زكريا إبراهيم - سبيل مطروق...!

أعتقد نيتشه أنه رائد الإنسانية الأول، وظن أن أحدا قبله لم يطرق السبيل الذي طرقه؛ ولكن الرواد قبله كانوا كثيرين، وهذا السبيل الذي ضرب فيه مطروق مطروق!. فهذا الإيمان الشديد بالأرستقراطية وعبادة الذات، قد سبقه إليه لاروشيفوكو وهلفتيوس ورينان وتين وبرودون وفلوبير وغيرهم. وذلك الاعتقاد الراسخ باستحالة المساواة بين الناس قد ذهب إليه من قبل (جوبينو) الذي أعجب به نيتشه أشد الإعجاب. وتلك الكراهية الشديدة للمذاهب الاشتراكية والفوضوية، قد ترددت من قبل على لسان (هارتمان) الذي أزرى به نيتشه كل الإزراء. وهذه الثورة العنيفة على الأخلاق السائدة والقيم الجارية، قد لقيت من قبل في (جوبو) أحسن معبر لها. وتلك الدعوى الجريئة إلى (اللاأخلاقية) قد سبقه إليها أحد معاصريه وهو (شترنر) - فليست رسالة زرادشت إذن جديدة كل الجدة على الإنسانية، وإنما هي رسالة رددها على مسمع منها كثير من مفكري العصر الحديث. وإذا كان في هذه الرسالة شيء من الطرافة، فذلك لأنها تعبر عن شخصية صاحبها التي استطاعت أن تؤلف بين كل هذه الأفكار المختلفة. ومعنى هذا أن ما يروعنا ويستهوينا في نيتشه، هو أولا وبالذات، شخصيته، لا آثاره. فهذه الشخصية الرائعة تنطوي في أعماقها على نفس فنانة، وقلب شاعر؛ وفي أبعد أغوارها يكمن (الإنسان العظيم) الذي طالما تحدث عنه نيتشه نفسه!

بيد أننا مع ذلك مضطرون إلى أن نضرب صفحا عن تلك الشخصية، لكي نقصر النظر على آثارها. وقد أراد نيتشه أن تحكم عليه الإنسانية بما خلف من آثار، فلم يبق إلا أن نحاسبه على هذا الأساس. وما دام هو قد تنكر للماضي، وثار على تراث الإنسانية كله، فلا بأس من أن تحكم على آثاره محاولين أن نتلمس ما فيها من جدة مطلقة. - ولكن لابد لنا من أن نقرر قبل ذلك أن نيتشه قد أستثنى بعض المتقدمين، فأعترف بالفضل لطائفة من الكتاب والمفكرين، ممن أنجبتهم الحضارة الفرنسية (التي هو مدين لها). وقد حرص نيتشه على أن يذكر بصفة خاصة ستندال، فإن هذا المفكر الفرنسي - فيما يزعم نيتشه - قد استلبه أجمل فكاهة الحادية يمكن أن تخطر بالبال، وهي قوله: (إن العذر الوحيد الذي يشفع لله هو أنه غير موجود!). ومهما يكن من شيء، فأننا إذا استثنينا الإعجاب الذي أبداه نيتشه ببعض المفكرين الفرنسيين، مثل: بول بورجيه، وبيير لوتي، وأناتول فرانس، وجي دي موباسان؛ وبعض الشعراء الألمان مثل هينرش هيني؛ فإننا نجد أنه كان يعتبر دائما أن أحدا لم يسبقه إلى تلك الأفكار الرائعة التي أعلنها، وتلك الآراء الصائبة التي أبدأها!

ولكننا نلاحظ - بالرغم من هذا الادعاء - أن جوبينو قد سبق نيتشه إلى كثير من هذه الآراء: فقد نادى جوبينو بانعدام التساوي بين الأجناس البشرية، واعتبر الجنس الأوربي أرقى الأجناس، وجعل على رأس هذه الأجناس جميعا الجنس الجرماني (الأشقر). وفضلا عن هذا، فقد ذهب أيضاً إلى أن من حق الجنس الأوروبي - باعتباره أرقى الأجناس - أن تتحكم في الأجناس الأخرى - باعتبارها أجناسا سفلى - وارتأى جوبينو أيضاً أن من الواجب تكوين صفوة أرستقراطية مختارة، تكون من تلك الجنسيات التي تنتسب إلى أرقى الأجناس - وقد انتشرت هذه الآراء التي نادى بها جوبينو في ألمانيا كلها، فأنشئت في أواخر القرن التاسع عشر، جماعة تحمل اسم جوبينو، وتعرف في ألمانيا باسم: وترددت آراء جوبينو على لسان نيتشه، فقال فيلسوفا بأرستقراطية الأجناس، وإمكان قيام جنس أعلى، أو نوع راق، يكون جديرا بأن يطلق عليه اسم الجنس (الأعلى) أو (فوق الإنساني)

وليس جوبينو وحده هو الذي سبق نيتشه إلى بعض الآراء التي ادعاها نيتشه لنفسه، بل لقد سبقه إلى ذلك أيضاً فيلسوف آخر ألماني، هو ماكس شترنر الذي نادى بمذهب (اللاأخلاقية) والفردية المطلقة. وسواء أكان نيتشه قد عرف شترنر أم لم يعرفه، فإن هذا الفيلسوف (الذي عاش من سنة 1806 إلى سنة 1856) كان سلفاً مباشراً لنيتشه في المناداة بالمذهب اللاأخلاقي. ويمكن أن تخلص فلسفة شترنر في عبارة واحدة هي (تقديس الذات)، أو (عبادة الأنا). فالذات هي مركز العالم، والعالم - بما فيه من أشياء وأفكار وأفراد - إنما هو ملك للذات. وكل ما في الكون ليس له حدود حقيقي بالقياس إلى الذات، التي هي الشيء الحقيقي الوحيد و (الإنسان) المجرد أو الإنسان باعتباره معني كليا (وهو ما يريد فويرباخ أن يجعله موضع تقديسنا) ليس له أي وجود حقيقي، (وإنما هو خيال لا يكون له وجود حقيقي إلا في ذاتي وبذاتي). ولما كانت الحقيقة الوحيدة هي حقيقة (الذات) أو (الأنا) فإن في استطاعتنا أن نتخذ لنا من هذه (الذات) مبدأ نسميه باسم (الواحد) أو (الفرد) ?. وما دامت الذات هي المبدأ الوحيد الذي يجب أن نأخذ به، فإن علينا أن نستعبد كل سلطة خارجية، سواء أكانت سلطة (الله) أم (الإنسانية) أم (الأخلاق اللاهوتية)، أم (الآمر المطلق). . . إلى آخر تلك السلطات التي يراد فرض سيطرتها على الذات وأذن فان علينا أن نهدم الأخلاق، لأن الأخلاق تقوم على (فكرة متسلطة) هي فكرة (الواجب) أو (الآمر المطلق). وهنا نجد أن نيتشه يتفق مع شترنر، فإن زرادشت سينادي بهدم الأخلاق، والثورة المسيحية التي تضع للحياة قيما فاسدة منحلة. . . أما القول بعبادة الذات أو تقديس (الأنا) فهذا أيضاً مما يتفق فيه نيتشه مع شترنر، فإن نيتشه هو الذي يقول: (إن وراء أفكارك وعواطفك (يا أخي) يكمن سيد قوي، بل حكيم مجهول، هو ذاتك نفسها وهو في بدنك يقيم، بل هو بدنك نفسه)!

ولا تقف أوجه الشبه بين نيتشه وشترنر عند هذا الحد، بل إنهما ليتفقان أيضاً في شيء أعمق من هذا، وهو القول بإرادة القوة فقد جعل شترنر لإرادة التوسع في القوة والامتداد بالذات، أهمية كبيرة في فلسفته، حتى إن هذه الإرادة لتبدو عنده باعتبارها (القوة الأساسية للكائن البشري)؛ وهذه الفكرة هي التي ستصبح على لسان زرادشت الأغنية المحببة التي يرددها نيتشه في كل حين. فنحن نرى من هذا كله أن شترنر قد سبق نيتشه في الثورة على الأخلاق، والانتفاض على المسيحية، والدعوة إلى عبادة الذات. فلم يكن نيتشه إذن أول من ضرب بقدمه في هذا السبيل، بل كان شترنر هو الرائد الأول الذي سار في الدرب الذي طرقه السابقون، حتى نهايته. وكل ما فعله نيتشه هو أنه جدد أفكار شترنر، وردد آراءه - دون أن يكون قد وقف عليها - كما ررد أيضاً آراء السوفسطائيين والكابيين وبعض المحدثين مثل لاروشيفوكو وهلفلتيوس وهولبلخ وفريدريك شليجل وستندال - مع وقوفه عليها -.

ونستطيع أن نضيف إلى هؤلاء الفلاسفة الذين أثروا في نيتشه أو الذين سبقوه إلى الآراء التي نادى بها، فيلسوفا آخر يتفق مع نيتشه في أنه شاعر مثله، ويختلف عنه أنه ليس منحرف الطبيعة مثله. إما هذا الفيلسوف الشاعر فهو جويو صاحب كتاب (صورة مجملة لأخلاق بلا تكليف ولا جزاء) وقد ذهب هذا المفكر الفرنسي في مؤلفه مذاهب شتى، بعضها يتفق مع ما ذهب إليه نيتشه اتفاقاً كبيراً حتى إنه ليصعب علينا أن نتصور أن يكون نيتشه لم يطلع على ما جاء فيها. ومما يتفق فيه الفيلسوفان.

أولا: القول بأن (الحياة هي الكل) بمعنى أنه ليس في وسعنا أن نتصور شيئا ما على أنه موجود حقيقة إلا إذا كان هذا الشيء حيا.

وثانيا: القول بأن الأخلاق التي تنادي بفكرة الواجب والآمر المطلق، أخلاق فاسدة يجب القضاء عليها، لأن الإلزام أو التكليف يرجع إلى الحياة نفسها، إذ الحياة هي التي توفر للفرد الشعور بالقدرة على العمل، وليس هناك قوة سحرية غريبة (كالآمر المطلق) المزعوم.

وثالثاً: القول بأن التشاؤم يدعو إلى الانحلال والفناء في حين أن التفاؤل يكسب خصباً وامتلاء، فكل من جويو ونيتشه يعتبر التشاؤم مظهراً للانحلال والهبوط والفناء. . .

رابعاً: القول بأن الفن هو المعنى الباطن للحياة بمعنى أنه ليس مجرد متعة أو ألهية، بل هو أمر جدي له قيمته في الشعور بالحياة الحافلة الخصبة المليئة، فكل من جويو ونيتشه ينظر إلى الفن نظرة حيوية ولا يعده عديم الغاية بل يذهب إلى أن الفن للحياة وبالحياة. ومعنى هذا أن الفن عندهما ليس للفن - كما يقال عادة - بل هو غائي، وغايته ليست تقويم الأخلاق أو إصلاح الناس، بل تقوية الشعور بالحياة.

وأما النواحي التي يختلف فيها جويو مع نيتشه فهي تلك التي تمس مشكلة (الفردية)؛ وذلك لأن جويو يعتقد أن الرجل القوي ليس هو الرجل المتوحد (كما يزعم نيتشه) بل هو الرجل الذي تجمعه بغيره من الناس، وشائج العقل والقلب. فعلى الرغم من أن جويو يتفق مع نيتشه في القول بالحياة الخصبة المليئة، إلا أنه يتصور هذه الحياة على أنها أولاً وبالذات، حياة اجتماعية تنعدم فيها الأنانية، لأن الأنانية سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب أو امتلاء. . ولعل خير ما يوضح لنا الفارق بين نيتشه وجويو، هو أن الأول يدعونا إلى اتباع الطبيعة (كما دعا إلى ذلك الأقدمون) في حين أن الثاني يدعونا إلى تعميق الطبيعة. فنيتشه يقول: (أتبع الطبيعة) وأما جويو فأنه يقول: (عمق الطبيعة) ومهما يكن من شيء فإن جويو هو بلا ريب واحد من أولئك الرواد الذين سبقوا نيتشه في الطريق الذي سلكه. وقد رأينا أن هؤلاء الرواد كثيرون فهل علينا من حرج بعد هذا إذا قلنا إن السبيل الذي سلكه نيتشه سبيل مطروق؟

(السويس)

زكريا إبراهيم

مدرس بمدرسة السويس الثانوية


مجلة الرسالة - العدد 604
بتاريخ: 29 - 01 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى