محمد صبحي المعمار - بروتوكولات أدب في حمامات حلب

عرفت مدينة حلب العديد من الحمامات المنتشرة في أحيائها وتذكر المصادر التاريخية أن عدد الحمامات في حلب وصل أحياناً إلى مئة وسبعة وسبعين حماماً كما يذكر ابن الشحنة في كتابه الدر المنتخب في تاريخ حلب نقلاً عن ابن شداد ويذكر كامل الغزي في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب أن عدد الحمامات آنذاك بلغ /177/ حماماً داخل المدينة والباقي حولها وبعض الحمامات القديمة التي تعاقب المؤرخون على ذكرها غير معروفة وهذا ما أكده أبو ذر في كتابه كنوز الذهب في الفصل المنقول عن الحمامات من كتاب ابن شداد وفي القرن السابع عشر تقلص عدد حمامات حلب إلى /64/ حماماً حسب ما ذكره السفير الفرنسي شوفالين دارفيو الذي كان في حلب عام /1683/م وبعد انتشار نظام البناء الحديث وتوفر حمام حضاري في كل منزل بقيت الحمامات الشعبية على حالها ويوجد في حلب الآن /61/ حماماً منها /33/ حماماً جديداً إضافة إلى الحمامات الأثرية القديمة .
ولعبت الحمامات دوراً كبيراً في إطار الحياة الاجتماعية ودخلت في نسيج العادات والتقاليد والأمثال في مدينة حلب وثمة مثل حلبي شهير يقول (تبرك تجارة الشام وما تبرك ليلة الحمام) فقد كان يؤتى بالعريس صباح يوم العرس إلى الحمام للاغتسال وتسمى الصباحية وكانت النسوة يقمن ليلة الحنة فيه حيث يضعن الحناء وينقشن الكفوف بها وفي الحمام كانت تقام حفلات السمر والغناء.

ومن الأدوات المستخدمة في الحمام (البقجة والسطل واللكن والطاسة والصابون والليفة وكيس التفريك والحناء والدريرة والمئزر) وهو قطعة قماشية منسوجة يدوياً تستخدم لتغطية جسم المستحم ومآزر النساء تكون عادة مقصبة أما مآزر الرجال فعادية والتغسيل بالحمام يكون على شكل جلسات والجلسة تسمى زوم) .

إن أقدم حمام وأول حمام في حلب يرجع تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد وهو أكثر حمامات الدنيا استمراراً في الحياة لم يعش قبله ولن يعيش بعده حمام في مثل عمره من الطول، خمسة آلاف سنة عاشها هذا الحمام باستمرار يجري فيه الاستحمام يومياً دون انقطاع ويذكر المؤرخون أن ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قد استحم فيه وكان يغرف من جرنه ذلك الجرن الذي ضاع نتيجة إهمال مديرية آثار حلب في ذلك الوقت وهو مقدس على مر الزمان لدى جميع الطوائف من استحم فيه يبرأ على زعمهم والعاقر تحمل وكان هذا الحمام يقع أمام الباب الشمالي لخان الصابون ينزل إليه بدرج من مستوى الأرض وقد هدم الجزء الشمالي لخان الصابون مع السوق والأبنية المجاورة التي حافظ عليها أبو عبيدة بن الجراح فاتح حلب إذ فتحت فيها الجادة العريضة الحالية المؤدية إلى بناء قصر العدل ودار الحكومة، لقد كان اسم هذا الحمام (حمام الواساني) نسبة إلى الحسين بن الحسن بن واسان الشاعر الهجاء الظريف الحلبي الذي توفي سنة /394/ هـ أي قبل ألف سنة ولا يعرف لهذا الحمام اسم قبله ولما كان الحمام آخذاً من حياة الناس حجماً كبيراً فلقد بنيت على أوضاعه وآدابه حكم وأمثال وكنايات وقصص وأشعار ومقامات وقصص خيال الظل ذخر بها الأدب العربي الفصيح والأدب الشعبي .

ومن قصص خيال الظل (كراكوز وعيواظ) المشهورة في الأدب الشعبي القديم فصل من فصوله الثلاثين يسمى (فصل الحمام) استهدف فيه القصاص الوصول إلى مثل من باب الكناية لمن لم يكن يعهد فيه أمر من الأمور الصعبة فيأتيه على غير انتظار فيخفق فيه فيقال فيه (متى كان لكراكوز حمامين) وحمامين صيغة جمع في اللغة العامية .

وكانت الحمامات تبعاً للمجتمع الذي هي فيه وتبعاً للزمان والمكان مقبولة أو مكروهة فمن الناس من يمدحها ومنهم من يذمها وأسباب الذم ترجع إلى أسباب تاريخية اتصلت بحوادث حمامات الرومان أو حمامات القرون الوسطى الأوروبية الخليعة ولم يهتم الأدب الأوروبي بالحمامات اهتمام الأدب العربي بها لأن الحمامات في البلاد الإسلامية عامة مكاناً خاصاً بالنظافة ومنه قول الشاعر محاسن الشواء في رواد الحمام:
شدوا المآزر فوق كثبان النقا = بأنامل حلوا بها عقد التقى
وتجردوا فرأيت بان معاطف = نشروا ذوائبهم عليه فأورقا

ولقد وجد بعض المتعصبين في الماضي ممن يستهجنون ارتياد المرأة الحمام العام حتى أن شكوك هذا البعض أدت به إلى تصورات تتصل بخطورة ارتياد النساء الحمام العام بعد خروج الرجال منه وهذا ما دعا أبا العلاء المعري لأن يكون هذا الرأي المانع للنساء من ارتياد الحمام العام:
أعوذ بالله من ورهاء قائلة = للزوج إني إلى الحمام أحتاج
وهمها في أمور لو يطاوعها = كسرى عليها لهين الملك والتاج

إنها الدعاية السيئة التي كانت تصدر عن حمامات القرن الخامس عشر وما قبله ثم ما بعده حتى السابع عشر في أوروبا .

إن حمامات حلب كسائر الحمامات العربية والإسلامية كانت تلتزم في حدود الآداب العامة التي يمليها عليها الدين الإسلامي وبقية الأديان السماوية لذلك فهي تتصف بالصفات التالية :
1ـ لم تكن تستعمل لغير الاستحمام وخاصة الخلاعة والتهتك سواء في عهد الوثنية (حمام الواساني) وعهد المسيح (حمام موغان) وعهد الإسلام في سائر الحمامات ولا يضير في شيء لجوء بعض المستحمين أحياناً في مناسبات خاصة إلى الغناء والطرب وجلب المأكولات في شبه احتفال أو أخذ الحمام من بابها .
2ـ إن الحمامات الحلبية تشابه الرومانية من حيث تقسيمها إلى أقسام ثلاثة: البراني والوسطاني والجواني أو بيت النار ووجود المدلكين والمزينين والمغنين أحياناً أو المقرئين ومن حيث وضع الألبسة في المشلح في رفوف مكشوفة تتيح مراقبتها .
3ـ ليس في حمامات حلب عادة اختلاط الرجال بالنساء وإنما لكل جنس وقت وغالباً ما يكون وقت الرجال من المساء إلى طلوع الفجر .
4ـ يسمح في سائر الحمامات الحلبية بجلب أدوات الزينة الشخصية من الصابون والطيب والبيلون والحناء وجلب المأكولات والمآزر الخاصة كما يسمح بالغناء .
5ـ لا يقرأ القرآن في الوسطاني ولا في الجواني وإنما يسمح به بالبارد الذي هو البراني أو المشلح وهو مكان الراحة .
6ـ لا يسمح بوضع باب إلى الخلوة كما لا يسمح بالسباحة والتغسيل في مستودع الماء الذي يجري إلى الخلوات .

ومن الأدب الشعبي الحلبي ما تداعب به الأمهات أطفالهن بما يسمى بالعامية (هنهونات) هنهونة مشهورة تحدث بها المرأة طفلتها وكأنها تستعد معها للذهاب إلى حمام النساء أسوة بالصبايا وهو حمام السلطان تحت القلعة بحي الفرافرة عند باب الأربعين قديماً ذلك أن حمام السلطان كانت مخصصة للنساء فقط تقول المرأة :
(طنبر طنبر بالتركي، أحمد باشا ناطركي، شايل بقجة حمامك، حمامك تحت القلعه، وجوارك ستة سبعة، طاستك هالمجليه، بإيدين الحماميه، يا علي لا تتعوق جبلي سرير مذوق، جبلي غزاله سوده، جرياتا كبار كبار، ما بيوسعوا بباب الدار، هاتوا العده والمنشار، تاننشر جرياتا) .

ومن الأمثال الحلبية الخاصة بالحمام:
1ـ ضاعت الطاسه: ويضرب في حال الفوضى وفقدان الوسيلة .
2ـ طاسة ساخنة وطاسة باردة: ويقابله مثل ضربه على النعل وضربه على الحافر ويضرب لمن يلين أحياناً ويقسو أحياناً .
3ـ حمامي فتح وأقرع عبر: ويضرب في المتكسب لا يطول فيه الانتظار حتى يأتيه زبون آخر .
4ـ حمام مقطوعة ميتو: ويضرب في الضوضاء والفوضى وضياع النظام .
5ـ العروس من على جرن الحمام: يضرب في وجوب انتهاز الفرصة المناسبة في الزمن المناسب .
6ـ هون بتعرف القرعة من أم الشعر: ويضرب كناية عن معرفة الأمور على حقيقتها .
7ـ طعمي القيم وملوك الحمام: ويضرب تشجيعاً للرشوة .
8ـ الشكلة بعد الحمام: لا تعطى الأجرة إلا بعد حدوث المنفعة .
9ـ مصاري المجانين على مصاطب الحمامين: يضرب لمن يستهتر في حفظ نقوده .

وهكذا فإن أدب الحمام قد احتل مكانة في الأدب الشعبي والأدب الراقي في دنيا العرب فمن القصص إلى الشعر إلى المثال والكنايات إلى المقامات إلى قصص خيال الظل إلى التلفزيون مسلسل حمام الهنا .

وللحمامات في مدينة حلب لغة واصطلاحات وتعابير وتسميات للأدوات وتعابير للمجاملة في الدخول إلى الحمام وللخروج منها وللمعاملة مع الآخرين نستطيع أن نصنفها تحت عنوان آداب الحمام كأن يقال لك نعيماً فتجيب الله ينعم عليك ومنهم من يزيد يرحم والدنيا ووالديك أو يقال لك حمام الهنا فتجيب الله يهنيك ... وغيرها من تعابير المجاملة المستحسن استعمالها في الحمام إلا أنها ابتدأت تخف وتنتهي كانتهاء دور الحمام العام تقريباً في المجتمع‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى