أنتظرهما حتى يخرجا من البيت. أما الصبي فلن يتذكّر هذه الليلة. لن يتذكر أحد منهما والديهما معاً. لن يتذكّرا أياً من هذا، أما أنا فلن أنساه. وسيعرفهما دائماً أكثر مما أعرفهما.
ومع ذلك فإني آمل أن تعثر على شخص ثري. وآمل ألا يكون هناك طابور طويل يصطف من أجلها. غير أن أكثر الناس انحرافاً وغرابة يجدون بسهولة من يضاجعهم، بل حتى أنهم يتزوجون. وكما يقول جو أورتون، " قائمة الزواج لا تستثني أحداً من المسوخ".
لم تكف الطبيبة النفسانية عن الترديد، "إنك ستترك الأطفال أيضاً، لا تحاول أن تخدع نفسك بذلك". أردت أن أصرخ، لا، لا، إنها هي! لكنّ الطفلين لنا نحن الاثنان، وهو افتراض بوجود الثقة والأمان اللذين سأقوم بتحطيمهما.
أحياناً أشعر بالأسى على الطفلين، لأني سأبقى هنا معها. أنا يمكنني أن أذهب، أما هما فلا يستطيعان.
الصبي يغط في سبات عميق. أحبّ أن أسمعه يحكي لي عن أحلامه، وأناقشها معه. سوزان تهزأ من ادعائي هذا.
يجب أن أنام الآن. لكني أفضّل ألا آوي إلى الفراش. ثمة أشياء أكثر كآبة من نزع الثياب في العتمة إلى جانب امرأة لن تستيقظ من أجلك.
في أحيان كثيرة، ما أن كنت أفكّر بالذهاب إلى البيت، حتى يتدفق الدم إلى رأسي، يضغط بين أذنيّ وعينّي، حتى أشعر بأن جمجمتي تنتفخ مثل عجلة منتفخة أكثر من اللازم. قد أذهب إلى حانة قذرة ولا أتزحزح عن الكرسي، أو إلى بيت أحدهم حيث يمكنني أن أنال شيئاً من زوجة المضيف. في إحدى الليالي وصلت في وقت متأخر إلى حفل عشاء. وكالعادة، كانت النساء يتحدثن عن العمل، والرجال يتحدثون عن الأطفال. أخذت مكاني ولم أفعل شيئاً سوى أن أشرب. بدأت الأمور تتحسن عندما وضع أحد الأشخاص الذين أعرفهم، والذي كان في منتصف العمر، رأسه ذا الشعر المصفف جيداً على الطاولة. كانت زوجته، التي هجرته، لا تسمح له برؤية أطفالهما، وكانت، كما يظن، تؤلبهم ضدّه. وكانت كذلك ترفض أن تبيع البيت الذي وضع فيه كل ماله. كانا لا يزالان يذهبان إلى المحكمة. وكان هذا الشخص، وخليلته الشابة الجديدة الجالسة إلى جانبه، يقول إنه يشك في أن الأمر يستحق ذلك.
أجابته خليلته بأنه حطّم رومانسية الأطفال. فقد كانت تريده هو، لا الأطفال الذين أنجبهم من امرأة لم يحبها. وتحلّق حول الطاولة رجال متجهّمون آخرون، كانت آخر مرة رأوا فيها زوجاتهم عند باب محكمة الطلاق، كانوا يتذمرون ويهزون رؤوسهم حسرة. ثم هبت المرأة واقفة وغادرت. عدوت خلفها. قال صديقي ذو العين الدامعة إنه أعطاها معظم ما يملكه. لكن عندما أدركا بعد شهرين، أن أحدهما لم يكن يحب الآخر كثيراً، بل إنها في حقيقة الأمر، حاولت أن تقطع إحدى أذنيه، ولم تعد هناك من وسيلة تمكنهما من أن يعود أحدهما إلى الآخر.
دمدمت قائلاً: "أكلّ ذلك من أجل مضاجعة؟". ضحك الرجال الآخرون. لكني عرفت، بعد أن رأيت كيف أن هذه الفتاة أخذت تلاطف القطة المنزلية فيما أخذ حبيبها يبكي، ما نوع المضاجعة التي كانا يمارسانها. وأعقب ذلك نقاش، حول الطاولة، عن أخلاقيات هذه المعضلة. لكني أقول إنه توجد بعض أنواع المضاجعات التي يُغرق فيها الشخص شريكه وأطفاله في بحر متجمد. مملكتي للوصول إلى النشوة. ولاحظت أن النساء عنيدات جداً في هذا المجال. فعندما يردن شخصاً لا يوجد ثمة شيء يوقفهن عن ذلك.
يا بني، قد يأتي وقت أوضّح فيه لك بعض هذه الأمور، لأنه قد يأتي وقت أتمكن أنا نفسي من فهمها.
* * *
أسند مؤخرة رأسه بيد، وأرفع ظهره باليد الأخرى – عيناه مغمضتان وفمه مفتوح - وأحمله إلى السرير. لكني ما أن أوشكت على وضعه في السرير حتى اعتراني شعور غريب. أحياناً تنظر في المرآة ولا تستطيع أن تتذكر كم بلغت من العمر. بطريقة ما تتوقع أن ترى شخصاً في الثانية عشرة، أو في الثامنة عشرة من العمر، ينظر إليك. أما الآن فإني أشعر وكأني أنظر إلى نفسي. كل منا جزء من الآخر، لكننا منفصلان في هذا العالم. الآن أحمل ذاتي بين ذراعي.
أمدده على السرير وأغطّيه.
أتساءل متى سأنام إلى جانبه مرة أخرى. فهو يركل بقوة، وله نزعات شريرة. وفي لحظات غير متوقعة، يتقيأ على شعري. لكنه في أحيان أخرى يربّت على وجهي ويمسّده كعاشق.
كلماته الرقيقة الحنونة وصوته الناعم هما نفس الله بالنسبة لي.
أتسلل إلى أسفل الدرج. أرتدي سترتي. أجد مفاتيحي. أصل إلى الباب وأفتحه. أخرج من البيت. الجو مظلم وبارد. الهواء العليل يغمرني. ينشّطني.
إذهب. يجب أن تذهب.
يمكنك أن تلج إلى الظلام ولا تخشى أن تخرج مرة أخرى.
لا بد أن هذه الساعة هي ساعة الموت، أوطأ هزيع من الليل. يكاد لا شيء حياً يتحرك، بمن فيهم أنا.
في الخارج، الأوراق الداكنة على الأشجار تهتز في الريح مثل مئات الألسنة الخضراء الطويلة، الفروع تصيبني.
سأصنع لفافة من الحشيش، إن استطعت. رائحة هذا الحشيش كريهة. مثل مشعل رطب يحترق، كما تقول سوزان، خاصة إذا دخنتها بدون تبغ.
كم أحبّ أن أراقب النباتات وهي تنمو في الحديقة الخلفية. عندما أصل إلى البيت في المساء بعد أن أكون قد احتسيت بضع كؤوس، ولا يوجد شيء أفعله سوى أن أغلق الباب الأمامي، وأعرف أنه يتعين عليّ أن أقبع تحت هذا السقف حتى الصباح، كما لو كنت تحت نوع من الإقامة الجبرية، فإن أحد الأشياء التي أحب أن أفعلها هو أن أخرج إلى الحديقة. هناك أسقي النباتات مع ابني الأصغر، المحشور في سترته الصوفية وحذائه الكتان، وهو يسحب الخرطوم خلفي.
بين الفينة والأخرى أقتلع بضع أوراق، وألفها في صحيفة وأجففها على الغلاية. لديّ حبوب مخدرات من نوع "إكستاسي"، و"إل إس دي" وقنينة قديمة من "أرنيل نترات" في الثلاجة. ولفترة من الزمن كنت أتعاطى "E" كلّ يوم، بعد الفطور، مما جعل حالتي أكثر سوءاً، ورغم أني كنت أعلم ذلك، فلم أتوقف. كنت أفضّل دائماً أن أتناول المخدرات وأنا في أفضل حالاتي السوية، مثلاً، عند العشاء مع طفليّ. لا أزال أقوم بدور الوالد- المعلّم في المساء، وأنا أرتدي بدلتي الأثيرة لديّ التي اشتريتها مؤخراً. وتبين لي أن الاحتفال بعيد الميلاد يصبح أفضل دائماً بعد إضافة قليل من السديم الإرجواني. إنها الخصوصية التي أتمتّع بها، بل وربما التحدي.
كانت نينا تثيرني عندما تقول إن موقفي من المخدرات يعود إلى عصور أخرى. صحيح أني عندما كبرت، كانت المخدرات الوقود للقيام برحلة في عالم النفس، لكنها كانت تربطني أيضاً بعالم أكثر خطورة وتحدّياً، بل حتى بالعالم الأدبي: دي كوينزي، بودلير، هكسلي. أما بالنسبة لنينا فهي تعني النذالة ، والسجن، والإفراط في تناول جرعات المخدرات. كان خوفها من الإبر هو الذي جعلها في مأمن، هذا إن كانت في مأمن.
قرّرت أن أنسى مسألة البدلة المخططة. إذ ستتجعد وتتغضن في حقيبتي ولا يوجد ثمة مكان لتعليقها هناك. أما صورة لينون فمن المؤكد أني سآخذها. لكني يجب أن أعثر كذلك على صورة الطفلين لآخذها معي.
أتجه نحو طاولة سوزان، التي تتناثر فوقها أوراقها، علني أعثر على دليل عن خيانة حدثت مؤخراً، لكي أتمكن من تقريعها قبل أن أخرج، أختطف محفظتها وأفتحها. لا أجد سوى صورة عنا نحن الاثنين، وذراع أحدنا تطوق خصر الآخر.
في الأدراج تتكوّم رزم من الصور. أختار صورة لابني الأكبر عندما كان عمره لا يتجاوز بضعة أيام. أغسلّه في المستشفى، رأسه بين يدّي. وجهي متجهم وأنا أركّز فيما أرشّ يديه ورجليه ووجهه المتشنج بالماء للمرة الأولى. كنت أرى كارين آنذاك. لوّحت مودعاً سوزان في المستشفى، أخذت زجاجة الشمبانيا التي تركها لنا والدها، وشربتها في السرير مع كارين. ذكرت لي ذلك سوزان قبل أيام.
"لن أنسى ما حييت أنك غادرت المستشفى دون أن تقبلني. كنت قد وضعت طفلنا الأول، خرجت ولم تقبّلني. كان من الأجدر بك على الأقل أن تظهر حبك للأطفال وأنت خارج".
"أخرج؟"
"مسافر. الطفلان يسألان عنك طوال الوقت. أول شيء يسألانه في الصباح، "هل سيعود بابا إلى البيت اليوم؟".
وضعت الصورة في جيبي.
كرمى للأيام السابقة رحت أقّلب دفتر يومياتها الذي يكسوه الغبار. فهي لا تدّون يومياتها بانتظام، بل تكتب الأشياء التي تريدني أن أقرأها فقط. أنظر في الفقرة التي كتبت فيها عن حبيبها قبل ثلاث سنوات، متسائلة إن كانت ستزوره في روما. كان يمكنني أن أرى أكاذيبها بسهولة وقلت لها إني سأكون في غاية السرور إذا ذهبت. كنت دائماً أبحث لها عن فرص لتغادر.
أعود إلى مكاني على الأريكة. سأدخّن المزيد من هذا، مع أنه يجعلني أشعر بأن أحدهم قد سلّمني إلى الشرطة ووجه لي تهمة عامة.
"ها أنت ذا".
أنظر إلى الأعلى. أبدو ساهماً. أنظر إلى الخلف مرة أخرى. سوزان تقف عند أسفل الدرج في فانيلتها البيضاء وخفيها الأبيضين، ووجهها متغضن ومنتفخ.. بدت صفحة وجهها بيضاء ناصعة إلى حد أنه كان بإمكاني أن أكتب عليها.
في أحد الأيام، عدت إلى البيت في الساعة الرابعة سيراً على الأقدام من حفلة للمراهقين. كانت أمي تقف في الطابق الأرضي في ثوبها المبقّع الذي كان يلامس الأرض. على الأرض تتناثر صورها عندما كانت شابّة. في تلك الصور القديمة كانت تبدو خرقاء وحادة المزاج، وكان شعرها بطول شعري، ترتدي صندلاً وثوباً مزهراً. وكانت تقف مع رجال فرقوا شعرهم من المنتصف، وكانوا يضعون ربطات عنق. لم يكن أبي بينهم.
سوزان، لو عرفتني على حقيقتي لبصقتِ في وجهي. فقد كنت أكذب عليك وأخونك كلّ يوم. لكني لو لم أستمتع بتلك النساء لما بقيت طوال هذه المدة. لقد حمانا الكذب نحن الاثنين؛ إنه يحافظ على استمرار الأمور الهامة. في الكذب شفقة ورقة. فلو كنت جيداً كل تلك السنوات، فمن كان سيعجب بي؟ الله؟ إن عالماً بدون كذب لهو عالم مستحيل؛ والعالم الذي لا يُستنكر فيه الكذب، عالم مستحيل أيضاً. لسوء الحظ، فإن الكذب يجعلنا نبدو قادرين على كل شيء. إنه يخلق وحدة فظيعة. هنا، الليلة، أشعر بأني منفصل عنك وعن كلّ شخص. لذلك يجب أن يكون قول الحقيقة القيمة المطلقة، حتى يتعارض مع قيمة مطلقة أخرى، المتعة، حيث يكون هناك نزاع، وهذا شيء بدهي.
تبدأ تفيق.
"ماذا تفعل هنا؟ لماذا لست في السرير؟ ".
"لديّ أشياء يجب أن أقوم بها".
"في هذا الوقت؟".
"لقد جافاني النوم".
"لماذا؟ ما الذي يضايقك؟ قلما تكون مستيقظاً في العادة". عيناها تتفحصان وجهي. "تفوح منك رائحة السكائر وذلك المخدر الكريه. شعرك مبلل. هل خرجت؟ أين ذهبت؟ من رأيت؟".
أصابعها تلامس خدي.
"آخ".
"ما هذا؟ ماذا حدث لوجهك؟ انتظر ".
تتجه نحو مفتاح الضوء، وفيما كانت تسير، يغالبها النعاس، تتعثر وتقع على المنضدة.
دعيني أحملك.
* * *
في الليل تفوح من الشوارع رائحة البول. تصطف الشاحنات في نسق أمام الأسواق المركزية؛ الرجال يدفعون عربات معدنية عبر الأبواب الجانبية. الشباب في الخارج، متجهون إلى مكان ما.
قبل سبع سنوات، عندما انفصلنا أنا وسوزان لمدة سنة، كنت أُعجب بالغرباء، كنت أعرف جيداً تلك الحانات، كنت أعرف الفتيات اللواتي كن يبعن المجوهرات في السوق، أعداد كبيرة من الناس ، أطفال مسافرون. كان لديّ وقت لما هو غير متوقع.
هذه الليلة، أعدت الصبي إلى سريره بعد أن غيّرت حفاضته، وتوجهت إلى هذه الحانة دون أن أعرف السبب الذي دفعني إلى ذلك، كلّ ما أراه عشرات من الشباب الذين يشيخون في ثياب غير محتملة ورخيصة، محشورين معاً. لا أعرف أحداً. لا ألتقي بأصدقائي الحاليين إلا بموعد مسبق، أحدّد موعداً معهم كما لو كنت أحدد موعداً مع طبيب أسنان. ولن يأتي فيكتور، الذي يكبرني بخمس سنوات، إلى مثل هذا المكان، رغم أنه بدأ يتعلم الرقص. وبدأ في بعض الأحيان يرتاد النوادي وحده، حيث يبدأ حركة راقصة مستقلة غريبة. وسرعان ما ينفتح حوله فضاء. لست متأكّداً إن كان ذلك بسبب أسلوبه الفرداني أم لأن الناس يظنون أنه شرطي هارب من الخدمة.
يقول: "لا يهمني إن كنت أحمق. لكن قد يكون الشباب المتأنقون متغطرسين".
خارج الحانة يقف رجال في معاطف سميكة طويلة حتى الركبة، وسراويل فضفاضة وأحذية رياضية تشبه القارب. من المضحك كيف يقف تجار المخدرات دائماً من دون أن يفعلوا شيئاً لفترة طويلة، قبل أن يستأنفوا السير بسرعة على نحو مفاجئ. الليلة أتساءل إن كانوا جميعهم، في آن واحد، مصابين بصداع، ويمسكون جماجمهم كما لو أنهم يتخذون أوضاعاً لمجلة "الصيحة"، وهم يتكلمون على الهواتف الجوّالة. ذات مرة، سأسأل عن ثمن هذا المخدر أو ذاك. أما الآن فسأفكر بما سيحدث لهم، وأتساءل لماذا يهدرون أموالهم على مثل هذه الملابس. لكن عندها سيظنون أني أفتقر إلى القدرة على التمييز.
رأيت شخصاً كنت قد تعرفت عليه في الحانة. كان طفلاً، لكنه لم يعد طفلاً، وكنت أراه يومياً على مدى بضعة أسابيع. في مرحلتي الاشتراكية، كنت أستمع إلى محن ومصائب مثل هذا الولد بالتفصيل، وأدين المجتمع الذي جعله يعاني. كان نشيطاً وذكياً ومليئاً بالقصص عن مغامراته في الشارع، لكنه كان جريحاً من الداخل، مما جعل من تبجحه أكثر حزناً وإثارة للمشاعر. في الحانة وقف أمامي، وراح يتملقني وطلب مني أن أعطيه ألف جنيه إسترليني ليذهب ويعيش في أحد معسكرات الهنود.
استمعت إليه قبل أن أقول: "ألا تظن أنه لديهم ما يكفيهم من مشاكل بدونك".
أحاول أن أتجاوزه لكنه يمسك بيدي.
" لا يمكنك ألا تقدم المساعدة إلى إنسان آخر"، يذهب، وترتسم على وجهه تعابير مثيرة للشفقة. "بسبب لطف".
أقاطعه، " سأعطيك نقوداً إذا أخبرتني شيئاً. أين هو والدك؟ لماذا لا تقيم معه في البيت؟".
نظر إليّ.
أقول: "أجبني".
"ماذا تتعاطى؟".
وابتعد.
في الشارع يمكنني بسهولة أن ألوّح بيديّ وأصرخ، لأني أظن أن بعض هؤلاء الرجال لا يعرفون آباءهم. أين ذهب الآباء؟ ذات مرة ذهب الآباء إلى الحرب وعادوا، إن كانوا قد عادوا، لكن أحداً لم يعد يعرفهم. ومع ذلك فلا يزال الآباء يهربون ويعودون، هذا إن عادوا، دون أن يعرفهم أحد. هل يفكّرون بأطفالهم؟ ما هي أفضل الأشياء التي يجب أن يفعلوها؟ هل يهربون عندما تصبح نساؤهم أمهات؟ ما الشيء في الأمهات الذي يجعلهم يغادرون؟ أين يختبئ الآباء وماذا يفعلون؟.
يجب أن يعرف ذلك أحد ما. يجب أن أسأل واحداً منهم. يجب أن أسأل نفسي.
أهرع إلى سيارتي. ثمة مكان آخر يجب أن أزوره هذه الليلة.
كان فيكتور لا يتوقف عن تقبيل نينا وتطويقها بذراعيه. كان يحيطها برعايته، لكنها عندما عرفت كم هو أخرق وصعب المراس، بدأت تحرص على ألا تثير فزعه.
ذات ليلة أحضر فيكتور إلى بيته مخدرات جديدة. وعندما غاب في عالم المجهول، رحنا أنا ونينا نمارس الجنس. لكنه سرعان ما انضم إلينا في السرير. كم شعرت بالندم لما كنت أريد أن أفعله – وهو أن تصغر في عيني. لولا مشاعري القوية تجاهها.
"لماذا فعلت هذا؟"، سألته.
"إنك تمزح. كنتما غارقين في المتعة".
كنت أعرف كيف أدخل المتعة إلى نفسها. كنت أطهو لها، وأحممّها وأدلك جسدها وهي تنصت إلى الموسيقى. أقسم انه كان بوسعي أن أحبها وأحميها وأرعاها.
كانت تثق بي لكنها بدأت تشعر بالإحباط.
قالت لفيكتور، "إنه يتركني باستمرار. وفي كلّ مرّة كنت أعود وأتعوّد عليه من جديد، كان يرجع إلى البيت، بل والأسوأ من ذلك، كان يذهب لقضاء إجازة. لقد بدأت أفقد الأمل منه. إني أشعر بالاختناق. حتى أني لا أعرف ماذا أنتظر".
قالت إنها لا تستطيع أن تراني لفترة من الوقت. كانت بحاجة لأن تنأى بنفسها عني. جعلت فيكتور يقوم على رعايتها، يتلفن لها كلّ يوم، ويبقيني حياً في أفكارها. ذات يوم، عندما تملكني مزاج مشاكس وحقود، سألته إن كان سيخرج معها لولم أكن موجوداً.
أظن أنهما كانا يلتقيان منذ أسبوعين. لم أستفسر، ولم أحدّثه عن ذلك لأنني كنت مع سوزان والأطفال. ثم اتصل وأخبرني أنها طلبت منه ألا يتصل بها. عندها استأنفنا صداقتنا.لم نتحدث عن نينا. خيّل لي أني سرعان ما سأنساها.
"ذهبت إلى إحدى الحانات لأحتسي كأساً. كانت الحانة مكتظة. قرّرت أن أتسكع في الشوارع. ثم شاهدت نادياً فدخلت إليه".
"هل رأيت نادياً فقط؟".
أقول: "نعم، صف طويل من الناس يصطفون في الشارع".
"ما الذي جعلك تدخل؟".
"لا أعرف. أظن الشيء الذي كنت أتمتّع به من قبل".
تقول سوزان: "إنك لا تفعل الأشياء بعفوية. أين قميصك؟ ألم تكن تلبس قميصاً من قبل؟".
أقول: "يا إلهي، نعم، كنت أرتدي.كم من السهل أن تفقد الأشياء!".
تحدّق فيّ.
* * *
عندما لم أجد فيكتور في الحانة، وبدت الشوارع أكثر عنفاً من تلك التي أذكرها، أقود سيارتي إلى البيت الذي توجد لها فيه غرفة. كنت قد ذهبت إلى هناك منذ أشهر قليلة عدة مرات، عندما انتقلت إلى لندن، لتكون قريبة مني، كما قالت. قالت إنها كانت ترغب في أن تقيم عند الناصية.
كان المطبخ يكتظ على الدوام بالشبان الذين إما كانوا يستعيدون قواهم بعد انغماسهم في الملذات أو كانوا يهيئون أنفسهم استعداداً لها. أتذكّر سريرها على الأرض، غطاء سرير هندي، دواوين شعر، أشرطة، والكثير من الشموع التي تجعل عيد الميلاد مثيراً للشابات.
"لا أعرف لماذا أعيش هنا"، قالت، وأنا أنسحب من سرير لأقفز على سرير آخر. يجب أن أكون معك. ألا يمكنك أن تبقى لفترة طويلة، أو على الأقل الليلة؟".
نظرت إليها، كانت عارية على السرير، بيضاء كحبة رزّ.
" ليتني أستطيع ذلك".
"أترى، لا أظن أنه بوسعي أن أتحمّل أكثر من ذلك".
"ألن تنتظرني؟".
"لا أعرف".
الليلة أخرج لأتسكع في الشارع، رغم أنه لا يوجد شيء يمكنني أن أراه من خلال النافذة. أخيراً أقرع الجرس. يفتح شابّ الباب. أسأله إن كان يتذكرني. يقول نعم إنه يتذكرني بدون حماس بحيث أتساءل إن كان أحدهم قد نقل كلاماً سيئاً عني إلى نينا.
"هل لا تزال تعيش هنا؟".
ينظر إليّ بارتياب.
يقول: "إنها غائبة منذ فترة من الزمن".
"حقاً"؟ ".
"وهل عادت؟".
"هل عادت؟ هل رجعت؟ هل يمكنني أن أراها؟ هل هي في البيت؟".
"لا".
أمسك نفسي كي لا أصفعه على وجهه.
يقول أخيراً إنه يظن أنها ذهبت إلى أحد النوادي القريبة.
"مع من؟"، أقول.
"صديق".
"أين يقيم؟".
يخبرني متنهداً، كما لو أنه كان عليّ أن أعرف مثل هذه الأشياء.
أتوجه بسيارتي إلى هناك وأقف في الطابور قرابة الساعة. كنت أخشى ألا يسمحوا لي بالدخول. وعندما اقتربت من البوّابين، خلعت قميصي علني أبدو عصرياً أكثر وأخفيته وراء سياج عبر الطريق، وأصبحت الآن بالفانيلة والسترة.
إنه يشبه مرقصاً من الداخل، لا شيء سوى الظلام، ظلام دامس يخيم على المكان، بدون تلك الأضواء اللامعة التي كانت تسليني عندما كنت مراهقاً.
مشكلة واحدة: لو كانت هنا لما تمكنت من رؤيتها. خلال معظم سنوات حياتي، حتى هذه الليلة، كنت شاباً. في أكثر سنوات حياتي، كان هناك أناس أتطلع للقائهم، أناس بدا أنهم كانوا يعرفون ما يجري. أين هم؟ في تلك الأيام، باستثناء الأيام التي كنت فيها مع سوزان، كنت أعرف من أنا. وعند الضرورة، كنت أتمالك نفسي وأحافظ على قدر من كرامتي. لكني فقدتها هذه الليلة.
شعلت قداحتي، وشقيّت طريقي بين الحشد، كما لو كنت أستكشف معالم كهف مظلم.
يرتدي الناس معاطف مزررة حتى الحنجرة، وقبعات مسدلة إلى الأمام. لا ريب في أن الفتيان البريطانيين مصلحون وهجّاؤن بالفطرة. يمكنك أن تكون على ثقة بأنهم سيفعلون شيئاً ما. أما الليلة فمن المحزن أن ترى شباناً مخدرين ومخبولين. أريد أن أسأل لماذا، كما لو أنني لا أستطيع أن أتذّكر. قبل ثلاث سنوات، وعلى مدى ستة أشهر كنت أتعاطى الكوكائين ليلاً نهاراً. الحظّ والطموح وحدهما هما اللذان أنقذاني وأبقياني سليماً في نهاية المطاف. هل نشبه تلك الجثة التي دبت فيها الحياة، وهل كنا نعتقد أن كوننا شباباً كان مزيّة في حد ذاته؟ لا ريب في ذلك. هل كانت الضرائب التي أدفعها تُقدم كمعونة لانغماسهم في الملذات؟ ربما. هل كان أبي يسير دون علم منه حول هذه الأماكن بحثاً عن شابّة يلقي بنفسه في أحضانها؟.
إني أخاف على ابنيّ، لكن لا بد أن أغادرهما غداً.
أظن أني أصبحت الرجل البالغ في رواية Catcher in the Rye .
لماذا أحسد هؤلاء الناس؟ في أواخر الستينات والسبعينات كنت أشعر بأنني أنتمي إلى شيء ما، إلى مجموعة أخرى من الشبان، وإلى نوع من الحركة المعارضة. كنت أكره كلمة التصميم، وكان يصعب عليّ أن أنتمي إلى شيء. لكن كان ثمة شيء أفتقده: أن أكرس نفسي، نعم، لقضية أكبر.
فيما كنت أدفع قداحتي أمام الوجوه بدأت أخشى من فكرة رؤيتها. ماذا لو كانت مع شابّ؟ ماذا لو كانت تكرهني الآن؟ هذه الوجوه الشابة. لا بد أنني فقدت عقلي لأنني أعجبت بهذا الجزء من المرأة. ما الخطأ في أن تكون ناضجاً؟ فكّر بالأحاديث التي يمكن أن تدور عن الأدب والمرارة وأنا في الأربعين من العمر! حكى لي فيكتور عن بائعة نظارات مثيرة للاهتمام تملك محلها الخاص بها. يقول الناس إن الروح هي التي تهم، لا الجسد!.
أعرف مكاناً يمكنني أن ألتقي فيه بنساء في منتصف العمر، لو استيقظن في وقت متأخر جداً! فما أن أصوب سهامي نحوهن حتى يشعرن بالامتنان لصحبتي! إنهن قضية أكبر!.
سأنطلق للبحث عنهن!.
أتوجه نحو الباب بشيء من العجلة. من عادتي أن أقترب كثيراً من الشيء، ثم أهرب.
ألمح امرأة ترقص وحدها. لا بد أنها هي؟ أتحرك باتجاهها. لا؛ ليست هي حبيبتي. لا أعرف عنها الكثير، لكن يتكون لديّ انطباع بأن هذه المرأة لن تمانع إن اقتربت منها. من الواضح أن المخدّرات تجعل هؤلاء الناس ودودين أكثر، كما لو كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا غير ذلك. ربما كان عليهم أن يوزعوها على جميع الشباب. ومن المؤكد، أنه لا يهمك إن رقصت مثل طائرة هليكوبتر وهي تهوي وتتحطم وأنت في مثل هذا المزاج. أريد أن أتعلم كيف يمكن للناس أن يستقبلوني برحابة ودماثة.
أصيح في أذن المرأة أن تذهب معي إلى الحانة. لا أستطيع أن أسمع معظم ما تتفوه به. لكن يخيل لي إنها تدعوني لأصطحبها إلى البيت. إذا وافقت فسأذهب معها. كانت غرفة غريبة الشكل، أغراضها كذلك. في الماضي، كان ينتهي بي الأمر في أماكن غريبة، أتيه في المدينة، أنتظر أن أرى ما ستؤول إليه الأمور. في الصباح، سأتوجّه من هناك إلى منزل فيكتور ولن أذهب إلى البيت.
بعد ذلك تلقيت ضربة. يبدو أن الضربة جاءتني من الخلف، وكان رجلاً. قد يكون حدث ذلك عندما رحت أتفحص الحلقة على حاجب المرأة على ضوء اللهب المنبعث من قداحتي. كانت ستثير إعجاب فيكتور.
سوزان تجلس إلى جانبي.
"لا تلمسيها، هنا تلقيت اللكمة"، أقول.
"هل كنت عدوانياً؟".
"لا أعرف لماذا حدث ذلك. هذا تماماً ما يحبّ الشباب أن يفعلوه. ستصبح على ما يرام غداً".
"ماهذه؟"، تسأل.
"صورة موقّعة لجون لينون".
"لماذا كانت على الدرج؟".
أنظر إليها في حيرة. "هل كانت هناك؟ أظن أني كنت أبحث عن مكان أفضل لأعلقّها فيه".
"في منتصف الليل؟".
"يبدو أنه كان أفضل وقت لعمل ذلك".
"إنها متصدعة الآن"، تقول. "انظر إلى الزجاج".
"وجهك البائس. هل تريدني أن أحممّك؟".
أنظر إليها وأقول:"توجد امرأة أخرى أبدي اهتماماً بها. لكنها ذهبت. أخشى أن تكون هذه هي الحقيقة".
"أنت؟ توجد امرأة تبدي اهتماماً بك؟".
"هل يفاجئك هذا؟".
"حسنا، نعم".
"إني مندهش من أنك فوجئت".
تبكي.
"هل ستأخذك منّي؟".
"لا أظن ذلك، حالياً".
أفتح فمي. أوشك على أن أقول شيئاً.
"ماذا؟"، تقول.
"لا. لا شيء"، أقول. "هيا".
في الحمّام تحممني. ثم أسير بها إلى السرير، يدي في ذراعها.
نستلقي هناك، ظهراً لظهر.
* * *
ماذا يمكن أن يكون هناك شيء مفزع أكثر من أشعة الشمس؟ إنها ترتدي ثيابها عند طرف السرير. الطفلان يتقافزان فوق الفراش. الطفل الأصغر يحاول أن يفتح جفنيّ بأصابعه. الآخر يصبّ عصير التفاح في أذني، ليرى إن كان سيخرج من الأذن الأخرى. إنه يملك مقوّمات عالم.
تهبط سوزان الدرج معهما إلى الطابق الأرضي.
أنقلب على ظهري، كما أفعل كلّ صباح، وأفكرّ في ما يجب عليّ أن أفعله اليوم؟ ماهي الالتزامات الماثلة أمامي؟ ما المتع التي قد تكون هناك؟ ثمّ أتذكّر وأغمض عيني.
بعد برهة يُصفق الباب الأمامي ويخيم صمت على البيت. الصمت يزداد، يغلّف كلّ شيء برقة مشؤومة.
أنهض وأهبط الدرج، لكن ثمة جلبة تجعلني أتردّد. أرى سوزان في الصالة وهي على وشك أن تغادر إلى العمل، ترتدي معطفها القصير وتدفع دراجتها نحو الباب.
"هل ستحضر شيئاً هذا المساء؟ أراك على العشاء!"، صاحت، وأغلقت الباب وراءها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى