شهلا العجيلي - الحمٌام وانقلابات الرؤية

لا بدٌ من أن يكون صراخ الطفل في أثناء إقامة علاقته الأولي بالماء خارج الرحم، هو ردٌ فعل فيزيائيٌ علي تغيٌر شروط البيئة المحيطة، وليس ردٌ فعل معنويٌا تجاه المتعة، لأنٌ المتعة ليست شيئا فطريٌا، إنٌها شيء نتعلٌمه، فهي مزيج من عناصر السلطة وعناصر المعرفة. ومع تعالق هذين العنصرين الأخيرين بتٌ أكتشف رؤيتي تجاه الحمٌام، الذي طالما شكٌل لي الخلاص، فكنت أبادره بشغف خاصٌ بعد جلاء كلٌ أزمة: مرض، أو امتحان، أو مشكلة...
ولم أتمكٌن من صياغة هذه الرؤية صياغة نظريٌة جليٌة إلاٌ مع (جلجامش) بطل الملحمة السومريٌة، الذي راح يبحث عن عشبة الخلود، فأخبرته صاحبة الحانة أنٌ الآلهة حينما خلقت الإنسان قدٌرت عليه الموت، واحتفظت لنفسها بالخلود، وقالت له:
جلجامش..
اغتسل..
وتطيٌب..
واستمتع بخليلتك..
واترك الخلود للآلهة..

مع هذه المقولة، أدركت كنه العلاقة التي شكٌلتها بين الحمٌام والخلاص، إنٌه لم يكن سوي مبادرة للحياة من جديد، في كلٌ مرٌة أتخلٌص فيها ممٌا يشكٌل لي موتا نفسيٌا أو حقيقيٌا، علي حدٌ قول طرفة:

فإن كنتّ لا تسطيع دفع منيٌتي = فدعني أبادرها بما ملكت يدي

هذا الذي يعنيني من الحمٌام، أمٌا شكل الحمٌام، وتطوٌراته، وأدواته، ومتعلٌقاته (الإكسسوارات)، التي تبعث الإحساس بالرفاهة، والمدنيٌة، فلا أتذكٌر أنٌها استقطبت اهتمامي يوما، وقد يعود جزء من ذلك إلي انتمائي إلي مكان يزخر بالحمٌامات منذ فجر التاريخ، بدءا بالحمٌامات الرومانيٌة، وانتهاء بالتركيٌة التي ما تزال تعمل حتٌي اليوم، وقد اعتادت عيني عليها، وعلي تطوٌراتها، وعلي طقوسها الاحتفاليٌة الباذخة، وعلي دعوات المترفات لحضور هذه المناسبة أو تلك في حمٌام (يلبغا الناصريٌ)، أو حمٌام الباب الأحمر، وقبل ذلك في حمٌام النحٌاسين، أو البيٌاضة، واليوم انتقلت تلك الطقوس إلي الحمٌامات التركيٌة التي اجتاحها الجاكوزي، والتي تطوٌرت إلي ال Spa أي المنتجع الذي يضمٌ مجموعة من حمٌامات الجاكوزي، وأماكن للعلاج الطبيعي، والعناية بالبشرة، والسباحة...

لم تغيٌر تلك الطقوس والإضافات رؤيتي تجاه الحمٌام، هذا ما جعلني أستقبل الكتاب الذي أهداني إيٌاه أحد الأصدقاء، والذي يضمٌ لوحات لمستشرقي القرن التاسع عشر: (إنغر)، و(ماتيس)، و(جيروم)، و(دولاكروا)، بقليل من الحماس، ممٌا أدهش ذلك الصديق، وأحبطه! فأنا أجد أنٌ لوحات الحمٌام التي رجسمت في الحقبة الاستشراقيٌة، لا تقاس في مستوي إدهاشها بالحمٌامات التي أقامتها القراءات في مخيٌلتي، إذ تنقصها الحركة، كما تنقصها دمقرطة التخييل، نظرا لخضوعها إلي سلطة نسق ثقافيٌ بات معروفا لنا، في حين تفتح القراءة أبواب حمٌامات عامرة بالمتعة المتأتٌية من الماء والتعري، والمتأتٌية من الكلام والمخاتلة علي حدٌ سواء.

ولعلٌ يوم الغدير، هو يوم الحمٌام المشهود تاريخيٌا، ذلك الحمٌام الذي لن يتكرٌر حتٌي في مخيٌلة المتخيٌل الواحد، ففي كلٌ مرٌة يستذكر فيها ذلك الحمٌام، يولد سيناريو جديد لقصٌته، إنٌه حمٌام العذاري في (دارة جلجل)، حيث لا مواد تنظيف، ولا مستحضرات تجميل، لأنٌه حمٌام من الشعر والعبث: ثياب منضوضة، وربٌما أساور وخلاخيل ملقاة هنا وهناك علي حافٌة الغدير.

فيحكي أنٌ الحيٌ تحمٌلوا، فتقدٌم الرجال، وتخلٌف النساء والخدم، أمٌا (امرؤ القيس)، فتخلٌف عنوة بعدما سار قليلا مع رجال قومه، وذلك حين علم بنيٌة عكوف الصبايا علي الغدير، وفيهنٌ (عنيزة).

راح يرقبهنٌ، وقد نحٌين العبيد، وتجرٌدن، ووقعن في الماء، فجمع ثيابهنٌ، وقعد عليها، وقال: والله، لا أعطي جارية منكنٌ ثوبها، ولو قعدت في الغدير يومها، حتٌي تخرج متجرٌدة، فتأخذه. فأّبّين ذلك عليه حتٌي تعالي النهار، وخشين أن يقصٌرن عن المنزل الذي يردنه، فخرجن جميعا، غير عنيزة، التي ناشدته الله أن يطرح ثوبها، فأبي، فخرجت، فنظر إليها مقبلة، ومدبرة، ثمٌ ألقي عليها الثوب!
بعد ذلك قلن له: إنٌك عذٌبتنا، وحبستنا، وأجعتنا، وبعد...
فعقر لهنٌ ناقته، وأضرم العبيد نارا عظيمة، فكان شواء، وشرابا من فضلة كانت معه، يشرب، ويسقيهنٌ، وكان ذلك اليوم أحسن أيٌامه، إذ يقول:
ألا ربٌ يومي لك منهنٌ صالح = ولا سيٌما يوم بدارة جلجلِ
ويوم عقرت للعذاري مطيٌتي = فيا عجبا من كورها المتحمٌلِ

وبقي امرؤ القيس ورحله بلا ناقة، فقالت إحداهنٌ: أنا احمل طنفسته، وقالت الأخري: أنا أحمل رحله وأنساعه، فتقاسمن متاعه، ولم تحمل عنيزة شيئا، فقال لها: لا بدٌ من أن تحمليني معك، فإنٌي لا أطيق المشي، فحملته، فكان يجنح إليها، فيدخل رأسه في خدرها، فيقبٌلها، فتمتنع، فيميل حدجها، فتصيح: عقرت بعيري فانزل، وفي ذلك يتغنٌي في المعلٌقة قائلا:
ويوم دخلت الخدرّ خدرّ عنيزة = فقالت: لك الويلات، إنٌك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معا = عقرتّ بعيري يا امرأ القيس، فانزلِ
فقلت لها: سيري، وأرخي زمامه = ولا تبعديني من جناكِ المعلٌلِ

هذا ما كان من حديث الحمٌام الذي يحرٌر المخيٌلة من الصور النمطيٌة، الحمٌام الذي أثري المدوٌنة الشعريٌة العربيٌة بأبيات غرر.

ولعلٌ ثمٌة حمٌاما آخر عرفته، فأدهشني بما يحمله من طاقة علي التريٌض العقلي، إنٌه حمٌام (زانا خاتون) الأخلاطيٌة الكرديٌة، ذلك الحمٌام الذي حملني بسحر الحوار الذي دار فيه، علي قراءة شرح (ابن رشد) علي كتاب (أرسطوطاليس) في الجدل كاملا. و(زانا خاتون) هي الزوجة الأولي ل (أردهان) حاكم ولاية (ميدو)، في رواية (الأختام والسديم) ل(سليم بركات)، ويلج المتلقٌي حمٌامها علي الشكل الآتي:
¢ بعلامات من قياس الظلال، جري التدبير الرؤوف لشرع النور، ونظامه، في الحلقة الحجريٌة، التي يحيط بها حوض نصف دائريٌ من رخام عتيق، فلقت قشرتّه عثاكيلج من الصدوع، رّأّبها العارفون بالرصاص الذائب، وصمغ الكندرِ، كي لا يرشح منه الماء. ستٌة قناديل ألقت نردّ الظاهر بين يدي الكمال الشاحب، لوعة فوق المقاعد المربٌعة، المنحوتة من الحجر الرمل، ذي المسام المحفور عميقا كالجدري، حيث جلست نساء أردهان التسع عاريات، يغلي من خلفهنٌ زير الماء العظيم علي موقد حجشدت لناره جذوع الأجترنج، وبزر الكرٌاث، وعيدان المصطكي. دسٌّ الكافور أنفاسا من العافية في الأنحاء...
انفرجت الأفخاذ المرتعشة اللحم بعافية امتلائها، ورجفعت الأحواض البيضاء باتٌكاء الأجساد علي المرافق فوق المقاعد، منطرحة علي الظهور بلا استلقاء كامل. كلٌ واحدة واجهت الأخري: أربع متمدٌدات، وأربع راكعات، هنٌ اللواتي يرقٌقن العقيد اللزج كي يلطقنه بشعر العانات، من نواحي البطون نزولا إلي الفروج.

ذلك هو المشهد الأوٌليٌ من الحمٌام الذي تتبعه طقوس إزالة الشعر، والاغتسال، وتناول الفاكهة، لكنٌ المدهش هو الحديث الذي يدار في الحمٌام بين نساء (أردهان)، الحديث القائم علي فنٌ الجدل:
...كلٌما دخلتنٌ الحمٌام انبثٌت فيكنٌ حمٌي الأسد. دمدمت ديدا السوداء
...ألححن علي السوداء تأويلا لحمٌي الأسد.
هي أوٌل حمٌي انتابت كائنا من كائنات ما بعد الفتنة. الأسد ابتلي بالحمٌي. قالت ديدا.
من هي كائنات ما بعد الفتنة، يا جوهرة الله، ساءلتها إحداهنٌ، فردٌت السوداء:
كلٌ كائن توالد بعد النزول من الجنٌة.
ولماذا ابتلي الأسد وحده، بداية، بالحمٌي؟ سوئلت السوداء، فردٌت
الحمٌي مرتبة، يقول الشيخ الخزنويٌ.
وما هي مرتبة حمٌي الأسد؟ سوئلت، فردٌت السوداء:
حين تغدو فروجكنٌ ظاهرة، ناطقة، عالمة بفروع الحقائق، سأشرح الأمر.
... العقل مسكون؟ دمدمت ميدوبا، التي رشٌت دقيقا أبيض علي رابية فرجها، ومسٌدتها به. تراخي الجلد المقشعرٌ من نكال العقيد اللزج بنمشه الوديع. ابتسمت زانا من غير أن تلتفت إلي ميدوبا:
قولي لها يا ديدا أنٌ لكلٌ جارحة من جوارحها عقلا. ضحكت السوداء:
ألفرجها عقل أيضا؟ قهقهت النساء
للفرج عقلان: عقل القدم وعقل المحدث...

وهكذا تدار المسائل الجدليٌة في حمٌام نساء أردهان، وتستتبع بحوارات حول الظاهر والباطن، والجوهر والعرض، والأبد والأزل، وغيرها من المسائل التي لا تجدار إلاٌ في بلاطات الأكابر من الملوك، علي ألسنة المتناظرين من علماء الكلام.

تبقي تلك المتع الجسديٌة والعقليٌة كلٌها، مهما تحرٌرت بفعل الخيال، أسيرة العلاقة بين النصٌ والمتلقٌي، فالرؤية التي كوٌنتها تجاه الحمٌام، وظننتها خالدة، اعترتها تحوٌلات قاسية مع ولوجي مناطق أخري من الحياة، خارج الكتب، فتحوٌل ما تصوٌرته خلاصا بالحمٌام، إلي خلاص من الحمٌام الذي يصير عبئا بالنسبة للاٌجئين والمنكوبين، وضحايا الحروب والكوارث. فحمٌام (اسفير) ليس كحمٌام (زانا خاتون)، إنٌه حمٌام بالحدٌ الأدني الذي يبقيك علي قيد الحياة فلا تموت من تبعات القذارة، التي يفرضها اللجوء، والتشرٌد. إذ يحدٌد مشروع (اسفير) للاٌجئين، المعايير الدنيا في مجال الاستجابة للكوارث، وقد باشرت به الحركة الدوليٌة للصليب الأحمر والهلال الأحمر مع مجموعة من المنظٌمات غير الحكوميٌة، منذ عام 1997، وتقام اليوم مخيٌمات اللاجئين بناء علي معايير (اسفير) في الإيواء، والتوطين، والإصحاح، والتغذية...

وبناء عليه، يحصل كلٌ شخص في المخيٌم علي 250 غ من صابون الاستحمام شهريٌا، وعلي لتر من الماء في اليوم، لممارسات النظافة الأساسيٌة. ويشترط في إقامة المخيٌم ألاٌ تتجاوز المسافة بين المسكن وأقرب موقع لتوزيع الماء 500 م، وألاٌ تتجاوز مدٌة الوقوف في الطوابير عند موقع توزيع الماء 15 دقيقة، وأن تخصٌص مقصورات استحمام منفصلة للرجال والنساء، وأن يكون مرحاض لكلٌ 20 شخصا، وأن يكون بين الخيمة والمرحاض 50 مترا فقط. أمٌا مستلزمات حمٌامات اللاٌجئين فهي فوط حيض صحيٌة للنساء والفتيات، و12 حفٌاضة أطفال قابلة للغسل، وذلك حتٌي سن عامين.

لن أتحدٌث أكثر، إذ علي المخيٌلة أن تطلق العنان باتجاه المعاناة، في أثناء قطع مسافة في العراء ليلا، ربٌما في الشتاء، وذلك لقضاء حاجة، أو لغسل طفل يعاني من إسهال، أو ما شابه، ولن أتحدٌث عن نساء النٌفاس، في حمٌامات اللاجئين، ولا عن مغتصبات يغسلن آلامهنٌ وأشياء أخري.

منذ عشر سنوات وأنا أقيم بين حين وآخر في مخيٌمات اللجوء، أعيش مع المنكوبين: العراقيين، والفلسطينيين، والأندونيسيين، والأفغان، وحتٌي السوريين في أثناء انهيار سدٌ (زيزون)...
أستعمل خيامهم، وحمٌاماتهم، مدٌة شهر أو أقلٌ، أو أكثر بقليل، أعاني معهم، لكنٌني في النهاية أعود إلي بيتي، وإلي حمٌامي، من دون أن يبرح ذاكرتي مشهد أوعية الماء البلاستيكيٌة البيضاء، ذات الأعناق، المزوٌدة بالأغطية، والمصفوفة أمام الخيمة أو داخلها، أو الملقاة بجانب الخزٌانات.

لقد غيٌرت هذه التجارب، والمشاهد علاقتي بالحمٌام، وجعلت عمليٌة إمتاعي صعبة للغاية، بل معقٌدة، بحيث لا يقدر عليها لا الحمٌام التركيٌ ولا التايلنديٌ، بل قد يعجز عن تحقيقها حمٌام امرئ القيس بحدٌ ذاته!


* عن موقع الامبراطور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى