عبد الكريم العامري - Darkroom مسرحية

مقدمة:

في زمن ما.. وفي مكان ما من هذا العالم القميء.. كان هناك مصور جوال.. يدور كالناعور في الطرقات باحثا عن خبز حلال..

في زمن ما.. وفي مكان ما من هذا العالم الردئ.. كانت هناك ذئاب تترصد الحركات.. وثمة مرايا تعيد الصور آلاف المرات.

لم ينج المصور من فكوك الذئاب.. لكنه وثق آخر فك يقضم منه قوت عياله!

الشخوص:

- المصور

- الزوجة

- صاحب الفندق

المكان:

غرفة في فندق قديم، شبه معتمة استخدمت كغرفة تحميض الأفلام الفوتوغرافية ومنام، سرير كل ما عليه مبعثر.. جهاز لتحميض الأفلام في الجانب (لارجر) وأحواض بلاستيكية واشرطة لأفلام متدلية من خيط يمتد بين جدارين.. صور مختلفة لصقت على الجدران لمبان مهدمة ووجوه لشيوخ وأخرى لأطفال يضحكون أمام الكاميرا.

المصور: (يخرج ورقة تصوير من الحوض البلاستيكي ويحاول أن يجففها مما بقي فيها من محلول التظهير.. يحدق بالصورة قليلا) هو ذا آخر وجه يخرج من هذا الحوض اشعر بالغثيان وأنا التقط الخوفَ من بعض وجوه الأطفالْ الملل يهصرني ، ويدايَ المرتجفتان أكلهما المحلول ... يا لكَ من محلول ! لم يبقَ وجه لم يَغتسل فيك.. (يبتسم)..

صوت الزوجة من خلف ستار الظلمة: ارتدي قفازا كي لا يصهر هذا المحلول يديك

المصور)ملتفتا حيث الظلمة وصورة الزوجة المعلقة على الجدار) لا يصلح أبدا فهو يعيق يدي وأنا أشعر إن الصورة لا تظهر إلا بمداعبة منيْ ! )ضاحكا) مثلك بالضبط!

الزوجة (تخرج من ستار الظلمة) (بغنج): أرجعنا للسخف؟!

المصور: (مقتربا منها وملاطفا) هل يشعر هذا الجسد بيدي وهما في القفازين..؟

الزوجة: (ضاحكة) أصبر يا أخ ... أصبر !!

(بميوعة) فأنا مازلت مريضة

المصور: (مصرا) ما عدت كذلك، أنت الآن بأحسن حال

الزوجة: (بأسى) لولاك لمت

المصور (ملاطفا) لو طلبَ مني القلب لأعطيتك إياه !

وأنا فرح إذ جزء مني صارَ معك...

((يقترب منها أكثر حتى يكاد أن يلتصق بها))

آه لو يقدر أهل الطب أن يجعلوا هذين الجسدين جسدا واحد.

الزوجة: (متظاهرة بالغباء وهي تبتعد) لم افهمْ ...!

المصور: (يغمض عينيه) لا بأس ... دعيني أحلم

الزوجة: أحلامك زادت ، إلا يكفيكَ بأني معك .. ؟

المصور: (يجلس على كرسي) أخشى أن أفقدك

الزوجة (تقف قبالته) أتشك بي ؟

المصور: أحساس يشعرني إن الدنيا ستضيق، سأفقد أشيائي..

الزوجة (غاضبة) ألانك أعطيتني كليتك ؟!

المصور (ينهض ويقترب منها) أعطيك روحي لو .... (مترددا) لو عاهدتيني بأنك تبقين معي وتهديني طفلا يشبهني... ولد .. واسميه وحيدا .. فأبوه قد عاشَ وحيدا..

الزوجة: نحن معا .. وسنبقى معا .. ومادمت معك لا يمكن إن تشعرَ بالوحدة ..

المصور: لا ادري شئ ما يقلقني،أتمنى إن لا أغمضَ عيني فأفقدك ! (يغمض عينيه)

الزوجة)تتجه حيث المكان المعتم حتى تختفي في الظلام) لو عافكَ كل الكون فأنا لا يمكن إن أفعل!

(أصوات طرقات على الباب)

المصور (يبحث في العتمة عن زوجته) أتراها ذهبت ..؟ )بعد إن يتأكد) ها قد عافتني ثانية؟ (صوت طرقات على الباب)

من ذا يأتيني في هذا الوقت..؟

(صوت صاحب الفندق من الخارج) أفتح يا هذا .. أفتح..

المصور: (مقتربا من الباب) ها قد جاء عزرائيل ... في هذا الوقت المتأخر لا مهربَ منه !

(يفتح الباب ويدخل صاحب الفندق)

صاحب الفندق: أكنت تهذي مع نفسك ، هذا أول باب لجنونك، ظننتك مت..

المصور: هل يشعرك موتي بالراحة ..؟

صاحب الفندق (غاضبا) أسمع يا هذا.. إن كنتَ تظن أنك بالموت ستهرب عن دفع ديونك فأنكَ غلطان..؟ هو ذا الشهر الرابع قد مر .. أما آنَ لك أن تدفعَ إيجارَ الغرفة؟

المصور (يتوسل) أمنحني يوما آخر..

صاحب الفندق: (بهستريا) يوم آخر ؟! كم يوم مر وأنت تنامَ هنا كأنك في ملك أبيك..؟ أتعرف انك تذبحني، تستنزف مني الأيامَ.. وجهك يتراءى كالحا كلما هممت بفتح خزانة نقودي..

المصور: أصبر يا عم.. أصبر.

صاحب الفندق )بصوت عال) صبرت كثيرا ! من يدفع عني قائمةَ الماء وقوائمَ أخرى؟

المصور (متلعثما) لم أنكرْ أنك تطلبني .. سيفتحها الله وتأخذ ما تطلب..

صاحب الفندق: يفتحها الله ؟!(ساخرا) هل ينزل لك صكا من سماوات الله ؟ (يضع أصابعه قرب عينيه) سيفتحها في وجهك وأنت هنا تحبس نفسك كالخائف من شئ ما وتهذي كالمجنون!

المصور: أتشك بأني لم أدفع؟

صاحب الفندق: متى ؟ متى تدفع ؟ الشهر يروح ويأتي الآخر وأنتَ تطمئنني أن الله سيفتحها بوجهك أشك بأن الله يعرفكَ

المصور (بعد إن نفد صبره) وهل يعرفك أنت؟ تملك أملاكَ سليمان وتأتيني بخبر لا يرحم؟

صاحب الفندق: أتحسدني ؟ أتحسد أملاكا أطفأت عليها شمعةَ شبابي جمعتها فلسا .. فلسا ..؟! لاحق لأحد فيما أملك..

المصور (بلامبالاة) أتعيد إليك شبابك تلك الأملاك؟

صاحب الفندق: أعطتني الجاه !

المصور: والأولاد ؟

صاحب الفندق: (مصدوما) ما نفع الأولاد بلا مال .. )بهمس) ألم تخبرني بأن لك امرأة وولدا من قبل..؟ أينهما الآن .. ؟ ها.... ؟ أبعتهما في سوق الخردة؟

المصور (غاضبا) صه يا جربوع..

صاحب الفندق (بعد ان اشفى غليله) أنا جربوع ؟ ليتك تأكل ما يأكله الجربوعَ! جربوع أنا .. أنا جربوع ؟ لأني أبصرك بالحق صرت جربوعا..؟ (ناصحا) أسمع يا فنان .. لو بعتَ تصاويرك تلك وعشتَ كمن يعرف حق العيش ستعرف كيفَ يفكر ذلك الجربوع (يشير إلى نفسه)..

المصور: (يكتفي بالجلوس على كرسي قريب)

صاحب الفندق (واقفا بالقرب منه) أسميتني جربوعا ، وأقبل هذا منك.. لكنك لن تفلتَ من يد الجربوع !!!

(يخرج صاحب الفندق بينما يبقى المصور صامتا) .. (أصوات كركرات الأطفال تسمع من جديد)

المصور (يضحك) لن تفلت مني .. لن أفلت منك ) يضحك بهستريا) كيف سأفلت منك وأنت سددتَ علي الأبوابَ وجعلتَ فضاءَ الغرفة كغطاء من نار! آه لو رأيتَ ما رأيت ، أكنتَ تبحث عن مال زائف؟

(ينهض مقتربا من الصور) وجوه غضة وأيد كأيديَ ملائكة الله طرية وناعمة يحملها الموت على أكفه الخشنة هل أطلب منها ثمنَ التصوير كي ادفعَ لك؟

(يشير الى بقية الصور) لم يبقَ إلا تلك الأشباح تركوا أحلامَ طفولتهم تأكلها اللوكيميا والسل وأمراض لا عد لها، تبا للحرب !

نحملها مثلَ الصلبان على الظهر

ندور وفي فمنا الصرخات

من يسمع ذاكَ الصوتَ المخبوءَ يؤرقنا

من يعرف ما يؤلم هذا الطفل وذاكَ الشيخ

يسخر منا الموت ونسخر منه

لكن الخاسر فينا هو الإنسان ..

(يقف قبالة صورة زوجته) كانت لي زوج وولد.. ولد خرجَ من صلب الجوع، لم تمنحنْي فرصةَ أن أتمتعَ به

ما لم أمنحْها خبزا يشبعها، يالي من مخدوع .. كانت تمطرني بكلام معسول، كلام زائف

(يقلد صوتها وطريقتها في الكلام) لو عافك كل الكون فأنا لا يمكن ان افعل (صارخا) وصلَ الزيف الى لب عواطفنا فأستفحلَ فينا .. صرنا نشك بأحب الناس ألينا وأقربهم ألينا (يقلدها) لا تشعر بالوحدة بعد الآن...ها قد رحلتْ عني تركتني حيث الوحدة والخوف (مستذكرا) أتذكر يومَ أتى الطفل (مؤكدا) طفلي أنا !! قالوا مبروك .. ولد كالطير رأوه هم .. لكني لم أرَ ولدي )يلتفت إلى صورة زوجته ويطلب منها أن تأتي) تعالي .. تعالي نعيش معا ..

(صوت زوجته من المكان المعتم) نعيش معا؟ أقاسمكَ البطنَ الفارغةَ و تصاويرَ لا تجلب عافية..

المصور: من حقك أن تفخري بي .. عملي هذا..

الزوجة: عمل لا يجلب إلا الحرمان .. أتسميه عملا..؟ المصور: لكنه يجلب قوتَ يوم

الزوجة: أنعيش ليوم واحد ؟

المصور: هي نفس الأيام ندور وإياها نحملها ثقلا على أكتاف أرهقها الدهر

الزوجة: غيرك يحلم بالآتي وأنتَ تعيش ليومك

المصور: لم يبقَ درب لم أمش به .. أو رزق لم أسعَ إليه فجميع الأبواب موصدة

الزوجة: ذاك لأن مفاتيحَك قد صدأت ودروبَك لا تنفع..

المصور: دليني أنت .. دليني ،إن كانت عيناي تخونانني وساقي تقودانني إلى المجهول؟

الزوجة (بغضب) ما بالك أنتَ وتلك الناس ؟ تبحث في زاوية مهملة عن وجه مجذور يصلح للتصوير تدفع من قوت البيت وتنسى مَنْ في البيت ! تأتيني بوجوه أتلفها العمر وأخرى قد عبثَ الموت بها من يعطيكَ الأجرَ .. ها ؟ عزرائيل ؟ هذا الذي لا يعطي ابدا بل يقطف منا العمر

المصور: أتريدينني أن أستجدي؟

الزوجة: حقك أن تأخذَ اتعابَك ..

المصور: حقي إن اثبتَ للعالم مأساةَ العصر

الزوجة: ومأساتي أنا .. من ذا ينقلها للعالم .. مأساتك أنت .. ومأساتي .. وقدور الطبخ الخاوية .. ما فكرت بهذا .؟

المصور: فكرت بما يملأ هذي الدنيا خواء .

الزوجة: (بصوت عال) الدنيا ..؟!

ما بالك والدنيا .. ما بالك والغير .. ؟

من يطرق بابك ويسأل عنك ؟

من يعطيكَ أن احتجتَ ومن يأويك ؟

المصور: لا رغبةَ في أن يأويني أحد ويسألَ عني ..

أنا خاصمت الكون !

مادامَ الكل تناسى الكل ..

مذ حطَ الموت جناحيه علينا

الأخوة صاروا أعداء

يتعاطونَ الشرَ بلا هدف .

أتريدينني أن أصبحَ شيطانا أحوم بلا هدف؟

الزوجة: إن كان المال يشيطنكَ فكنْ شيطانا !

المصور: حقاَ !

ما شيطنَ تلك الناس سوى المال ..

يغويهم حيث دياجيرَ الوحشة

يمسخهم !

يجعل من كل قلوبهم حجرا

الزوجة: (ساخرة) يا فلسفةَ العوز !

ستحط بكَ في هاوية اليأس

ما كانت أفكارك هذي من قبل، ما غيرك ؟

المصور: (بأسى) بالأمس وقد زرت المشفى شاهدت الأطفال يتلوونَ ، كانوا مثلَ نسيم باغته الدخان..من بينَ أصابعهم ينفتق الموت، يجردهم من حلم عاشوه، ومن أمل صارَ سرابا!

الزوجة: في كل زمان ثمةَ أمراض، وثمةَ موتى وقبور

المصور: لكننا في زمن صرنا نحمل فيه قبورَ الدنيا على كواهلنا ... كل قبور الدنيا !

كأن الموتَ هنا قد ثبتَ مسمارا

لا أحد ينجو في هذا الوطن القبر .

الزوجة: أنت تجرجني لليأس معك ، تقحمني في عزلتك الفاحمة الرعناء ما ذنبي أنا .. ما ذنب الطفل؟

المصور: (صارخا) ما ذنب الأطفال جميعا؟

الزوجة: لكنك تحرمنا من عيش مقبول !

المصور: ما كنت أنا الأول ممن يشعر بالذل، هناك كثيرون، يتلوونَ على أرصفة العوز بحثا عن أيد بيض.. من أين أجئ بيد بيضاء تمنحك العيشَ المقبول..وسواد الدنيا يغلفني ..!

الزوجة: أتهرب منا ؟

المصور: أهرب من نفسي !

الزوجة: (بسخرية) الأمارة بالسوء ؟!

المصور: ليتنا بالسوء وجدناها، تلك المعجونة بالبلوى ... (يمد يديه حيث تقف الزوجة) أجلسي .. أن حديثَ النفس يقتلني، لنتحدثَ في الحب كما كنا !

الزوجة: (مبتعدة) الحب ... هل بقي حب ..؟

المصور: أعرف أن الجوعَ يقتل حتى الحب

لكننا قد ننتصر الآن إذا عفنا الهم.

الزوجة: كيف نعوف الهم وقد صارَ لباسا لا يستر ؟

المصور: ننساه ... أو ... أو نتناساه !

الزوجة: فكرت بأن أنسى،لكن صراخ الطفل يؤرقني..

المصور: أهو جميل ؟

الزوجة: (تنظر له بأسى) ..... !

المصور: (ينهض مقتربا منها) يشبهني .. ها .. ؟

الزوجة: (تبعد نظرها عنه)

المصور: هل صار يناغي ..؟ (مع نفسه) غا..غا..غا..غا.. أسكت يا ولدي ؟ سأهديكَ كاميرتي، تصور أحلامك .. تصورني ! (يلتفت إلى الزوجة) لمَ لمْ تأتيني به ؟

الزوجة: يوما يوما صار البرعم أصفر، يبحث في صدري عن خصب، لا شئ سوى القيح .. يصرخ في الظلمة ، كسجين يندب حظه! يصرخ .. يصرخ .. لا أحد يسمعه سواي، بأصبعه كان يشير إلي ..

المصور: (بصوت عال) لم لم تأتيني به ؟

الزوجة: ماذا ستعطيه ..؟

أحلاما فارغة ... أوهاما ..

المصور: أعطيه الأمن ...

الزوجة: هل تقدر..؟ هل تقدر إن تبعدَ عنه الموت، (صارخة باكية) هل تقدر أن ترجعَ إليه الروح ؟

المصور: (باستغراب شديد) ماذا ............؟

الزوجة: (تسقط على الكرسي) ليال عشت، وأنا أبعد عنه شبحَ الموت،كان الموت يراقبني،

ينتهز الفرصةَ كي يقطفَ روحه ..

لم أتركْه لحظة ..

كنت أغطيه بجسد لم يحميه !

لا ادري كيف غفوت

وتركت الموتَ يعبث فيه..

كانت عيناه جاحظتان

ويداه ذابلتان

يكتم في صدره صرخةَ كل الكون !

المصور: (واضعا رأسه بين ساقيه متألما) آه ... ما أخبثَ هذي الدنيا تفتح بابا، لتغلقَ كلَ الأبواب

الزوجة: ما أخبثنا نحن .. نبحث وسطَ ركام الروح عما يسعدنا فنتيه.

المصور: ها قد ضاعَ الولد ...

وضاعت كل الأحلام

الزوجة: (بغضب) من .. من ضيعه .. من ؟

المصور:(متلعثما) لست أنا ... (صارخا) لست أنا ! .. لست أنا!

(الزوجة تدخل في الستار المعتم بينما المصور يصرخ) لست أنا) حتى يقع على الأرض..ينظر حيث تقف الزوجة لا يجدها)

المصور: يا عبثَ الدنيا بي ...لم تتركْ لي أحدا ! ماذا لو وفرت الحزنَ ليوم آخر ... ليسَ الآن ،فبيَ من حزن الكون ما يملأ هذا الكون..(صارخا) يا دنيا .. لمَ صيرتني فقيرا .. وغلقت الأبواب، ماذا يحدث لو أعطيتني شيئا ،هل ينقلب الكون...؟ بعض قمامة أولئك قد تكفينا ..قد تنجي طفلا من موت محتوم..عائلة تبحث عما يسكت هذا الداء...يا عارَ العار ... يا أهلَ الدنيا ..كيف يوصيكم بالجار وتنامون على خير هو من عند الله ..

(أصوت طرقات متلاحقة على الباب)

المصور: (منتبها) هل طلعَ الفجر، ليته لم يطلع!

(يذهب حيث النافذة وينظر إلى الخارج)

حمدا لله (يغلق الستارة) مازالَ الليل يغلفنا !

(أصوات الطرقات على الباب تزداد)

هل جاء الخباز يطلب أجره ..؟

أم جاءَ الخضار ,,

ما أثقل هذا الدين !

(صوت صاحب الفندق من الخارج): أفتح يا سيد..

المصور: ها قد عاد ثانية .. (هازئا) سوف يهددني إن لم ادفعْ إيجارَ الغرفة فالويل الويل! سوف يقول لي: ظننتك مت..

(الصوت يزداد حدة): أفتح يا سيد، اعرف أنك ما مت...

المصور مستغربا: قد خيب ظني هذا الخائب )يفتح الباب ويدخل صاحب الفندق)

صاحب الفندق: أتتركني أطرق بابك .. من كنت تظن سيأتي غيري..ومن يسأل عنك غيري ؟

المصور مع نفسه: ليتك لم تسألْ عني، سؤالك يقتلني

صاحب الفندق: ماذا..؟

المصور: أمهلني يومين، طلبت الهدنة منك سأدبر أمري

صاحب الفندق: (ضاحكا) ما جئت لهذا ...

المصور: (أكثر استغرابا) ما ... ماذا ...؟

صاحب الفندق: (بدهاء) أنا قصرت كثيرا في حقك .. أعرف ما كنت تعاني (يقترب منه أكثر) أطلب منكَ الصفحَ فهل تعذرني؟

المصور: أعذرك .؟!

لا يا سيد .. أنا من يطلب منك الصفح

صاحب الفندق: أعترف إني كنت لئيما .... أحسست بهذا..

أشعر إن الذنبَ يحاصرني (بخبث) فنان مثلك ما كان علي إن ابخس حقه

المصور: (صامتا) .....!

صاحب الفندق: من حقك أن تسأل: ما غيرني (بدهاء وخبث) تعرف أني ما أعرف في الفن كثيرا ...

أنا عشت حياتي في البحث عن المال، حيث يكون المال أكون لم أدخلْ مدرسة في عمري،لهذا .. كنت أواري النقصَ بما أجمع من مال .

المصور: (بسخرية) والآن عرفت الفن ؟

صاحب الفندق: عرفت الفنان .. عرفتك أنت !

المصور: (باستغراب) في اللحظة هذه ... كيف ؟

صاحب الفندق: لا تستغرب، فصداقتنا قد جاءت من بعد عداء!(مستدركا) رغما أني ما كنت عدوا لك .

المصور: وإيجار الغرفة .. والهدنة ؟

صاحب الفندق: اتركها لك .. (صمت) أنت تقرر ذلك.

المصور: (ينظر اليه مليا) أشعر أن هنالك أمرا يشغلك

أتراني طرفا به ؟

صاحب الفندق: (بدهاء) قالوا أن حدسَ الفنان كبير ...

ها انذا أقرأه فيك يا سبحان الله! لا اعرف أن اقرأ شيئا إلا هذا!

المصور: (مبتسما بسخرية) ألك حاجة عندي غير الإيجار

صاحب الفندق(محاولا الإفلات من سؤاله) لا .. لا يشغلك الإيجار..

لا حاجة لي به .. الغرفة لك .. أقعد حيث تشاء لا أطلب منك شيئا...

المصور: معقول ما اسمعه منك !

أنت تقول هذا ؟

صاحب الفندق (بحزم) وأؤكد لك .. أتريدني أن أكتب صكا في هذا ...؟

المصور: يا سبحان الله !أفي حلم أنا أم أنت ؟

صاحب الفندق: (يضحك بخبث) أنت صديقي .. وجاري

وقالوا قديما : حق الجار على الجار !

المصور: (يتحرك حيث المكان المظلم) اخبرني بأمرك

صاحب الفندق: (متوددا) جئتك بمفاتيح الدنيا تفتح أبواب الرزق الواسعة... سأعقد وإياك صفقة عمرك ,,

تسدد ديونك ، وتدر عليك الربح!

المصور: (هازئا) أأعمل عندك .. كأجير عما في الذمة .

صاحب الفندق: لا يا سيد لا ..

تجلس في الغرفة كالسيد (مستدركا) كالسيد كيف ...لا... بل كأمير لا هم له..

المصور: ولا أدفع شيئا .,؟

صاحب الفندق: بل تدفع !

المصور: تعرفني .. لا شئ لدي ادفعه..

صاحب الفندق: بل عندك ..

المصور: عندي ماذا ؟

صاحب الفندق: شئ لا يخطر على البال ... كليتك...

المصور: (وكأنه لا يسمع) ماذا ؟

صاحب الفندق: (بدهاء) عمل أنساني .. يدر عليكَ المال،

يخرجك من عوزك..

المصور: أجننت ..؟ يخرجني من عوز ويدخلني في ألسقم!.

صاحب الفندق: أنت بكامل عافيتك..

المصور: لكنني أعطي جزءا مني..

صاحب الفندق: لأبن أخي، شاب في مقتبل العمر .. يحتاجك أنت..

المصور: ألأني مديون لك تطلب هذا مني ؟

صاحب الفندق: لا يا سيد ... لا .. قلت لك أنسَ الإيجار .. أعرف أنك تشعر بالناس وتفكر بالغير, تحمل كل مآسيهم في غرفتك هذي ...

(يشير إلى الصور المعلقة على الجدار) أليست تلك تصاوير الناس؟ (مقتربا منه) أبن أخي يحتاج إليك ، يحتاج لمروءتك يا سيد !

المصور: (بغضب) وأنا .. من أحتاج إليه ..الكل أدارَ الوجهَ عني، وصرت وحيدا !

صاحب الفندق: لست وحيدا .. نحن معك، اهلك نحن وأحبابك..

المصور: الآن تصيرون لي أهلا ، أينكم بالأمس ..؟

صاحب الفندق: لننسى الأمس .. (بتوسل) ألتمس فيك الإنسان، الإنسان الطيب ، الفنان ! لو كنت أشك بأنك ترفض ما كنت أتيت!

المصور (حائرا) ........!

صاحب الفندق: (يقترب منه أكثر) سندفع لك عشرة ملايين، بل مئة مليون دينار إن وافقت، فكر في الأمر ستعرف أني أريد الخير لك ..

(يتركه في صمته ويخرج ... المصور ينهض من مكانه حزينا، يدور حول نفسه ينظر إلى الصور المعلقة على الجدار .. يتحدث مع نفسه)

المصور: عاهرة هذه الدنيا ، لا تعطي أبدا ، ماذا لو حكم التجار العالم... (بسخرية) هذا أن لم يحكموا بعد! لصرنا كقطيع وسط ذئاب (صمت) هل أعطي جسدي كي أصبحَ مقبولا...؟ هل يكفي ذلك؟ (يستذكر) حين مرضت امرأتي... كنت كمن صار هشيما ، أعطيتها عضوا مني فجازتني بالهجر، رتني ! تركت لي هما لم أسطع حمله، بماذا سيجازيني الأغراب ؟ الملايين تكفي كي ارحل عن هذي الدنيا..؟ (يصرخ) يا أهل الأرض .. أهل الدنيا

هذا مزاد لبيع الأعضاء !

مزاد ... مزاد

مزاد ... مزاد

من ذا يشتري الجسد الرخو

من يشتري رأسي .. قدمي .. كبدي .. عيني

مزاد ... مزاد

من يدفع لي شيئا ويأخذ قلبي ..؟

يا أهل الأرض .. يا أهل الدنيا

أعطيت لكم روحي .. روح الفنان

من ذا يمنحني العيش الهانئ

(يرفع الصور واحدة بعد أخرى ويبدأ بتمزيقها)

من يمنح تلك الصور الروح

تلك الأشباح الجاثمة فوق الصدر

ترسم خط الموت

تحاصرني

لا مهرب منها

لا مهرب من كل نوافذنا المفتوحة للريح

العتمة تكتسح الأرض

الأرض تدور .. تدور .. تدور

مزاد.. مزاد.. مزاد!

(يسقط فوق الصور الممزقة)

(الزوجة تدخل وسط كركرات الأطفال وصياح الديكة تغطي جسد المصور بقماش ابيض بينما يدخل صاحب الفندق من جانب اخر ويغطي جسد المصور بقماش أسود.. المصور يتحرك بهستريا)

المصور: (من تحت الغطاء) الله ..! الله

ما أحسست برغبة في الضحك ألا الآن ...

(يضحك بصوت عال وبهستريا ويمتزج ضحكه مع ضحكات الأطفال)

العتمة تدغدغني ...

والأيام تبحث في أحشائي عن عضو لم أبعه لأحد ...

(يضحك ... ويضحك ... ويضحك)

- أظلام-

البصرة /2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى