سمر يزبك - غابة امبرتو ايكو

القديس أوغسطين، القارئ العاشق للسرد، والذي تحدث عنه ألبرتو مانغويل في كتابه الشهير بوصفه واحداً من أهم قرّاء التاريخ وأكثرهم حذاقة، كان يتساءل: لماذا يضيع الكتاب المقدس أحياناً في أشياء تافهة، في أوصاف لا قيمة لها كالليل والعطور؟ هل يضّيع الله، وهو الذي ألهم مؤلف الكتاب المقدس، كل هذا الوقت في الحديث عن الشعر الاجتماعي؟
بهذا التساؤل يشدد أمبرتو إيكو على أهمية القراءة في تأويل الوصف المفصل باعتباره رمزاً، أو مجازاً، ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما يحدد طبيعة القراءة ودورها في تحيين المضمر، الغامض، المبهم والمسكوت عنه. ولأنه الروائي قبل أن يكون أحد أبرز السيميائيين في القرن العشرين، فهو يشبّه السرد الروائي بالغابة العملاقة، والمتاهات اللامنتهية من سحر المجاز. وعندما نقرأ نصاً ما، فنحن نتنزه في مجاهيل العتمة والغموض والأسرار: غابة ضخمة، شاسعة وضيقة، مشمسة وعاتمة، ذات خفايا لا يعلمها إلا من يلجها بعين العاشق للمعرفة والفضول. الغابات التي تسكننا ونسكنها نريدها ونبحث فيها عن رغبة دفينة لإيجاد عالم موازٍ للعالم الواقعي، عالم أكثر متعة وكشفاً للمحجوب. فقد تحدث ايكو، في ستّ محاضرات ألقاها في مدينة ييل في الولايات المتحدة الأميركية سنة 1994 (?)، عن النص السردي، وكيفية إنتاجه، ومسائل بنائه وتلقيه وتأويله، وطبيعة خباياه. وفي حديثه ذاك لا يقدّم إيكو وجهة نظر جديدة عن العلاقة مع النص السردي فقط، بل يتعداها إلى إقامة علاقة مغايرة مع القارئ، وعلاقات أكثر تعقيداً والتباساً بين السارد والقارئ، وبين المكاشفة والإبهام. فالنص السردي، لا يشبه الغابة العملاقة بسبب احتمالية العمق والدهشة والغموض فقط، بل لأنّ هنالك حالة ملتبسة تحتمل التأويل القائم على إحالات خاصة بالمعرفة الذاتية، ولأن المعنى قد يحتاج منا الخروج من الغابة إلى العالم الخارجي دون أن نغادر أرض الواقع. وفي تلك الغابة القائمة على قنبلة من الاحتمالات، لا شيء ممنوعاً أمام عملية الخلق في الرحلة العجائبية للنص السردي، ولا شيء غير قابل للتصديق، وكل ما في زوايا هذه الغابة متناقض، يشبه ما نعيشه وفي الوقت نفسه لا يشبهه. يقول ايكو: ، ويتابع في مكان أخر <إنه التخلص من إكراهات الواقعي وقوانينه الصارمة التي لا تستطيع التخلص منها ذاتٌ ترغب في تشكيل الحياة وفق أهواء لا تُرى من خلال السلوك المألوف. فهي لا تقول الحقيقة لكنها لا تكذب، وتصف حدود الحياة التي نحياها ولكنها تنزاح عن المعيش الواقعي>.
وهذه النزهات الستّ، التي يحثنا إيكو على القيام بها، غير مشروطة بأدلة أو قوانين. والنقد يتراجع قليلاً أمام سطوة الدهشة والمجاز واللعب بالمفردات، في غمرة خفايا الغابة المتوحشة والدفينة، هناك بعيداً حيث من الصعب اكتشاف المجهول دون دلالات وإشارات، ودون اقتحام الظلمات إلى بقعة مضيئة يتاح فيها الاستلقاء باتساع شاسع للمفردة، ولجماليات المعنى. ولكن إيكو لايتركنا نمشي لوحدنا ونحن نتبع نزهاته، فله طرائقه بعيدة الاشارة لولوج الغابة، والتجوال داخلها. وهو يفند لنا ضروباً من اللذة الغامضة في استكشاف عوالم السرد المبهمة، فيخيفنا ويفرحنا، ويقدّم عالما مطبق التشاؤم، كلّي الموت، مشبعاً بالفرح اللانهائي لضحك القلوب. وعنده أنّ النص السردي قد يسلم مفاتيح طرقاته بسهولة، وقد يفعل ذلك بصعوبة بالغة، حتى أننا نضطر إلى اللف والدوران في
دروبه الوعرة الشائكة. وهو لذلك قد يدعو إلى طريقة مختلفة في القراءة، تعتمد الإعادة والتكرار، يخبرنا أنها عادة ملازمة له منذ أربعين سنة: <إن تجربة القراءة هذه هي رفيقتي منذ 40 سنة، برهنت لي على غباء هؤلاء الذين يدّعون إن التفكيك المتزايد للنص والغلو في البحث عن قراءة مطلقة له، يقتل سحر هذا النص. فأنا كلما أعدت قراءة هذه الرواية سقطت في هواها كما لو أني أقرأها لأول مرة، على الرغم من أنني أعرف تفاصيلها وربما لهذا السبب أزداد عشقا لها>.
مستويات القراءة
وهذه الجدة في طريقة القراءة تعتمد أولاً وأخيراً على تباين مستوى التأويل، وعلى فكرة الكشف نفسها، أي التوغل في غابة السرد: في كل قراءة يتم كشف جديد. وهو بذلك يمارس طقسا صوفياً من تجليات الإحالات والمرجعيات في كل مستوى مختلف للقراءة، مثل نجوم تتهاوى فجأة في العقل والقلب. وهو ما فعله في روايته الأشهر <اسم الوردة>، من حيث اللعب على وتر التأويل واختلاف المجاز والمعنى، وحيث يعمد إلى أن يكون روائياً لمّاحاً أمام قارئ لماح أيضاً. وهو بذلك متطلب الى أقصى درجات التطلب، ويحثّ قارئه على ضرورة امتلاك الحس العالي والثقافة والمرجعية الحياتية اللازمة كي يتوغل عميقاً وبعيداً في غابته، إلى جانب أهم ما يتطلبه من القارئ قبل السارد: الخيال.
وفي حديثه عن السرعة والتكثيف والإسهاب والإطالة في السرد، يصير صدر إيكو أكثر رحابة عندما يعتقد أن في الإسهاب جمالاً ولذة كما عند مارسيل بروست، وفي التكثيف المباغت لذة من نكهة مختلفة كما في نصوص فرانز كافكا. وهو بذلك يقدّم رؤية معتدلة وأكثر سعة لمفهوم جمال النص وقدرته على التخييل من خلال قيمته النهائية في الذهاب الى الأقصى مع قارئه، واقترانه بالواقع المتخيل أصلاً، والذي لا يختلف عن الواقع الفعلي إلا لأننا نعرف أننا أمام نص من حبر وورق. وهنا تكمن أهمية ما أراد إيكو قوله، أي اختلاط الأدب بالواقع، وتحويل النصوص السردية إلى عوالم تخرج من صفحات الكتاب لتتحول الى عوالم نصادفها في حياتنا الواقعية.
إنها معجزة الأدب والنص السردي، حيث يقوم السارد بتحويل نصه إلى أرض جديدة، ويخلق الحياة مجدداً كما أرادها. ولعل الفرق الكامن قليلاً بينه وبين الله، الكلي المعرفة والشمولي الأزلي، هو أن تفاحة المعرفة نفسها بين يديه، يأكلها ويطعم منها أبناءه الذين يشكلهم في نصه. العالم المتخيل يتحول إلى حقيقة ويصبح جزءاً من حياتنا، وهو ما يسميه إيكو <طفيليات العالم الواقعي> التي يراها أكثر فقراً من العالم الواقعي. هنا يتاح للقارئ أن يعقد ميثاقاً تخييلياً بينه وبين المؤلف، فلا ينفك يمد يده إلى الغابة يستعير منها تأويلات النص السردي، وطرق بنائه وإنتاجه، ويفعل ذلك بلغة روائية تدفع توصيف العالم إلى الانطلاق نحو اللاممكن، ونحو تطويعه. ويمارس إيكو هذا التحليل <المتعوي>، كاشفاً دروباً ضيقة ومستورة في الغابة، يجمّل لنا من خلالها الأدب أكثر مما هو جميل، فتتكشف علينا فضيلته الكبرى في التمتع والإمتاع.
وبعد سنوات على هذه المحاضرات عاد إيكو يذكّرنا بهذا التماس الخفي بين الوقع والمتخيل، في محاضرة ألقاها عام 2000 في مدينة مانتو، وخصصها للحديث عن بعض الوظائف الكبرى للأدب: <هذه الكيانات الناشئة عن الأدب وفيه موجودة بيننا، وهي لم تكن موجودة وماثلة منذ الأزل كما هي (ربما) حال الجذور التربيعية ونظرية فيثاغورس. على أنها من الآن فصاعداً، بعد أن تولدت عن طريق الأدب وتغذت من توظيفاتنا العاطفية الجياشة، باتت ماثلة وموجودة وينبغي علينا أن نأخذها في الحسبان. ولكي نتفادى النقاشات الأنطولوجية (أي ذات المواصفات الوجودية الثابتة)، والميتافيزيقية، فلنقل بأنها موجودة كعادات ثقافية، وحالات اجتماعية. غير أنّ صفة المحرم العالمي التي يحملها سفاح القربى هي أيضا عادة ثقافية، وفكرة، واستعداد. ومع ذلك فإنها امتلكت القوة التي تجعلها تحرك المصائر>.
إنها الغابة ثانية،
ولكن من جديد تتحول إلى دروبنا الأصلية، كما يريد إيكو توصيفها.
  • Like
التفاعلات: أمل الكردفاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى