عزت القمحاوي - وحدهما

عزت القمحاوي.jpg

تخلص من ملابسه، مبقيًا على الفانلة الداخلية وحدها. جلس لاهثًا يطالع في المرآة صورة جانبية للمرأة المتداعية بجواره. شرعت تخلع أقراطها وخواتمها وتضعها فوق البوفيه، فكت أزرار بلوزتها وملّصت ذراعيها منها، ألقت بها على كرسي السفرة وشرعت تبحث عن قفل سوستة الجيبة بينما يتصاعد لهاثها. راهن نفسه على الحد الذي ستصل إليه في عُريّها، وأخذ يراقبها بشغف مقامر أخرج آخر ما تبقى في جيبه.
ـ ستبقى بالقميص، ربما تخلع السروال الداخلي، لكنها لن تُفلت حمالة الصدر، هي تعرف أنني لا أحب ذلك.
رأت تلصصه في عمق المرآة فرمقته بنظرة محايدة. تحركت متساندة على مقاعد المائدة، حتى خرجت تمامًا من المرآة، التفت نحوها فوجدها قريبة بشكل مفاجيء. أخذ يراقب حجلها، حتى استقرت على الكنبة بجواره، وتخلصت من حمالتيها. تطلع إلى المرآة ليرى كيف تبدو صورتهما. للمرة الأولى ينتبه إلى أن العمق الافتراضي للمرآة المستريحة على الحائط المشترك مع الجار، يقع في الشقة لأخرى. “لو كان العمق حقيقيًا، لرأوا الآن ترهل ثدييها”. أعاد التحديق في المرآة مركزًا على صورته. رأى تهدل لغده وبطنه؛ فأحس بالخجل لتحامله عليها.
ـ الحمد لله، مرت الليلة بسلام. كنت أقرأ المعوذات طوال الحفل.
قالت، وقد هدأ لهاثها قليلاً.
ـ الحمد لله.
أجابها، بينما دارت عيناه، تستطلع صورهما مع أولادهما المعلقة على جدران الصالة. أغمض عينيه فرآهم يخرجون من الصور ويتحركون في الشقة. يُلقي كل إطار باثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، أو ستة أفراد بأعمارهم التي كانوا عليها في تلك اللحظة. ازدحمت الصالة بأطفال يطاردون كرة قدم، وآخرين يحملون الجواريف والجرادل البلاستيكية التي كانوا يستخدمونها في بناء القصور على رمال الشاطيء، بعضهم خرجوا من الصور يلعقون الأيس كريم، والبعض يلعبون بالدراجات.
ملأوا الصالة وانتشروا بالممرات والغرفتين الداخليتين والمطبخ. أحس من الضجة أنه عاد إلى قاعة الفرح التي احتملها على مدى خمس ساعات. استيقظ من تهيؤاته مضطربًا وكأنه شعر بوخز نظرتها المستغرقة في تأمل كيس خصيتيه المطروح بين فخذيه كمنديل متجعد.
عندما تزوجها، لم تكن هذه الشقة الصغيرة تخلو من أخوته وأخواته، ولهذا كان عليهما الاحتشام دائمًا، وقبل أن تتفرق سبل الحياة بأشقائه وتتباعد زياراتهم كان الأولاد قد كبروا. “أولادك ذكور، ضعي هذا في اعتبارك” زجرها ذات مرة عندما رأى الطفل يتحسس صدرها وعُنقَها بانتشاء. لم يسمح لها بالتجول بقميص النوم أو ارتداء المكشوف في الصالة “جسمك فاتن يا حبيبتي وأولادك ذكور”. لم يكن يجاملها، كان يعرف أن جسمها فاتن، ولم يتهمها بتعمد التغنج. جسمها يدرك بنفسه أنه فاتن، وكان يشتهي رؤية الإعجاب في عيون الآخرين، يتكلم رغمًا عنها، وتصل فصاحته إلى النساء والرجال على السواء.
عندما تعبت من غيرته أراحته بارتداء السابغ، لكنها لم تتهدم تحت الثوب الفضفاض أو تجر قدميها عندما تمشي. كانت تتحرك برشاقة وخفة حصان متفاخر. وكان صدرها قمة عالية ينكسر فوقها موج القماش، تكاد الحلمتان تخترقان النسيج فتنبهان العين إلى صلابة النهدين المرفوعين بشمم، يلتفتان مع رأسها عندما تخاطب أحدهم. وكان تلعثم الرجال عندما يحدقون إلى صدرها يُصيبه بمرارة مغلفة بالسكر. يقول مسترضيًا نفسه “هناك بعد ما لم يره أو يلمسه غيري”.
ـ أغلقتِ جيدًا؟
سألها؛ فأومأت نحو الباب تنبهه إلى وجود المفتاح في فتحته من الداخل. كان إغلاق الباب مهمته، يدير المفتاح منصتًا إلى التكتين، ويتركه في مكانه ليلغي إمكانية الفتح من الخارج. منذ سنوات تحاول إقناعه برفع المفتاح حتى يتمكن الأولاد من الدخول بسهولة إذا أصابهما مكروه، لكنه يرفض بإصرار.
لم يكن الخوف من اللصوص هاجسه، لكنها عادته التي اكتسبها من سنوات زواجهما الأولى. كانا يتدبران بصعوبة مناسبات للخلوة. يمتنعان عن الخروج إلى العمل في صباحات لا يتوقعها الآخرون، وأثناء العطلة المدرسية يدفعان بالأولاد إلى حديقة أو يتركونهما عند أحد الأعمام أو العمات. كانا يبتهجان بمجرد إغلاق باب الشقة عليهما وحدهما. يبدآن متعة التجول بحرية في الشقة كلها، لا يضطران إلى إغلاق باب غرفتهما أو التحفظ عند الصراخ.
كانت بهجته الكبرى في الاستحمام معها. يتبختران عاريين إلى الحمام، ينظر كل منهما إلى نفسه كأنه يتعرف على أعضائه للمرة الأولى، يرتد بصره إلى جسد الآخر، يتفحصه بانتشاء. تقف في البانيو تنتظر مبادرته. يضبط حرارة الماء، يسلط الرشاش عليها، ثم يبدأ في تصبينها. يطوق رقبتها وتنزلق راحتا يديه على نحرها، تصعدان فوق موجة النهدين ثم تنحدران لتتذوقا استواء البطن، يفتح يديه مثل فكين متقابلين، يطبقهما على خصرها، يضغط في المكان المستدق كي يشابك أطراف أصابعه، ثم يوسع بين راحتيه كي يحتوي بطنها، يتلمس الاتساع نزولاً إلى الحوض، ثم تصعد الكفان مجددًا ببطء لتمسكا بالخصر الدقيق وتلمسا الاتساع حتى القفص الصدري. بقفزة تتسلق يداه نهديها، تحتويانهما، يمد إصبعي الوسطى والسبّابة في كل يد كطرفي مقص يحبس بينهما الحلمتين. ويستريح على هذا الوضع مغمضًا عينيه؛ يتوهم أنه نحت جسدها للتو. يسلط عليها الماء مجددًا حتى تنجلي من تحت الصابون، ثم ينفض عن يديه الرغوة، مثل نحّات يتخلص من بودرة الحجر.
لم تكن تثني على جسده إلا مواربة “خلقنا لبعضنا بالمقاس” تقول بينما تشب قليلاً على أصابعها، لتصبح شفتاها على مستوى شفتيه، يسكن منتظرًا القبلة فتتراجع ملقية برأسها للوراء، بينما تدفعه بضربة من نهديها في صدره. ويأتي دورها في تغسيله، تحاكي حركاته بتلمس تضارريس جسمه. تتولى تصبينه، تتحسس حرارة الماء على يدها قبل أن تُسلِّطه عليه. عندما ينتهيان يرتديان البرنسين، ويجلسان في الصالة سعيدين وكأنهما امتلكا فضاء حديقة. يعد كوبين من الشاي بالنعناع ويجلسان أمام التليفزيون، يتطلع كل منهما إلى الآخر مترقبًا حركة توسع مساحة عرّيه التي قد تكشف عن حاجة الأعضاء إلى جولة أخرى.
بعد الطفل الثاني، صار جسمها أكثر امتلاء، وظهر أثر جرح الولادة مع موجات بيضاء فوق البطن. لكنها لم تكن وحدها التي تكبر، كانت عضلات بطنه تتراخى، لكنه كان حريصًا على شفط بطنه ليخفي كرشه. حاول في البداية القضاء عليه، لكنه لم يستطع فصارت خطته المحافظة على حجمه. كان الآخرون حولهما يكبرون كذلك. وقياسًا على الأخريات من جيلها ظلت هي الأكثر تماسكًا، وظل يغار عليها.
مد يده يجذب الفانلة إلى أسفل كي يُخفي ما بين فخذيه، ثم قام إلى زر تشغيل مروحة السقف، وعاد إلى كرسيه، أخذ يتأمل تسارع المروحة، بينما بادرته بالسؤال:
ـ أرأيت أم العروس؟
ـ ما لها؟
ـ فستانها المحزَّق، ورقصها طوال الليل.
لم يعلق، وواصل التحديق إلى أعلى. لمح البقع المتقشرة في الكلس ووسخ الذباب في السقف وفوق بلتكانات الستائر وريشات المروحة وعمودها الحامل. عادت تسأل:
ـ أليست في سننا؟
ـ كيف في سننا؟! العروس ابنتها الكبرى، والعريس أصغر أبنائنا.
انتبه إلى العنف في صوته فاستحى أن تظنه مشتهيًا حماة ابنه. نظر في وجهها معتذرًا. هزت رأسها ولم تنبس. ظلت نظرته متشبثة بها، لمح الورم الذي يُضَخِّم كاحليها بما لا يتناسب مع حجم القدمين. غمره إحساس بالشفقة عليها. زحف حتى التصق بها. تمنى لو كان بمقدوره النزول وتقبيل ساقيها كما كان يفعل، لكنه اكتفى بالتلاصق، والتربيت على كاحلها بكعبه.
عندما زادت عليهما تكاليف الحياة، لم يكن يتصور أنها ستتحول بسهولة إلى أم مثل ملايين الأمهات اللائي ينذرن أنفسهن للأولاد. توقفت عن الإنفاق على زينتها، فرضت تقشفًا في الطعام ظهرت نتائجه على جسمها هي بالذات، ولم تعد ضرورات التعليم تترك فرصة للنزهة. أخذا يتداعيان دون أن تخلو عيونهما من بريق، لا ينبع من جسديهما المنطفئين، بل من قوائم نجاح الأولاد بالمدارس آخر كل عام.
واصلت الدهون تراكمها على جسمها، بينما اتجه جسمه إلى النحافة، وخرجت ترهلات بطنه عن السيطرة. وسّع الكرش فضاءه في قمصانه، وصارت مؤخرتها تترجرج تحت الملابس الفضفاضة، ومع ذلك ظلا يتدبران زيارات الرغبة المتباعدة في ظلام الغرفة محكمة الإغلاق.
منذ سنوات طويلة تباعدا تمامًا، لكنهما استطاعا أن يفعلاها احتفالاً بزواج الولدين الأول والثاني. كانا يعودان من الحفل بتصميم ساخر على محاكاة العروسين. في ليلة زفاف الثالث عادا متخاصمين، وفي اليوم التالي استأنفا حياتهما دون ضغينة. اعتصم كل منهما بالنصف الذي يخصه من السرير. ولم تعد تطلب منه أن يُغَمي عينيه عندما تغير ملابسها؛ صار حياديًا، تعبرها عيناه بينما يواصل هو الآخر خلع ملابسه دون أن يقطع حديثه حول مشكلة قابلته في العمل أو الشارع.
وشيئًا فشيئًا صار يتخفى عند تغيير ملابسه، كان ينحني ملموما على نفسه، متحاشيًا ظهور مؤخرته في المرآة، بعد أن فقدت حشوتها الدهنية، وصار جلدها الرقيق مجعدًا مثل قشرة حبة خوخ ذابلة. توقع أن تتخفى مثله من تلقاء ذاتها دون أن يجرحها بإشاحة وجهه أو أن يضطر إلى الطلب الصريح. ولكنها ظلت تتعرى على سجيتها. تعود من حر الشارع لاهثة، تدخل إلى الغرفة، ترد الباب، تشعل النور، فينتبه إلى عودتها، وفي لحظة يسقط كل ما ترتديه على الأرض، تُخلِص قدميها، وتمضي إلى الدولاب، تلتقط عباءة منزلية وترتديها على اللحم، وتمضي إلى المطبخ.
كان الأولاد ينبهونها بدعابة، أو بإشاحة الوجوه في اتجاه آخر، لكنها كانت تعتقد أن ثديين يتدليان حتى السرة فقدا خصوصيتهما ومنحاها الحرية التي تمنتها طوال شبابها.
ـ صرنا وحدنا مرة أخرى.
قالت، عندما أطال التحديق فيها.
ـ نعم، عدنا اثنين كما بدأنا، لكننا الآن غير قابلين للزيادة.
قال، واستند براحته على فخذها، ونهض.
مد لها يده يساعدها على الوقوف، تساندا وسارا باتجاه الغرفة.


.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* عن مجموعة “السماء على نحو وشيك”

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى