عبد الرحيم جيران - حكي السلطة والإتيان من المستقبل في «ألف ليلة وليلة»

«قبل أن أسترسل في مغامرة إعادة تفكيك النصّ الليليّ تأويلا، أحبّ أن أشير إلى أنّ ألف ليلة وليلة تتضمّن رسائل مُسنَّنة تُركت للتاريخ في انتظار من يكتشفها، شأنها في ذلك شأن القارورة التي رُميت في البحر مُتضمِّنة داخلها رسالة، ورماها الموج على الشطّ، لعل فضوليًا يفتحها كي يقرأ ما في داخلها».
لقد تساءلنا في المقال السابق عمّا إذا كانت السلطة لا تحكي، وأشرنا إلى تخوّفها الشديد من التباس الحكاية؛ ربّما كان الأمر إشكاليًّا، ويحتاج إلى أسئلة أخرى بغاية الإجابة عنه. وهذه الأسئلة لا تُطرح من خارج الليالي، بل من داخلها؛ فأبناء السلاطين يحكون حكاياتهم أيضًا، وكذلك الوزير جعفر البرمكي يروي حكاية «نور الدين مع شمس الدين» (الليلة العشرون)، وهما معًا يُجسِّدان السلطة. هل معنى هذا أنّ الأمر يتعلّق بالخلع، أو فقدان السلطة (أبناء الملوك الذين فقدوا ملكهم)؟ يصير هذا الافتراض عديم الجدوى لأنّ جعفر البرمكيّ يحكي في أثناء ممارسته السلطة. هل يتعلّق الأمر بتراتب في السلطة؟ إذا سلّمنا بهذا فالحكم بكوْن السلطة لا تحكي يفقد صلاحيته. هل يتعلّق الأمر بالحالة التي تصير فيها إحدى أدوات السلطة في وضع تبريريّ حَرِج؛ أي في حاجة إلى طلب الغفران من مصدر السلطة (الخليفة أو الملك)؟ أكيد أنّ هذا السؤال يزداد صلابة حين نأخذ بالشرط الذي لا يجعل السلطة حاكية، إلّا في الحالة التي تحكي فيها لذاتها؛ وتصير صدى لنفسها. ولعلّ الحكاية التي يرويها جعفر البرمكيّ تامّة وفق هذا الشرط المصحوب بالتبرير وطلب الغفران. إنّه يحكي حكاية «نور الدين مع شمس الدين» للخليفة هارون الرشيد طلبًا لغفرانه لعبده، تحكي السلطة- إذن- لنفسها في البلاط، لا خارجه، طلبًا لغفرانها لذاتها؛ فالعبد ليس إلّا مُضاعفًا لذات جعفر البرمكيّ، لأنّه هو هو مادام كلٌّ منهما يُعَدُّ غير منتمٍ للأصيل (الدخيل: العرق غير العربي): «فقال جعفر: يا أمير المؤمنين لا أحدّثك إلا بشرط أن تعتق عبدي من القتل، فقال قد وهبت لك دمه».
كيف يتخيّل – إذن- حكي السلطة ذاته؟ وكيف تُخيّل في الزمان؟ وكيف تُبعث كي تحكي مأساتها عبر تخييل بدائل مُضاعفة لها؟ إنّها تحكي في إطار المُفاضلة بين ما تعرفه من حكايا وما يحكيه غير المُنتمين إلى السلطة؛ فحكاية جعفر البرمكيّ تأتي مباشرة بعد حكاية الصبية المُقطَّعة في صندوق من خشب، التي أمر هارون الرشيد بنسخها وتأريخها. وتأتي حكايته من أجل خلاص عبده الذي يُعَدُّ خلاصًا له هو بالذات. وهذا الخلاص مُرتهن بالمفاضلة الحكائيّة التي تقتضي تدوين ما يستحقّ أن يكُون الأفضل. وما الأفضل سوى الحكي المُنتمي إلى السلطة (الحكاية التي يرويها جعفر البرمكيّ)، والمُدوَّن من قِبَلها (الحكاية التي يرويها جعفر البرمكيّ قد سبق تدوينها بأمر من سلطان مصر).
يبتدئ الحكي في الحكاية التي يُعيد روايتها جعفر البرمكيّ- استنادا إلى كونها مُدوَّنةً في المستقبل- بالاستهلال الآتي «إعلم يا أمير المؤمنين أنّه كان في مصر سلطان صاحب عدل وإحسان له وزير عاقل خبير له علم بالأمور والتدبير»، وهو استهلال مُخالف للمُحفِّز motif الذي تبتدئ به شهرزاد حكيها «بلغني أيّها الأمير السعيد»؛ فصيغة الأمر «إعلم» لا تأتي من باب التقرير أو التذكير بما هو معلوم، بل هي تأتي على وجه الأمر المُنبِّه الذي يتضمّن تراتبًا بين من يعلم ومن لا يعلم، وهو شيء يقلب علاقات السلطة، ومقتضيات الخطاب التراتبيّ، إذ تضع من هو فوق في موضع الجهل (عدم المعرفة). ولا يتعلّق الأمر- هنا- بجهل الحكاية، وإنّما بجهل التاريخ نفسه؛ أي جهل أنّ هناك سلطانًا بمصر يحكمها. هو – إذن- جهل الآتي ممّا سوف يُسجِّله التاريخ. كما أنّ جعفر البرمكيّ لا يُسند العلم بالحكاية إلى غيره، بل بُسنده إلى نفسه تمامًا، كما هو الأمر بالنسبة إلى شهرزاد التي تُسرد ما بلغها من طريق الكتب، فهو أيضا على علم بتدوين الحكاية التي يرويها، ولا شك أنّه اطلع عليها، لكنّ الفرق بينه وبين شهرزاد كامنٌ في كونها تحكي ما وقع في الماضي، بينما هو يحكي ما يدخل في عداد ما وقع في المستقبل (أي ما سوف يقع) ومن تضمّنات العلْم في الثقافة العربيّة معرفة الغيب. ومن ثمّة يصير من يُكلِّم هارون الرشيد مُستخدمًا فعل الأمر المنبّه هو الزمان المملوكيّ الذي يستعير لسان جعفر البرمكيّ بفعل مهارة المُدوِّن الواقعيّ المجهول الذي كان يُرمِّز التاريخ العربيّ والسوء فيه على نحو لامز وذكي. ومن ثمّة فصيغة الأمر «إعلم» هي صادرة من فم التاريخ الذي تمّحي فيه الحدود بين الأزمنة؛ بحيث يحدث النزول من الحضور في المُستقبل (سلطان مصر: العصر المملوكيّ) صوب الحضور في الماضي (خلافة هارون الرشيد). إنّ وراء هذا التجديل الزمانيّ بين السوء التاريخيّ (انحطاط الخلافة) والماضي المجيد، يُعَدُّ نتاج كمون الأزمة والتدهور في قلب لحظة المجد ذاتها، والمقصود بهذا نكبة البرامكة التي تعرّضوا لها على يد الخليفة هارون الرشيد، والتي نتجت عن سطوة نفوذهم الذي صار يُهدِّد سلطة الخليفة، ويُنذر بتحويله إلى مُجرَّد دمية في أيديهم (ابن خلدون/ 1).
كيف تعمل الحكاية إذن على تخييل هذا التجديل بين الماضي المجيد والمستقبل المتدهور؟ إنّ الإجابة تكمن في الرموز والتنسيق بينها في نطاق تشكيلها كناياتٍ دالّة، ووفق مبدأ التعاضد التأويليّ، الذي لا يفصل بين الحبكة والإرادة داخلها وإرادة استعمالها من قِبَل من دوَّنها. وأهمّ رمز في هذا النطاق كامنٌ في حكاية الصندوق الخشبيّ، الذي يحتوي على جثّة فتاة مُقطَّعة الأوصال (الليلة التاسعة عشرة)، التي قتلها زوجها شاكًّا في خيانتها، والسبب في هذا القتل يعود إلى عبد من عبيد جعفر البرمكيّ ادّعى أنّه حبيب زوجة الشابّ القاتل (مُماثلة الادّعاء التاريخيّ حول العلاقة بين «العبّاسةّ أخت هارون الرشيد وجعفر البرمكيّ). إنّ الجثة مُقطَّعة الأوصال التي عُثر عليها في الصندوق (مُضاعِف القمقم في حكاية «الصيّاد والعفريت») هي رمز لحال الخلافة التي سوف تمزّق في ما بعد. ويُعَدّ عبدُ جعفر البرمكيّ الأسودُ المُتسبِّبَ غير المباشر فيها، وهو مكمن الالتباس، لكنّه لا يُعَدُّ سوى مُضاعف تخييليّ لسيّده؛ فهو هو. إنّ مُعاقبته هي مُعاقبة لجعفر البرمكيّ، ولا يحكي هذا الأخير حكايته إلّا طلبًا للغفران لنفسه، لا لعبده.
لكنْ أتقف حكايته عند طلب الغفران؟ أم تتجاوزه إلى هدف آخر؟ هذا ما سنعرفه في المقال المُقبل.


* القدس العربي
Jun 09, 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى