أدب مغربي قديم في الأدب المغربي القديم : دعوة الحق - ابن الخطيب السلماني في حياته سياسيا وأدبيا

من سنن الطبيعة و مالوف التاريخ ان نرى بين الفترة والاخرى تايها رجالا وابطالا ينشئون في كل صقع من اصقاع البلاد تكون اشد ما تكون حاجة الى وجودهم بين ظهرانيها لصيانة مجدها، وحفظ سيادتها و الذوذ عن كرامتها، حيث تسعد الامة بمواهبهم، و تصول الدولة في نفس الوقت بتجاربهم، و ما توفروا عليه من معارف في شتى المناحي العلمية و الثقافية و السياسية، حتى اذا خالطوا ميدانها كانوا في مقدمة الميدرين للدوالب، المسيرين لمصالح بلباقة و حكمة يذللون لاصعاب و يحلون المشاكل، فتسير الدولة على ضوء ما يخطونه لها من برامج و قوانين تكون بالطبع هدفا اسمى لحكومتها الصالحة التي تعنى بالخلق والانشاء و النهوض بشعوبها ماديا و معنويا، اذ على كواهلهم يبنى صرح المستقبل و على سواعدهم يرفع المستوى و تعتز البلاد و تسير الشؤون في انسجام يحدوها مقياس التنافس المتركز في نفوس الشعوب و الامم التي لا نجدها تقتنع بالنزر من المعرف و الثقافات، لا تخطو خطوات واسعة المدى، غير واقفة عند حد يرجعها عن طموحها البعيد نحو السعادة، و ذلك ما يجعلها تضرب باسهام وافرة في شتى الفنون و المعارف، ضاربة ارقاما قياسية في مسرح الحياة التي لا بدع ان يكون ما تقدم كمقدمات لمشاهدة هذه الادوار الملموسة.
فاذا ما تلمسنا حركات الاسلام الاولى و العجلات التي على سرعتها سار نجد في سائر الدول انها على صفوة من ابنائها تركزت و بمشعلها استنارت و اهتدت.
فهذه الدولة الادريسية الفاتحة نعلم تاريخيا ان لراشد مولى ادريس الاكبر اليد الطولى في رفع منارها الجديد على ربوع القطر المغربي الجميل، بما توفر عليه من حنكة و حكمة كان "ابن الرسول" يعتمدها في كل حركاته البنائية سياسيا و اجتماعيا في الوسط المغربي الفتي حتى تكونت الدولة و استقر الاسلام بوجودها في هذه الديار استقرارها النهائي.
و هذه دولة لمتونة القوية التي كان يمثل دور بطولتها في العدوتين – المغرب والاندلس – اسد الاطلس و مغواره يوسف بن تاشفين، اذا درسناها نجد هذا الاسد رغم صرامته و بداوته التي قد لا تخلو من جفوة بنفعل في اطمئنان الى الكاتب القدير ابي بكر بن القصيرة في تسيير ديوانه و القيام بادارة الشؤون داخلا و خارجا.
اما في الدولة السلفية الموحدية فقد استع البساط، و امتد صدر البلاط، و كثر الكتاب و الادباء من ابناء العدوتين ما شئت من وزراء و كتاب و فلاسفة شاركوا في دعم صرح الدولة و بناء حضارتها على اساس متين يضمن للشعب التقدم و لارفاهية كابن عطية المراكشي ايام عبد المومن ابن علي الذي كتب قبل لعلي و ابنه تاشفين في دولة المرابطين و ابي الفضل بن محشرة و ابي عبد الله ابن عياش في دولة يعقوب بن يوسف و اما في دولة بني مرين دولة الفن و الرقة التي عد عصرها ازهى العصور المغرب فكان رئيس قلم الكتاب فيها عند ابي الحسن – الكاتب ابو لاقاسم بن رضوان في بيت الادب الذي اضاف الى سعته الادبية خبرته الواسعة بالسياسة و اساليبها حتى وضع في ذلك مؤلفا احتوى اربعين بابا جمع فيه محاسن ابي سعيد و محاسن ولده و ما كان لهما في ادارة الدولة من ايادي سابغة و تقدم حميد.
و اذ نجد ضالتنا المنشودة تعيش في هذا العصر الزاهي و تلعب دورها الهام في الدولتين المغربية و الاندلسية يجدر بنا ان نتحدث عن هذه الشخصية الفذة شخصية محمد بن عبد الله اللوشي الغرناطي لاشهير بلسان الدين بن الخطيب.
لسان الدين هو الوزير المؤرخ ولد بغرناطة و نسا في بيت نابه نبيل.
واستوزره سلطانها او الحجاج يوسف سنة 733 هـ ثم ابنه السلطان محمد بن يوسف.
و اذا كان في اذكياء الشعوب من لا يعدمون منافسين بل و حساد يرغبون في الانتقام من عبقريتهم التي نالوها عن اجتهاد و استعداد خولهم التبريز على المعاصرين و الاقران على الاخص نرى هذا المعنى يتجلى باجلى مظهر في تلكم الشخصية اللامعة شخصية ابن الخطيب السلماني احد الافذاذ العالميين " في القرن الثامن الهجري – الرابع عشر الميلادي" الذي عاش في محيطه المنزلي و الاجتماعي منذ تنسم الحياة الاولى بين احضان و كثرة رجالها، و سهولة التحصيل، مما كان له اكبر عون على بلوغ تلك المنزلة لاسامية التي نالها بعد، حتى ضرب الرقم لاقياسي في العبقرية و لاسمو، لاسيما عندما امتزج بالدولة، و خاض ميدان السياسة مبرهنا فيها على علو كعب، وطول باع في الادارة والتسيير
من ايات هذه العبقرية الغريبة انه عنذما بعثه لاسلطان محمد بن يوسف بن الاحمر سفيرا الى سلطان المغرب ابي عنان المريني مستمدا منه الاعانة على عدوه الطاغية الاسباني على عادة سلفه في ذلك و كان ذلك في وفد من وزراء الاندلس و عليه رجاهلا، فعندما مثل بين يدي السلطان، استاذئنه في انشاد شيء من لاشعر "الذي مان بريد الحاجات و معبد السبل" فاذن له و انشد و هو قائم:
خليفة الله ساعد القدر علاك ما لاح في الدجا قمر
ودافعت عنك كف قدرته ما ليس يستطيع دفعه لابشر

فاهتز السلطان ابو عنان بهذه القطعة واذن له بالجلوس، و قال له قبل ان يجلس ما ترجع اليهم الا بجميع طلباتهم، ثم ادى لارسالة ودفع الكتاب.
وعندما عزم الوفد الاندلسي على الانصراف الى العدوة اثقل ملك المغرب كاهلهم بالاحسان وردهم بجميع ما طلبوا، هنال قال فيلسوف التاريخ عبد الرحمن لبن خلدون: قال شيخنا القاضي ابو القاسم الشريف و كان معه في ذلك الوفد – لم نسمع بسفير قضى سفارته قلب ان يسلم على السلطان الا ابن الخطيب.
و من وراء هذه النقابة الغالية، و الماثرة الخادلة و كل ما يمت اليهما بسبب شريف يسمو بمعنوية الرجال و مواهبهم في الاقدار و لاقيم نرى معاصرين ينفسون عليه هذه المكارم بل يغالطون في اعتقاد انه غير اهل لها او رغم اهليته لا يستطيعون رؤية لارجل ينعم في محيط الشفوف و الكرامة، ويعلو في سماء الدولة قمرا مشرق الجوانب تشع انواره على ضفاف البحرين.
ذلك الحاجز الشنيع و المحرك القوي ما دفع بالحساد و مرضى النفوس لاثارتها حربا شعواء فنسبوه الى سلوك مذهب لافلاسفة و ارائهم التي قد تخرج احيانا عن جادة الشريعة فتنول باصحابها الى الهاوية مغتنمين فرصة هذا الظرف الضيق المشعر بالطيش و الالحاد و الزندقة، و كتعلقين بحشايا كلم وجدت في كتبه، ورغم وقوفه موقف المدافع عن مبدئه و كرامته وضوح براءته في النهاية – اخذ و زج به في قعر احد سجون فاس و كان داخل هذا الامتحان يتوقع مصيبة الموت فتجيش هواتفه بشعر يبكي نفسه و مما قال في ذلك:

بعدنا و ان جاورتنا البيــوت و جئنا بوعظ و نحن صمـوت
و انفاسنا سكنة دفعـة كجهر الصلاة تلاه القنــوت
و كنا عظاما فصرنا عظامـا و كنا نقـوت فها نحن قوت
و كنا شمـوس سماء العلا غربنا فناحت علينا السمــوت
فكم جدلت ذا الجسام الظبى و ذو البخت كم خذلته البخـوت
و كم سيق للقبر في خرقة فتى ملئت من كساه التخــوت
فقل للعداهب ابن الخطيب و فات و من ذا الذي لا يفــوت
ومن كان يفرح منهم له فقد يفرح اليوم من لا يمـــــــوت

ذلك بعدما اشتورو في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه "وراها مدسوسة" فافتى بعض الفقهاء فيه و دس سليمان بن داود لعض الاوغاد من حتشيته بقتله، فطرقو السجن ليلا و معهم زعانفة جاءو في لفيف الخدم من سفراء السلطان ابن الاحمر و قتلوه خنقا في محبسه و اخرج شلوه من الغد فدفن بمقبرة باب المحروق من فاس، ثم اصبح من الغد على شافة قبره طريحا، و قد جمعت له اعواد و اضرمت عليه نارا، فاحترق شعره، و اسودت بشرته، فاعيد الى حفرته، و كان في ذلك انتهاء محنته، وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان، فكانت من هناته و مساوئه، وعظم النكير فيها عليه و على قومه و اهل دولته.
و كل هذه الماجريات النكراء توقعها المترجم شان المفكرين ان يروا بعين الحقيقة و المستقبل مصيرهم في الحياة من وراء سجف الغيب حتى قال شاعرهم:

يمثل ذو اللب في عقله مصائب من قبل ان تنزلا
و ان هي قد نزلت لم ترع ـه لما كان من قبل قد مثلا
و بهذه الفعلة الشنعاء حمل لقب ذي الميتتين، كما كان يحمل لقب ذي العمرين لتدبير المملكة في نهاره و اشتغاله بالتصنيف في ليله.
و ان دل على شيء فانما يدل بوضوح على ان الرجل كانت له يد في الفلسفة و علومها، و ذلك ما كان سندا يساعده على تسيير وظيفه الخطير في المملكة و رغم اشتغاله بالسياسة لم يكن ذلك يحجبه عن القيام برسالته الثقافية العامة فيكتب و يؤلف، و يخدم المعرفة خدمته نفسه او اكثر، اذ كان ليله نهارا لا ريب فيه يستجمع فيه فكره، و يندفع لاستيحاء يراعيه السيال، فيكتب من ابواب العلم و فصول الثقافة ما حفظه التاريخ، و خلده الدهر بمداد الفخار و الاكبار، من ذلك كتابه "الاحاطة في اخبار غرناطة" في المخطوكات النادرية التي تتشوف اليها معلمة المغرب المبعثرة هنا و هناك و قد اختصره ابو جعفر البقني في ستة اجزاء، و من هذا الاختصار طبع جزء الاحاطة " و قد ذكره صاحب الذيل" و كانت هذه النسخة تامة بخزانة احمد الذهبي، ثم في خزانة ولده زيدان كتب عليها "ملك عبد الله زيدان و غبر عليها بالتبر" و الخزانة هذه القت بها الاقدار الى الديار الاسبانية فان القنصل الفرنسي – كاستيلا – عدر و هربها الى فرنسا، بيد انها في اثناء الطريق جرت عليها قرصان الاسبان و اخذوها الى "الاسكوريال" كما نبه على ذلك المؤرخ دوكاستر في كتابه اصول التاريخ.
اما المترجم فقد اداه بحثه للعثور بفاس على تاريخ لغرناطة في ستة مجلدات كتبه المؤرخ محمد ابن محمد بن جزي رئيس قلم الكتاب بديوان "ابي عنان" يسمى "السر المذاع في تفضيل غرناطة على سائر البقاع" قال ابن الخطيب و قد اطلعت على اجزاء منه كما في الاحاطة ص 187 نبه على ذلك خير الدين الزركلي في قاموس الاعلام لدى ترجمة ابن جزي، و لا بدع ان يكون الكتاب في مقدمة المصادر التي اعتمدها المترجم في كتابه الاحاطة، و استاق منه ما كان حلية لكتابه.
و من اثار ابن الخطيب الخالدة كتابه "معيار الاختيار في ذكر المعاهد و الديار" كتيب قيم برهن فيه عن علم واسع اكتسبه من جولاته الاستطلاعية و تعمقه لادقيق في معرفة احوال و عادات المدن و القرى التي زارها، و قد افرغ ذلك في قالبه الادبي الشيق الذي قد لا يعرى في مجموعه عن الاصابة وان كنا نرى في بعضه مبالغات تخرج به احيانا عن الحقيقة التي يتوخاها المؤرخ الامين و تسعى لتخليدها كصحيفة بيضاء نقية تراها الاجيال القابلة حقيقة ناصعة تطمئن اليها النفس و ترفع كل هوس يمكن ان يعلق باذهان الذين خلقوا للعيش في المغمرات و الاعراض.
و منها "مفاضلة بين مالقة و سلا" كتاب طاشت بين سطوره و فصوله سلا الشقيقة اذ كان منه ذلك كملحق لما سجله في المعاهد، و الذي يبدو من وراء هذا الاندفاع ان الرجل كانت له مع بعض علماء سلا و عدولها حزازات و منافرات نشات داخل مدة السنتين اللتين قطعهما بهذه المدينة العتيقة شيء حفزه لوضع كتاب "الحديقة في ذم الوثيقة" الذي كان الهدف الاول منه ابن القبابا، كما تحدث عن ذلم المقرىء في الجزء الثالث من النفح، و قد تصدى المؤرخ المرحوم محمد بن علي السلاوي لوضع مفاضلة بين المدينتين كمعارضة لمفاضلة ابن الخطيب انما امثال هذه البحوث العلمية لا تكاد تخلو من قيمة تاريخية و اجتماعية لا سيما اذا حذت بحذوها حذو الحقيقة النزيهة و خلت ابوابها من مس البراء و النيل من كرامتهم.
على اننا من الناحية العمرانية نؤمن ان في كل مدينة او قرية ما تاخذ و ما تذر سواء في العادات و الاخلاق و المبادىء سنة الله في خلقه.
فاذا فكر الانسان في هذه الحقيقة و خبر البلاد، و درس نفسيات لاسكان، و الم بها من شتى النواحي هان عليه كل ما يحاول ان يداخل فكره و يخالج نفسه من وساوس يمكنها التاثير على نظراته نحو اخوانه و ابناء جنسه في مختلف الجهات والاطراف، لذا خير له ان ينظر الى الاشياء بعيم ملؤها الحقيقة بعيدا عن تصديق العوارض و التاثر بالمحيطات الهادفة ليستطيع النجاة من الوقوع في اشواك قد لا تخطئه لسعاتها السامة فيردى صريع القول و اللسان.
و طبعي ان الكتاب المترجم معيار الاختيار، و مفاضلة مالقة وسلا، قد اثارا في نفوس الافراد و جماعات بل و سكان مدن عامة ضغائن و احقادا كامنة كانوا في منجى من اثارتها مسلسلة في اجيال و احقاب استمرت شرارتها تتطاير من حين لاخر فتكتوي بها صداقات و اخوانيات "سامحك الله يا ابن الخطيب" فعلى الانسان ان لا يندفع مع كل ريح، و يتاثر بصيحات كل صائح، بل و عليه ان يزن الاقوال بميزان الفكر، ثم ياخذوا او يذر ممعنا النظر في الاسباب و المسببات لكي يقع على الابريز من خالص الاقوال و مفيدها غير مائل الى التقليد الذي يعمي و يصم
"في كل لمرك تقليد رضيت ب حتى مقالك ربي واحد احد

و لا يكاد يفتح بين يدي الانسان افاق التفكير الصحيح للظفر بالحقيقة المتوخاة.
على اننا اليوم و الحمد لله اصبحنا ندرك من وراء هذه الاساطير ساعين في اجتثاث جذورها من نفوس الاخوان ابتغاء محو خيالاتها من اذهان الجيل الناشىء حتى لا يعود يفكر في شيء يتصادم و الاخلاق الفاضلة و الانسانية الحق، بل ينشا مطبوعا على لاصفاء و التسامح، ضمن واجب الاخوة العربية الاسلامية.
و هذا الكتاب "رقم الحلل في نظم الدول" الذي هو عبارة عن نظم حلو سلس التعبير سهل التناول برهن فيه عن اطلاع واسع و دراسة دقيقة في التاريخ العام، و عرض ماجرياته عرضا تعلوه مسحة الربط والاستنتاج، و الغوص في اعماق الحوادث، و استكناه طوايا الملحمات و الوقائع، و ما تخلفه مشاكلها من ويلات في الانفس والبقاع.
مطلع النظم:
الحمد لله الذي لا ينكر من سرحت في الكائنات فكره

حتى قال في ذكر الرسول الاعظم:
لما اقام الله رسم الحق بالحاشر العاقب هادي الخلق
لاح الهدى و انقشع المحذور و عم افاق البلاد النور

و منها في دولة لمتونة:
و اطلعت بمغرب لمتونة دولتهم عزيزة ميمونة

بعد ان يذكر عظماء الملوك و اكبر الخلفاء يتبع ذلك بشرح لابياته يزيل عنها ما يمكن ان يعلق بها من غموض على ان لا غموض، و نرى ابن الخطيب في نظمه هذا ينحو نحو رجز الاديب ابي طالب عبد الجبار من اهل جزيرة شقر كان يعرف بالمتنبي لاتساعه في اجادة المنظوم و المنثور كذلك مع غرازة اطلاع في العلوم و لافنون و ها فاتح ارجوزته:

يقول مهدي الورى المنتظر ها فاسمعوا ما قلته و اعتبروا
ابدا باسم الله بالترجيز رب الانام الملك العزيز
و هو نظم جامع غريب احتوى بحوثا في العلم و لافكر و النظر في الملكوت تخلص راقمه لذكر اةليات التاريخ في ايجاز كمقدمة لبسط احوال الامم و الدول الى عصره – القرن السادس – و ابن الخطيب على هذا السنن سار، و من هذا المعين كرع – بل رايناه سطا على بعض الاشطار بل و الابيات كاملة فوضعها في ثنايا رجزه كادخاله شطرا من ارجوزة ابي طالب في عرض حياة الفاروق قال: "ثم اتته محنة الشهادة كما ذلك نفسه في عرض حياة عثمان قال:
"و كان للاله ذا مخافة" و يوجد هذا النوع رجز ابن الخطيب ما تذهب النفس فيه كل مذهب، بيد اننا لا ندري اذلك من باب حشر قرائح الافكار و جهود المنتجين من الادباء؟ ام هو من باب توارد الخواطر، ووقع الحافز على الحافز، وهذا ما تميل النفس اليه لمانلمسه في مقدرته من تمكن و تفتح يربئان باجادته عن السطو على انتاج الكتاب و لاشعراء ورغم كل ما يريد ان يتسرب الى الخيال ويهيم بالافكار في انتقاص الجهود.
فنظم الحلل يعد ذخيرة تاريخية اسداها المترجم للاجيال بعده، و غذاها ببيان المجمل، وحل المشكل مما يمكن تعقده داخل ارتجازه.
فهو بدون شك كتاب جدير بالعناية خصوصا من شبابنا المتنور الذي يفتح امامه افاقا واسعة في ميدان معرفة الاجيال الماضية، و التعرف على احوال الامم و الدول بعبارات سلسة واضحة تبعث القارىء على لاشوق و تنهض بهمم الشباب المتوثب الى الاستطلاع على دفائن الحوادث التي كم ينزوي بين سطورها من ماجريات هي اجدى في حقل العبر، و افيد للطالب في الهداية والتثقيف، فتعبد بين يديه المسالك، وتحل عقدا طالما اعترضت طريقه كعقبات كاداء تصرفه عن تكميل نفسه، ورفع مستواه العلمي باشباع رغباته الفنية و توسيع افاقه العلمية، و الوصول به فورا نحو مطامحه الغالية التي تعد في مقدمة اللبنات الاساسية لبناء صرح مستقبل المغرب الحر، فبتكريس الجهود و الاعتناء بامثال هذه الارجوزات العامرة يجد الشباب المتعطش مسلكا للتشجيع يساعده على اقتناء النافع في اطار حلو جذاب تستغيه النفس، ويهواه الولوع و تتفتح له القريحة.
و من مؤلفاته الغريبة كتابه "نفاضة الجراب في علالة الاغتراب" في اربع اسفار ضمت رواية واسعة، و تراجم كثير من كبار من اجاز له، فكان الكتاب من هذه الناحية كالفهرست، قد اخذ بعضه بالتصوير الفتوغرافي عن اصل اندلسي يوجد في مكتبه الاسكوريال باسبانيا، و قد نقل عنه ابن غازي كثيرا من تراجم المكناسيين في كتابه "الروض الهتون" فقد تحدث الفهرست عن عدة رجال من ذوي المعرفة و الجاه وبث في نفس الوقت روحا ادبيا في كل الجهات المغربية التي زارها، حيث لا تجده يتورع عن مدح قائد او شيخ او ذي اريحية، و لو لم يكن في عير الادب و لا نفيره فكان لحلته اثر طيب في نفوس المغاربة حتى و لو الذين لم يتذوقوا الادب و الفن.
و في هذه الزيارة و قف باغمات على قبر المعتمد ابي القاسم محمد بن عباد امير حمص "اشبيلية" و قرطبة والجزيرة و ما الى ذلكالصقع الغربي، و الى جانبه قبر الحرة حظيته و سكن نفسه "اعتماد" اشراكا لاسمها في حروف لقبه المنسوبة الى رميك مولاها.
قال: فترحمنا عليه و انشدته:
قد زرت قبرك عن طوع باغمات رايت ذلك من اولى المهمات
و انت من لو تخطى الدهر مصرعه الى حياتي اجادت فيه ابيات
ازاء قبرك في هضب يميزه فتنتحيه خفيات التحيات
كرمت حيا و ميتا واشتعرت فانت سلطان احياء و اموات
علمارىء مثلك في ماض ومعتقدي ان لا يرى الدهر في حال و لا ات

و هكذا نراه عرج في رحلته الادبية على اضرجى رجال من امثال ابن عباد الملك لاشاعر الذي خبا له الدهر الخئون تلك الماساة المؤلمة و على الولي الصالح ابي عبد الله الهزميري ثم عند عودته الى سلا انشا يقول:
كان بتامسنا نجوس خلالها و ممدوها في سيرنا ليس يقصر
مراكب في البحر المحيط تخبطت فلا جهة تدري و لا البر يبصر
وذو الوزارتين كان في جملة طائفة من علية وجوه الدولة المرينية و علمائها الذين شيعوا جنازة شمس الصحى من فاس الى شالة في حفل حفيل، منهم ابن خلدون، و ابن مرزوق، و ابن بطوطة، و لاشريف الوصلي الذي قال ابن بطوطة في رحلته عند ذكر لاقضية و قد تلاقيت مع ابيه بالموصل.
و قد سجلت اسماء هؤلاء الاعلام برخامة قبرها بشالة.
و النفاضة المتحدث عنها تكاد تكون لندرتها من مفقودي الموسوعة المغربية و انما توجد منها نتف في بعض الخزائن و يوجد بخزانة الكتب نحو الكراس و نصف من الكزء لاثاني احتوى فصولا تحدث فيها عن جبل "هنتاتة" و مدينة اغمات وريكة ثم ذكر العودة الى مدينى سلا، و الكل بقلمه لارفيع و انشاه البديع المرصع بقصائده و مقطعاته الرائعة المتمكنة.
و النفاضة كذلك تعد في مقدمة المصادر الاولى للمقري في كتابه "النفح" و هي لو ساقها القدر، وساعد البحث الدقيق على وجودها لكانت زينة المعلمة المغربية، وحلية ثمينة بين مجلداتها تاريخيا و ادبيا و اجتماعيا و قد اشار في النفاضة الى انه قد تلمذ على عدة شيوخ منهم ابو العباس احمد بن عاشر، و كان حريصا على لقائه بسلا ايام كان بها و قد لقيه، و لم يتمل منه لشدة نفوره من الناس خصوصا اصحاب لارياسة و لذا قال: يسر الله لقاءه على تعسره.
و من اثار ابن الخطيب الادبية متابه "السحر و الشعر" الذي وضعه لابنه عبد الله، فكان كتابا حافلا بمنتخبات الادب و عيونه حيث نجده ينشر بين يدي ابنه جتى الاشعار المجونية التي قد تخرج في ادبها المكشوف عن الجادة في نظر الواقفين فيه على الحدود الضيقة التي لا تذرهم يتفتحون و يمرحون في مشارحه لافسيحة الباعثة على الشم دون الفرك، و لاضم دون لاترك، مع الايمان ان واجب الادب وشرعته لا يمانعان من خوض غمار الادب بكل ما يحمل من مغزى، و يهدف اليه من انطلاق و انبساط في شتى المناحي والوان المتع اذ على ضوء هذا التفتيح الطبيق، تتكون لارجولة الكاملة في النشىء النابت، و تسري روح الشجاعة الادبية في شرايينه الغضة و نبته لارطب، فينشا شابا يقظا له شعوره الحساس في كل ما ياخذ و يذر في حقل الحياة.
و لا عجب في هذا ان هي سوى عادات من عادات رجال العلم و الادب مع ابنائهم و فلدات كبدهم يفتحون امامهم افاقا بعيدة يشرفون من سمائها على الحياة بكل ما تحماه كلمتها من مدلول علوا و انحدارا حرصا منهم على توسيع مدارك الابناء بمعرفة كل ما من شانه ان يعرف من غث و سمين كان ذلك بالنسبة للاول من باب ما لمح اليه ابو فراس الحمداني بقوله:
عرفت الشر لا للشر لكن توقيه و من لا يعرف الشر من الناس يقع فيه

و مما يبعث على الغرابة ان يؤثر عن ابن الخطيب بعد لاثناء العاطر على غرناطة و تخصيصها بالتاليف ذات المجلدات نراه يعود عليها بالكرة، فيرشقها بسهام النيل و الذم في قصيدة تحمل 28 بيتا حسبما تلقاه الكاتب عن بعض المؤرخين المعاصرين رحمة الله عليه و الى حد التاريخ لا يزال الجراري يتابع البحث عساه يعثر على الابيات ليتبين كنهها، و يمكنه في نفس الظرف ان يلتمس من بين اسلوبها هذه النسبة التي قد لا تصدقها نفسه و تبررها و طنيته و يسمح بانسجامها و رقم اشطارها اخلاصه للبلاد التي غداه هواؤها، و اظلته سماؤها، و في ذات اللحظة تنقشع تلك لاسحب لا محالة و يستقر الراي هادئا ازاء ثبات مترجمنا ابن الخطيب على المبدا.
و رغبتي الاكيدة من اخواني الادباء و المؤرخين ان يتفضلوا علي بهذه القصيدة اذا ما قدر لهم العثور عليها.
على ان الانسان قد يسود الجو احيانا بين عينيه و يضيق به المحيط و التراب لاسباب قد لا يخلو ابناء الانسان من عروضها فينساب بدافع تلك النوبة على غير هدى النيل من البلاد و مسقط الراس ثم لا يلبث يعود اليه رشده.
لا عجب ان يكون المترجم من رجالات هذا النوع.
و الكتب عن ابن الخطيب لا تفي به هذه العجالة.



* دعوة الحق العددان 88 و89

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى