آمنة عبدالعزيز - حمامـات بغــداد.. ذاكرة المكان الغائب

كان حمام (السوق) جزءا من الحياة البغدادية يأخذون اليه حكاياتهم وقصصا تدخل تحت تدفق المياه الساخنة لتخرج منتعشة بذاكرة المكان.

في الاحياء الشعبية القديمة من بغداد تتناثر حمامات (السوق) هنا وهناك لتكون جزءا من حياة الناس وطقوسهم الجميلة.

يقول الحاج عمران عبدالكريم البغدادي وهو احد المهتمين بالتراث القديم:
منذ عصور موغلة بالقدم تحدث المؤرخون عن حمامات السوق البغدادية، ففي الفترة العباسية ومنذ بناء بغداد وحماماتها زخرت بالحكايات وكانت الاحداث تمر على الحمامات وتخرج منها في ذلك الزمن، ومنذ اواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1916 وحتى الوقت الحالي مازال جزء كبير من حياة بغداد حافلا بالذكريات عنها، ويقول الحاج عمران: كان لأكثر البغداديين حمامهُ العام الذي يتردد عليه قبل ان تصبح من الماضي فحمامات الرجال وحمامات النساء لم تكن مجرد مكان للاستحمام فقط بل هي للتعارف والتصاهر.

لذا تذكر كتب التاريخ ان عشرة آلاف حمام كانت في بغداد في العصر العباسي الاول حتى راح القول بأن مساحة بغداد تكاد تكون كلها حمامات.

أشهر الحمامات

السيد ابو ارقم وهو احد اصحاب الحمامات القديمة يقول:
كان جانب الكرخ في العشرينيات فيه اشهر الحمامات مثل (حمام شامي) الذي يعود تاريخه الى القرن السادس عشر الميلادي ويقع في علاوي الشيخ صندل وهو دون مستوى الارض والنزول اليه يتم بسلم من ست درجات والحمام الثاني هو (حمام ايوب يتم) والثالث حمام (الجسر) ويقع في مدخل جسر المأمون من جهة الكرخ بجوار مشهد بنات الحسن اما في جهة الرصافة فهناك من الحمامات الكثير لكون الرصافة اكبر من الكرخ من ناحية عدد النفوس وعدد (المحلات الشعبية) بحيث تجد ما بين محلة واخرى حماما عاما، ومن اشهر هذه الحمامات حمام (حيدر) بقسميه الرجالي والنسائي ويقع بجوار ساحة الغريري وحمام (الشورجة) وحمام (بنجة علي) مقابل سوق الصفافير وحمام (كجو) في باب الآغا وحمام (الباشا) قرب سوق هرج وحمام (المالح) الذي سميت المحلة باسمه الا ان اشهر حمامات الرجال في بغداد كان حمام (يونس) في محلة الميدان قرب باب المعظم والذي يغتسل فيه ابناء (المحلات) المجاورة للميدان وبعض البغداديين الذين يقصدونه من اماكن اخرى، فضلا عن حمام (يونس) هناك حمام (القاضي) بجانب المحكمة الشرعية وهذا الحمام رواده من تجار بغداد، لذا تكون الخدمة فيه ممتازة ويكون فيه ايضا لكل تاجر وميسور حال (مدلكه) الخاص الذي يعرف كيف يتعامل مع زبونه (الميسور).

الحمامات الشعبية وتأثيرها في حياة الناس

للحمام شأنه ومكانته شأن المقهى البغدادي فقد كان مكانا اجتماعيا، هذا ما قاله احد المرتادين للحمامات السوق واضاف: الحمام كان يجمع ابناء (المحلات) الشعبية المتقاربة ويتبادلون الحكايات في الحمامات فمثلما كان المقهى مكانا للتسلية وقضاء وقت طيب وللتواصل الاجتماعي، كان الحمام العام يتميز ليس فقط بفائدة الاغتسال والنظافة انما كان (منتجعا) بسيطا للترفيه وللطبابة والتعارف والاسترخاء حتى الغناء واكتشاف المواهب الصوتية كان للحمام فضل فيها، لذا كان حمام (السوق) زاخرا باجواء مختلفة من الطرافة والفكاهة والمقالب، كأن يأخذ احدهم ملابس صديقه ويتركه في حيرة من أمره ويخرج بها ليتركه يتذمر ويتوعد وفي اليوم التالي يصنع هو بصاحبه بنفس المقلب. الحمامات اكثر من مكان للغسل وتنظيف الاجساد، بل هي مكان لتجديد الروح بالدعابة والحكايات المسلية.

الأعراس كانت تبدأ من الحمامات

وبالرغم من ان الحياة الحالية غيرت من تفاصيل كثيرة في ممارسة بعض العادات والتقاليد الا ان هناك من يبقى محافظا عليها ويمارسها حتى ولو في نطاق ضيق، هكذا تحدث صاحب حمام (الهناء) الشعبي ليقول: كانت الاعراس تبدأ من الحمامات حيث ياتي العريس وبصحبته مجموعة من اصدقائه المقربين وبعد ان يتم (غسله وتشجيعه) يخرجون به الى الزفة، وطبعا مع اغتسال الجميع على نفقة (المعرس).

ويضيف الحاج اياد عن مواصفات الحمام وكيف يكون متميزا قائلا:
مواصفات الحمام لاتقتصر على النظافة فقط لكن المعاملة الحسنة وتوفر المياه الساخنة في فصل الشتاء وتقديم بعض الخدمات من شاي ودارسين وحامض اضافة الى وجود اكثر من (مدلكجي) يعمل في الحمام وبشكل ماهر هذه كلها اسباب جذب الزبون واغلب الحمامات تتكون من ثلاثة اقسام هي (المنزع) او حوش الحمام الذي اول ما يدخل اليه الزبون، يجلس صاحب الحمام على لوح يقع في مدخله وحوله أشبه بالرفوف فيها المناشف والصابون والمستلزمات الاخرى للحمام فيما تحيط بالمكان (دكة) مفروشة بالحصران والبسط يجلس عليها الزبائن ويضع كل واحد منهم (بقجة) فيها اغراضه وملابسه، بعدها يدخل الى الحمام ويختار (دكة) يجلس عليها او يتمدد ليشرع (المدلك) بعمله.

حمام الملوك الذي تجاوز عمره السابعة بعد المائة

في منطقة الكاظمية ما زال حمام (الملوك) قائما ببنيانه التراثي والذي بقي محافظا عليه من زحف الابنية الحديثة، وهذا الحمام الذي كتب على مدخله شيد عام 1900م اي منذ مائة وسبع من السنين، وبجانبه حمام (الملوك) للنساء، والمتعارف على اغلب الحمامات ان يكون هناك حمام للنساء وآخر للرجال في ذات المحلة وغالبا ما يحملون اسما واحدا ويداران من قبل عائلة واحدة.

تقول السيدة ام امجد صاحبة حمام الملوك للنساء، تبقى المناطق الشعبية محافظة على حماماتها من الاندثار والنسيان وعلى الرغم من انخفاض عدد زبائننا بقينا مستمرين بالعمل في المحافظة على طقوس الحمامات الشعبية وابتكار الطرق لجذب الزبونة، وتضيف ام امجد قائلة: نستخدم مادة (الخل) الطبيعي في عملية التدليك ولمعالجة آلام المفاصل مع التعرض (للبخار) والتعرق. واعادة عملية التدليك وهو علاج قديم ونتائجه ايجابية.

وتتذكر ام امجد كيف كانت ايام هذا الحمام وعصره الذهبي قبل سنوات حيث الحركة تملأه ولا يكاد يكون هناك موطئ قدم من كثرة الزبائن.

وتعلل هذا الجفاء والعزوف عن ارتياد الحمامات لانشاء حمامات كبيرة وحديثة داخل البيوت بعد ان كانت تفتقر لها وفي المناطق الشعبية يجد الناس ضالتهم في ارتياد الحمام العام خصوصا ان اكثر من عائلة تسكن المنزل الواحد وتكون صعوبة الاستحمام بشكل مريح امرا مزعجا وعن التقاليد التي كانت تسود حمام السوق تحدثت ام حيدر وهي (المدلكجية) في هذا الحمام قائلة:
اجمل الافراح شهدها هذا الحمام ومنه صدحت (الهلاهل) والاغنيات عندما كانت تتم تهيئة (العروس) وكيف تمر بمراحل لتكون في ابهى صورة وفي النهاية تخرج عروسا حقا..

وتختتم ام حيدر قولها: في هذا المكان تمت المصاهرة والخطوبة لكثير من الفتيات ومنه خرجت القصص والحكايات الجميلة.

يبقى سؤال: لماذا افل نجم حماماتنا البغدادية؟ ولماذا لاتعود لايام عزها كغيرها من الحمامات في الدول الاخرى مثل الحمامات السورية والتركية التي يعتبرونها جزءا مهما في جذب السياح والتعريف بالارث الشعبي القديم، ام ان كل شيء قديم في حياتنا تطويه الذاكرة من دون العودة اليه..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى