عبد الرزّاق بوتمزّار - الحديقة التي لا تُزقزق فيها الطيور

أمام بلكونتي الصّغيرة في ذلك الحي الخلفي حديقةٌ صغيرة. كانت أكثر ما جعلني أوافق، فوراً، على الاستقرار في بيتي الجديد هناك. ليس في كلّ مكان في الدّارْبيدَا يُمْكن أن تجد مسكناً (للكراء) أمامه حديقة؛ يلعب فيها الصغار نهاراً وتُزقزق العصافير عشيّةً وعند الفجر.. الفجر؟ هل قلتُ الفجر؟ في فجرِ أحد أيامنا الأولى، زارتِ الحديقةَ أفواجٌ من كائنات أخرى، لا تُزقزق. في أوقات مختلفة رأيتها هناك، ليلا ونهارا. يطلق الواحد منها عَوْعواتٍ (وَفِي روايةٍ أخرى: هوْهواتٍ) أنشَزَ من صوتِ أغيُولْ (الحمار). أغيولات كثيرة ودوابّ هائمة تتجول في الحديقة، تأكل أو تستظلّ أو تتربص بفريسة أو وجبة في قمامة. لا شكّ في أنّك تحلم! بغالٌ وحمير وكلاب في قلب المدينة؟ كيف يعقل ذلك؟ لا شكّ، أيضا، في أنّ حلمك يأخذك إلى أزمنة بعيدة؛ الطفولة. إلى القرية تُعيدك، في حلمك، أجواء الحيّ الخلفي. تتذكّر التحوّلات هناك وتقارنها بما ترى هنا فيرسمُ الشريرُ فيك على فيك ابتسامة غيرَ ملائكية. بلغَك أنّ ابن البُوعْدسي غيّرَ معالمَ القرية. بسرعة بديهة وصفاء ابن البلد، أحيى الجمعية. باسم أعضائها، أعلن انتصارهم في معركتهم الأولى. استقطب مزيدا من الناس. أفهمهُم الوضعَ في ضوء المستجدّ الذي أنارت أعمدتُه طرُق المدشر. "الكهرباء وصلت، أخيرا، إلى القرية، سنُحوّلها المدينة". أعلنها بزهو وسط الجموع المنتشية. في يوم التأسيس، أرّخت أغاريدُ النساء وأهازيجُ الأزمنة الغابرة الحدث ورقصتْ، تحت صوت إيقاعات الأجداد النجوم فوق تلك الرقعة المبارَكة، حتى ساعات الصّباح. صارت "ودادية المْدينة -أولادْ أغماتْ" أشهرَ من نار على علَم (أو "في" علم).
سهّل الضُّو المهمّات وأسعد القلوب. صار يمكنهم رؤية الوجوه ليلا. فرحوا بذلك. كثرت بينهم الزيارات الليلية واللقاءات صارت ممكنة في كل بيت أو زاوية. لم يكنْ أحدُهم يرى وجه جاره إلا في ضوء شموع المسجد الصغير أو لمبة حانُوت بّا حْميدة. يمكنهم الآن التعرّف على بعضهم البعض عن بعد وعند المنعرجات. تغيّرت وتيرة الحياة نحو الأوضح، نحو الأفضل وتجذرت الطيبوبة وتأصّلت العادات. والآن، هنا، في هذا الحي المدينيّ، بغالٌ وحمير وكلاب تستبدّ بالحدائق!؟ لا، لم أكن أحلم، هذا يحدُث بالفعل الآن!
غير أن المضحك في الأمر أنّ تلك الحمير المسكينة، أو البغال، تجد نفسها، مرّات، بطلة بالإكراه، في مشهد لا يخطر ببال. ذات ليلة، عند الفجر، حلمتَ بأصوات مزعجة لحمير أو بغال تطاردها كلاب ضارية أو وحوش أشرسُ من الكلاب. المنظر بعيد والصور مشوّشة. وحده لهاثها المُخيف وشررُ نظراتها الجزّارة وأصواتها المرعبة تتراءى في كابوسك الغريب. بدأ حلماً ترافقه شقشقاتٌ عذبة لطيور صغيرة ملونة. في لحظة، خُيّل إليك أنّ الحركة أقربُ إليك مما تظن. كأنّ هذا الفصل المروع يجري في الحديقة المجاورة. تفتح عينَيك. لم تكن تحلم.
لم أكن أحلم، إذن. سحبتُ ذراعي المخدَّرة من تحت عنقها وغادرت السّرير بحذر. تبعتُ خطوات الفضولي فيَ، زاحفا خلفه صوب البلكونة. اقتربت فوضى الأجساد واشتدّ وقع الحوافر والنهيق والعواء واللهاث. في مدخل الدّرب ظهر أبطالُ القصة، في مشهد دراماتيكي حيّ، مضحكٍ ومُبك. جحشان مسكينان يهربان من أنياب كلاب ضارية. يجريان مذعورين، مُستعينَين بالرّكل والصراخ والهروب وبكل ما أوتيا من مقاومة ومناورات. بالهروب فقط قد تُفلت بجلدك في محيط هذه الحديقة المجنونة.
في اليوم الأول الذي سكنتُ هناك كانت لي مخططاتٌ وتطلعات رومنسية. أضحك الآن من سذاجتها، ومن سذاجتي، كلّما عادت بي الذاكرة قليلاً إلى أيامي الأولى في ذلك الحي، إلى لياليَ تحديدا. من بين أحلامي أن أندمج في المحيط بسرعة. أن أجدّ للوصول إلى أعضاء جمعية أو ودادية مُفترَضة أو أحثّ السكان على إنشائها، إن لم تكن موجودة. أول ما فكّرتُ فيه كان الاعتناءُ بأمور الحديقة والحفاظ على أغراسها ونباتاتها. لكن حماسي خبا سريعاً وأنا أعاين ما يجري حولي. كيف أتعب نفسي من أجل حديقة لا تُزقزق فيها الطيور؟ لمَ أضيع الجهد والوقت من أجل حديقة تسيطر عليها الكلاب ليلا وتزورها الشياه والبغال والحمير ولا تترك الطيور تُزقزق؟!
لم أحتجْ وقتا طويلاً لأوقن بأن الأمور هنا تنقلب ليلا. تلغى القوانين وتتبدل الأعراف. يا إلهي، كلّ شيء يُجنّ ليلاً في هذه المدينة! الحديقة الهادئة تحولت غابة مخيفة والكائنات المسالمة نهارا وحوشاً متوثبة. أتابع المشهد المجنون بابتسامة مُلغزة ونشوة غامضة. يائسين، يدور الجحشان دورات لامنتهية، وخلفهما كلاب جائعة. يقطعان المسافة ذاتها ذهابا وجيئة، آملَين أن يُخلّصهما من قبضة أولاد الكلبة أولئك واحدٌ من الأشباح البشرية التي قد تلوح في هذا الوقت المتأخر. يعبُر الموكب الصّاخب من أمامي ويقطع الدرب، أتابعه، أحيانا، من النافذة الأخرى. يعرّج على الساحة الخلفية، حيث يربد ما تبقّى من كارْيان الحي المحمدي. بعد منزلين أو ثلاثة، يدخل الجحشان والكلاب الدّرب من الجهة المقابلة للبلكونة الصّغيرة ويواصلان الدوران؛ وهكذا دواليك. حين تغيب الشرذمة عن ناظرَي، أتابع ملهاتها (أو مأساتها، الأمر سيان) بالسمع. تُلاحق أذناي أصوات ضجيجها وهي تعدو خلف بعضها البعض، إلى أن تظهر مجددا. لم أعرف من أو ماذا أنقذهما في الأخير. في لحظة ما غاب الجحشان، والكلاب خلفهما، في ساحة الكارْيان. لم أعرف نهاية المطارَدة. لم تعد تصلني أصوات حوافرها وأفواهها وأنوفها فخمّنتُ أن المعركة انتهت لصالح الحمارين المراهقَين. لكنْ، وأنا أستجلب النوم، تخيّلتُ أن تكون الكلاب المستثارة، الشريرة مثل بعض أفكاري، افترست الجحشين. سيُمزّق أحد الوحوش أسفل بطنيهما وتبدأ الكلاب الوليمة بالتهام خصيتيهما، في الغالب.
بعد تلك السّهرة مع الكائنات التي لا تُزقزق، وفي ما تلاها، سقطتْ أحلامي الصّغيرةُ تتالياً. لم يعد أمرُ الحديقة يهمّني في شيء. لمْ أرغب حتى في معرفة اسمها. ولماذا أسعى إلى معرفة اسمها ولا حتى اسم المكان وكلّ المؤشّرات تؤكد أنّ مقامي لن يطول في هذا الحي المخيف، قرب هذه الغابة الموحشة؟! أضحت الحديقة الخلفية مجرّدُ بوابة في الحلم تأخذك إلى حديقة أحلامك، "حديقة مركز أولاد أغمات". رغم صعوبة الانتقال من جو الملاحَقات المرعبة بين وحوش هذه الغابة الخلفية وبين الفرحة المشتركة بين طيور المْدينة حول ذلك الجدول الصغير، كان الخيال بساطاً لتحقيق المحال. تتخلّص من النباح والنهيق والصهيل والمواء وتسافرُ إلى المْدينة، حيث أناشيد الأطيار. وحدها تسكن الحديقة التي غرست الودادية شجرها ونباتها في وسط الدوار/ الحي.
أبعد البُوعْدسي، مدعوماً بأعضاء جمعيته وكلّ القاطنين في الدواوير المجاورة وبمنحة من مجلس الجماعة القروية، كلّ الكائنات، عدا البشر والطيور وبعض القطط، عن وسط المْدينة. في تلك التّيرا الشاسعة التي تمتدّ وراء ضفّة الواد الثانية أنشأت الجماعة إسطبلات وحظائر تسكن إليها مواشي أهل الدوار، وحتى كلابهم. استفاد كل كانون حسب الحاجة، بناء على عدد الأبناء وعدد المتزوجين منهم وكذا رؤوس الماشية. وفق أعراف وقوانين القبيلة، سهر الرايْس البُوعْدسي على عملية التسجيل وضبط الأسماء والتواريخ. أخذ بنود القانون الداخلي للودادية من دستور الأجداد غير المكتوب. أدهش ذلك المنخرطين وحفّزهم على الثقة فيه أكثر ومساندته. كان أكثرَهم دراية بالأنساب والأملاك والقَصص. أورثه أبوه، عن جده، الحانوتَ وكذا قانون الجماعة. وجد أن الديمقراطية نهجٌ راسخ هنا منذ أجيال، ممارسة يومية تكرّست من أزمنة بعيدة. جعل البنود، التي حفظها عن أبيه، فقرات للقانون الداخلي لجمعيته التي رأت النور في أول أيام وصول الكهرباء. بعد أيام، أضحت وحدها الطيور، من كل الأنواع التي تعيش في الجوار، تُزقزق في الحديقة.
قبل انتهاء الشهر الثاني، كنت قرّرتُ أن أرحلَ عن المكان. إيجادُ مُستقَرّ آخرَ في أرض الله الواسعة صار ضرورة مُلحّة. أنقذت العطلةُ الصيفية فشلي في العثور على تبرير مقنع للرّحيل. قلتُ لها، في ذلك الصّباح، وخيالي يسبقني إلى قريتي البعيدة: يا أنتِ، كيف يمكنني أن أعيش قرب حديقة لا تُزقزق فيها الطيور؟! سنمضي عطلة الصيف في البْلاد، في المْدينة، ما رأيك؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى