محمد عبيد الله - قصص إلياس فركوح والتجريب

تجربة إلياس فركوح من العلامات المميزة في القصة القصيرة العربية المعاصرة ، تشهد بذلك أعماله المتتابعة التي شيد من خلالها هويته الإبداعية ، وصدر له سبع مجموعات قصصية بين عامي 1978 - ,2002 ومجموعة ( الصفعة ) أولى مجموعات الكاتب ، ذات مرجعيات واقعية واضحة من حيث الإشارات السياسية والاجتماعية ، ونجد فيها بعض مياسم المناخ السائد في السبعينيات من ناحية هيمنة مبادئ الالتزام ، وشيوع الكتابة عن الطبقيَّة أو عن قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة لا تواريها القصة ، بل تسعى إلى التعبير عنها ، ومع هذا التشابه مع المناخ العامّ للكتابة القصصية في السبعينات ، فإن المجموعة تضمر إرهاصات اختلافها ، على مستوى المضمون ومستوى التعبير.

وتحيلنا المجموعة الثانية (طيور عمان تحلق منخفضة - )1981 إلى الاعتماد على شخصيات واضحة ، دون أن تسيطر عليها الفكرة غالباً ( كما هو الحال في المجموعة الأولى) ، وبشكل مُجمَل سيواصل ( فركوح ) محاورة الواقع السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي من خلال مداخل شتّى ، عبر اقتناص شخصيات بعينها تكون في بؤرة القصة ويتشكل النسيج القصصي من خلال إبرازها ومتابعة حركتها ، لكن ما يفرق هذه المجموعة عن سابقتها الانشغال الواضح بالتقنيات القصصية وبكيفية تقديم المادَّة المحكية ، ويتبدَّى في هذا السّياق انشغال القاصّ ببناء قصته وتشييد مبناه السردي ، ولذلك نجد المسافة تتسع بين المتن الحكائي ، والمبنى السردي ، ومع وضوح المتن - الحكاية في هذه المرحلة عبر المحافظة على العناصر القصصية المستقرة فإنه يوسّع شغبه ضد السرد الخطّي ، عبر إعلاء الاهتمام بجوانية الشخصيات ، والميل إلى تصوير همومها الداخلية مترافقة مع حركتها الخارجية ، أي أنه يراوح بين الداخل والخارج ، ويقطع السرد الممتدّ إلى الأمام بصور موازية ، وبذكريات وأحلام وكوابيس ، ولكن صلة القصة بالواقع الخارجي الفعلي تظلّ جليَّة ، وأحياناً ترتبط بأحوال وشخصيات واقعية كما في ذًكر ( معروف سَعد ) الشخصية اللبنانية ، وكذلك الحال في قصة ( العباءات التي أضاءت الصمت ) ، التي أهداها إلى الشهيد ( جهاد حمو ).

ومجموعته الثالثة (إحدى وعشرون طلقة للنبي - )1982 هي مجموعة التجريب المبني على قصدية متحمّسة ووعي يطلب التجديد في الشكل واللغة والرؤية ، ومما برز في هذه المرحلة: اللجوء إلى المكان الجزئي أو الهامشي في عمان ، وكذلك إضاءة الشخصيات العمانية المهمشة من مثل: شخصية آفو الأرمني ، وليس الشخصيات النموذجية البطولية ، وكذلك وضوح ظاهرة شعرية القصة رؤية ولغة في عدد من القصص ، من مثل قصة: إحدى وعشرون طلقة للنبي التي حملت المجموعة اسمها ، وقصة: ليس كالسماء أزرق ، وقصة: الكتابة على طبل فخاري وغيرها.

وفي مجموعته الرابعة (من يحرث البحر - )1986 يتوضح التجريب بصورة أكثر جلاء ، ولو اتخذنا من قصة (نوافذ على بحر الغريب) مثالا على ذلك للاحظنا أن القصة أشبه بمونولوج تصويري يولد في الذاكرة ، ويعتمد على تقطيع الزمن وتقطيره على مدى رحلة الشخصية أو مشوارها. ولو أردنا أن نكثًّف أهم خطوط القصة ومعالمها فيمكن الخروج بما يلي :

- التحوُّل بالوقائًع والأحداث من الخارج إلى الداخل ، عبر التركيز على تأثيرها في الشخصية ، وليس على رصد حدوثها ، ولذلك تتأخر الأحداث إلى طبقة غائرة وراء النسيج السردي ، ولا تعطى لها أية أولوية . بينما يتوسَّع السرد باتجاه الكشف عن هموم الشخصية ومشاعرها وانفعالها بتلك الأحداث المضمرة .

- استخدام ضمير المتكلم بما فيه من محمولات ذاتية وشعرية ، تزداد تدفقاً مع المناخ العاطفي المخفف "غير الميلودرامي" ، ومع كون التجربة هي تجربة الذات وليست أمراً خارجياً مثيراً للانفعال أو باعثاً على التأثر.

- الاهتمام باللغة الوجدانية ذات المؤثرات الشعرية ، سواء أتعلق الأمر برصد الوجدان الداخلي ، وتهتك النسيج الداخلي للشخصية ، أو انتقل إلى الصّور المحيطة ، إذ تظلّ مرسومة بالمنظور الشعري ذاته ، كأن مشاعر الشخصية تُسقط عليها ، أو تُرى بمنظارها.

- وضوح الإفادة من تجربة الرسم والفن التشكيلي في بناء النص القصصي سواء بمحاكاة رسم أو تخطيط متخيل أو مستعاد في الذاكرة ، أو من خلال خلخلة اللغة لتقوم بدور شبه تشكيلي وليس إخباريا أو سرديا محضا.

وتتجلى قصة ( نوافذ على بحر الغريب ) من حيث تمثيلها الصيغة القصصية التي استقرّ عليها أسلوب ( فركوح ) أو كاد ، ويمكن أن نسميها بـ ( الكتابة بلغة القلب ) وهو الأسلوب الذي كتب به قصصاً مبكرة ، لكنه لم يتعزز في هيئة خيار أساس إلاّ متأخراً ، أي أنه ظلّ خيطاً ضمن الخيارات الأسلوبية المختلفة ، ولكنه هنا يضحي المكون الأساس ، وسوف يكتب به قصصاً متعددة في المراحل التالية ، وسيصبح المحور الأساس لإنجاز مجموعات كاملة من مثل: (الملائًكة في العراء) و(حقول الظلال).

يكتب فركوح ابتداء من هذه المرحلة قصصا متحررة من أية اشتراطات شكلية أو أجناسية مسبقة ، ومن بين الانطباعات الأولى التي تتشكل قرائيا عن هذه القصص أنها قصص تجريبية مفتوحة على الاحتمالات ، لا تنطلق مما يقال عادة عن أركان القصة أو عناصرها أو تعريفاتها وحدودها ، فهو لا يقدم قصصا تناور في تطبيق تلك الاشتراطات ، بمقدار ما يكتب نماذج تقترب من حدود التمرد على القصة القصيرة نفسها ، وربما يدخل هذا النوع من التمرد فيما يسمى بالقصة الضد ، أو "ضد القصة القصيرة" ، إنها قصة تتفلت من سرديتها بأشكال شتى وتحاول أن تخلق بدائل "سردية" جديدة تعوّض عن العناصر المقصاة.

تتجاوز قصة فركوح "الخاصية الحكائية" التي نميزها عادة من خلال سلسة الوقائع أو الأحداث وطريقة تركيبها وترتيبها ، إلى نوع مختلف من "الحكائية" يقوم على نفي كل ما يقع في باب الحكائية إلى خلفية أو مرجعية أو صدى خلفيّ للمبنى النصي الفعلي ، وهكذا تغدو القصة مركبة من انطباعات (الراوي أو الشخصية) أو من صور وتأملات وتخيلات ومراجعات مرتبطة بتلك الوقائع الحكائية الخلفية. لا يكتب فركوح الوقائع ولا ينشغل بها كنظام حكائي وإنما بتأثيراتها التأملية وبما تتركه من أثر وما تخلفه من انطباع ، تماما على نحو ما يتفاعل الشاعر مع مادته ، ومن هنا تتميز "الخاصية الشعرية" عند فركوح في هذه المرحلة التي تمثل ذروة من ذرى التجريب القصصي عنده ، إنها شعرية متأتية من تكوين النص وليست من استعاراته أو تشبيهاته ، وليس الجانب التصويري ـ البلاغي إلا المظهر الخارجي للتأمل الشعري كمنظور للعالم وليس غطاء لوقائعه أو تفاصيله.

ومما يوضح هذا المنحى ما ذهب إليه فركوح نفسه في توصيف انتقاله من كتابة "الحكاية" إلى التقاط "الحالة" والتعبير عنها ، يقول:"وجدتني منجذبا إلى ما يمكن تسميته بـ (حالة قصصية) وهذه الحالة قد يتبلور فيها موضوع متكامل وقد لا يتبلور..ويبقى للحالة معالمها وشخصيتها ، لكنها تظل صيغة ليست (القص). لقد انتفى القص بمفهومه الكلاسيكي واستبدلت به حالة. قد تكون لوحة متحركة تتضمن شخوصا في أوضاع ثابتة ، إلا أنها تشير إلى قصة ، تشير إليها ولا تقصّها ، ولا تتقصاها. تشير إليها ولا تتركها دون رسم الموقف منها في الآن نفسه"(لعبة السرد الخادعة ، ص55). والمشكلة في تلقّي ما سماه الكاتب بـ "الحالة القصصية" أنه يغدو عويصا بعض الشيء بسبب ما تحمله تلك "الحالة" من احتمالات التشكل وخياراته المفتوحة ، ومن انفتاح على التأويل ، بسبب غياب المعنى القار أو المحدد ، إذ يغدو معنى ممتدا ينفتح على ما يمكن للحالة المتحررة من انضباطية "النظام السردي" أن تنتجه وتوغل فيه.

ولكن في مقابل ذلك تفتح "الحالة القصصية" بوابة الخيال وطاقة التخييل أمام القصة بصيغتها الجديدة أكثر من أي وقت مضى ، فالخيال القصصي كان يقتصر على خلق علاقات وأحوال مناظرة للممكن أو الواقعي أو مستفيدة منه على نحو من الانحاء ، أما في كتابة فركوح فيغدو الخيال أكثر حضورا وانفتاحا وأقرب ما يمكن إلى درجات الخيال الشعري الذي يبدع مكوناته ولا ينتقيها أو يناظر بها صورة واقعية موجودة. الخيال هنا بوابة تفتح للكائن سبل الاتصال بذاته وبالآخرين وبالعالم وأشيائه وتفاصيله كما يحس بها وكما يراها أو يتصورها ، الخيال بتعريف فركوح نفسه يغدو "تلك الملكة الرهيفة التي تنتج صورها بناء على خبرات وتجارب سابقة مماثلة للمسموع والمرئي المستفزين أو قريبة منهما ، خبرات وتجارب الحياة بمكوناتها ومناخاتها كافة ، إنما المتسلحة بوعي يمكّن صاحبه من إجراء عمليات كالربط أو التنحية والتوليف".

ولكنه لا يلبث بعد ذلك إلى التوسع في مفهوم الخيال بحيث لا يغدو هناك تمييز بين الخيال القصصي والخيال الشعري ، ودليل ذلك العتبة النصية في المجموعة الأخيرة (حقول الظلال) التي افتتحها بإشارتين من (باشلار) ترتبطان بدور الخيال ومكانته في الإبداع. وتتعلق الإشارة الأولى بالصورة التي احتلت مكانة متزايدة في تجربة فركوح حتى وصلت حدودها القصوى في (حقول الظلال). تقول الإشارة التي يتبناها فركوح عن باشلار :"إن الصورة تصبح وجودا جديدا في لغتي ، تعبر عني بتحويلي أنا إلى ما تعبر عنه. هنا يخلق التعبير الوجود". وأما الإشارة الباشلارية الثانية فتتصل بالمكان الذي يخرج من حدود الموضوعي إلى فضاء المتخيل ، وهو كما يبدو يلبي ميل فركوح إلى هذا النوع من الأمكنة ، وإلى تحويل أمكنته إلى صور شبحية متخيلة بحيث تختفي حدودها أو هويتها الأصلية ليضببها المتخيل بما ينضاف إليها من تأثيرات وصور وانطباعات. تقول إشارة باشلار: "إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ، ذا أبعاد هندسية وحسب ، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط ، بل بكل ما في الخيال من تحيز".

وفي مثل هذا التصور للكتابة قد تغدو "القصة" استعارة سردية أو مجازا يتأرجح بين الشعر والقص ، ومعنى ذلك أن وظيفة اللغة في مثل هذا الحال ليست وظيفة اتصالية أو إبلاغية وإنما هي أبعد من ذلك بكثير ، اللغة في صورتها المجازية تغدو غاية بحد ذاتها لأنها تتحول إلى الوظيفة الجمالية التي تمتع المؤلف والقارئ معا ، والمتعة هنا ليست متوقفة عند حدود المادة السردية أو المحمولة عبر اللغة فقط ، وإنما هي متعة متأتية من طبيعة اللغة نفسها أي بوصفها جزءا أساسيا من مشاغل الكاتب ، ولكنها لن تغدو أيضا محبسه أو سجنه ، إنها هنا تأخذ من الشعر حريته في انطلاق لغته ، وفي الغائية الكامنة في لغته على نحو ذاتي ، ولا تتوقف عند حدود الخاصية القصصية ـ الحكائية التي يغلب على لغتها أن تكون وسيطا وناقلا أكثر منها مآلا أو غاية بحد ذاتها.

تتوسع وظيفة اللغة عندما يغدو العالم بمكوناته وتفاصيله وأشيائه مادة مفتوحة أمام الكاتب ، مادة متاحة لقراءاته واستبصاراته وتأملاته ، وخصوصا حين تعي تلك النظرة أنها نظرة بكر (أو تنوي أن تكون كذلك) ومعنى هذا أنها لا تستند إلى مرجعيات خارج ذات الكاتب ، أي لا تستند إلى فلسفات أو أيدولوجيات محددة تجعل الكاتب مفهوما أو واضحا ، أو أنه جزء من كل أو معبّر عن وعي كلي. الوعي هنا وعي فردي شقي سواء في قراءته لتفاصيل العالم التي لا تتبع السهل أو المتاح ، أو في تلقيه (من جهة القارئ) الذي لا بد أن يكون شقيا هو الآخر لأن جملة الأفكار المسبقة لن تخدم قراءته ولن تجعلها متاحة بل ربما جعلتها أشد غربة وبعدا عن عالم منفرد من نوع عالم إلياس فركوح.

وإذا كان الكاتب قد استبعد المذاهب والأفكار الكبرى كمرجعيات محددة أو مسبقة لوعيه ، وأعلن غير مرة ابتعاده عن الأيدولوجيا ونفى أن يكون له مذهب فلسفي من بين المذاهب المعروفة ، فما الوعي الذي سيغدو بديلا رؤيويا لغياب ما اعتاد عليه القارئ السردي؟ وما الذي سيكون أو ينسج البطانة الفكرية والرؤيوية لكتابة فركوح؟؟ يلجأ الكاتب هنا إلى الوعي الخاص والرؤية المستندة أساسا على اللغة وتقليباتها وأدواتها وإمكانية أن تعينه على الإحاطة بالعالم لا ككل أو حالة من الشمول القابل للفهم والتفسير (فتلك غاية الأديان والفلسفات الكبرى) وإنما هو يحصر العالم فيما يعرفه من خلال خبرته كفرد يعيش قطاعا من العالم ، ولذلك فهو يعرفه من خلال أجزائه ، وهو يقرأه عبر اللغة التي تتمرد على حدودها كي تغدو قادرة على نقل الرؤية الفردية الجديدة التي تعاين الأشياء وترتبها في أنساق غير مألوفة نظرا للمنظور الفردي غير المستند إلى أي شكل من أشكال الوعي الكلي دينيا كان أو إيدولوجيا أو فلسفيا.

مثال: قصة (ما لم تقله الأشجار):

يستوقفنا عنوان القصة المبني على النفي لا الإيجاب ، والوجه الموجب من صيغة العنوان هو: ما قالته الأشجار ، ولكن الكاتب عدل عنها ، رغم ما فيها من تخييل استعاري ، ولكنه مألوف إلى حد ما فلم يقصد الكاتب التشخيص ولا أنسنة الطبيعة ، بل توقف عند منطقة غير رومانسية: "ما لم تقله" الأشجار ، وليس "ما قالته" وفق المنطق الرومانسي. ويذكرنا العنوان أيضا بعنوان قصة أخرى لفركوح من مجموعته: (طيور عمان تحلق منخفضة) هي القصة التي عنوانها: ما لم تورده صحف الجمعة ، فكلتاهما تطمح إلى تقديم مادة هامة لم تقل أو لم ترد في مصادر أخرى ، القصة هنا لها خصوصيتها ولها منطوقها الخاص الذي لا يبدو تعليقا على أمر قيل أو نقل أو حدث ، بل هي ذاتها منبع المصادر أو المعلومات ، ويتراءى وسط ذلك كله مبدأ الاستقلال الذي يهجس به فركوح ويطمح أن يكون من حقوق الكتابة القصصية ومستحقاتها ، فهناك ثقة غامرة بالفن وبالقصة عند فركوح لا من أجل تقديم الحلول أو الخطط وإنما بإمكانية أن تقول وأن تعبر عما لا يمكن أن يقال في مجال أو سياق آخر.

وعندما نقرأ مفتتح القصة تستوقفنا البداية المشهدية حيث يحضر فيها صوت الراوي الذي لا يواري صوت الكاتب تماما ، على الأقل عبر المسحة التأملية التحليلية التي تناسب الكاتب أكثر من الراوي: "لو أن الأشجار تنطق ، لقالت عما رأت ، وروته بحذافيره حتى آخر حركة. لكنها لا تستطيع. لم يعلمها أحد. ظلت أسيرة الخلق الأول الذي لم يله تعديل أو تطوير. بقيت الأشجار تشهد وترى. تغضب وتفرح. إلا أنها بكماء لا تكشف أسرار منتصف الليل. والحديقة مفروشة بأوراقها الميتة ، ومقاعدها الخشبية التي نخرتها الشمس وبرد الشتاءات" الأعمال القصصية ، ص,435

ويجري السرد عبر راو لا نعرف له تصنيفا واضحا بين أنماط الرواة ، فلا هو كلي العلم بصفة كاملة ولا هو راو مشارك ، إذ هو ليس من شخصيات القصة ، إنه أشبه بكاميرا غير محايدة تنقل الداخل والخارج ، وترصد أفعال الحواس والحركات كلها ، تروي وترصد حركة الشبحين (الرجل والمرأة) في الحديقة العامة منتصف الليل ، وتتابع خطواتهما بحثا عن مكان "واقعي" مطابق لما رأته المرأة في حلمها ثم أصيب الرجل بعدوى الحلم فقرر الإسهام في تحويل "الحلم" إلى حقيقة. الحلم هنا يقود الواقع ويؤسس له ، والتحول الفعلي هو من الحلمي إلى الواقعي ، ولكنه ليس إلا الواقع المختلف المتولد عن الحلم في غرابته وجنونه ، وفيضانه عن حدود الواقع الطبيعي الذي تضيق فيه مساحة الفن ، وربما لهذا السبب يتحول في نهاية القصة من شكله الذي بدا واقعيا أو متحققا بشكل ما ، إلى صيغة غرائبية تعيده مجددا إلى ما يقترب من طبيعة المنبع الذي نشأ منه ، أي طبيعة الحلم ومادته اللدنة القابلة للتشكل خارج حدود المنطق الواقعي.

وعلى صعوبة تلخيص هذه القصة يمكن القول إنها في جوهرها تجربة لقاء جنسي بين رجل وامرأة أو بين عاشقين يندمج الحسي والوجداني فيهما معا ، في صورة اندغام كلي للجسد والروح معا ، ترى المرأة حلما تلتقي فيه رجلها في الحديقة العامة ، حيث يقصدانها منتصف الليل. وتنقل القصة تجربة تحقيق الحلم أو السعي إلى تطبيق الحلم على الواقع ، فترصد أجواء الليل المشحون بالخوف والبرد والرغبات. كما تفسح مقطعا لحارس المحكمة والحديقة كأنه مشهد جانبي في اللوحة دون أن يندمج مع المشهد الأساسي أو يتداخل معه. وتتدرج القصة صعودا وتوترا وصولا إلى الالتحام الجنسي في الحديقة التي لم تعد مجرد حديقة ليلية موحشة: "لم يعد للوجود حدود خارج مدار الجسدين المتخففين من أثقال الثياب. لم يعد لبرد كانون أثره عليهما. كانا يهرسان بظهرهما ورق الأشجار المطقطق ، وبتقلباتهما المتشنجة يمتزجان بتربة الأرض التي فاحت رائحتها الخضراء لتدخل في جلدهما. قالت وهي تندغم مع كل عضلة في رجولته وقد طوقتها: إنه حبيبي. قال هو بينما يراها زبدا فائرا إذ سورته بساقيها: إنها مغامرتي حتى الأبد" ص,438 الاندغام الجنسي هنا يغدو مؤثرا في الوجود المحيط كله ، كأنه فعل يصيب الموجودات كلها ولا يتوقف عند حدود الجسدين وحدهما ، وحينما يهدآن يهدأ كل شيء وتعود الأشياء إلى إيقاعها. ولكن القصة لا تنتهي عند حدود تحقيق المغامرة الليلية ، وإنما تعود بنا إلى التوتر من جديد وتنعطف نحو نهاية غرائبية ، ولكنها من منبع الحلم الذي رأته المرأة نفسها. لقد تحرك التمثالان الحجريان من موقعهما على بوابة المحكمة ليفترسا الجسدين الملتحمين ويهرسانهما بالتراب المبتل باللذة لتكتمل المغامرة بالموت. لا تقول لنا القصة إن كان هذا المشهد مشهدا حلميا رأته المرأة مجددا في حلمها إذ غفت في حضن حبيبها ، أو أنها هنا تستعيد الحلم عبر التذكر وتخشى من أن يحدث أو يتحقق ، أو أنه فعلا قد انتقل من شطر الحلم إلى شطر التحقق ؟؟ تضعنا القصة في مساحة من الغموض القصدي الذي يسمح بتعدد القراءات ، فنحن في كل حال أمام فعل غرائبي له دلالته المفتوحة ، إذ يعبر -من جانب - عن خوف المرأة من الحب والجنس في مجتمع يمنعهما ويخاف منهما ، وكأنه نتاج الفرق بين الرغبة والخوف. وببعد آخر يمكن تأويله على أنه عقوبة الواقع ـ المحكمة لمن يطلب الحرية ، عقوبة من يسعى لتحقيق الحلم الممنوع ، وانعكاس للخوف الكامن في المرأة نفسها فهو الشطر الآخر من حلمها بينما الشطر الأول هو شطر الرغبة. ولكنها في القصة تبدو متقبلة للعقاب مرحبة به بعدما حققت الشطر الأول عبر إطلاق الرغبات ، إنه تجاور المركبات المتعارضة: الرغبة والخوف في داخل النفس ، الحرية والكبت ، الحب والموت. ومثل هذه المركبات لا تمر عرضا بل يناسبها تماما التعبير الغرائبي الكابوسي الذي يكشف عن جوانيتها ويعيد النمط البدئي المتكرر: العقوبة التي ينالها البشر إذا ما انتصروا لتحقيق أحلامهم ورغباتهم ، إنها الرغبة الأولى التي دفعت حواء وآدم للأكل من الشجرة المحرمة ، شجرة المعرفة والجنس واللذة ، وهنا كما يبدو تنويع تجريبي آخر على الجذر نفسه من جديد.

د. محمد عبيد الله

* عن الدستور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى