يوسف رحايمي - إغواء المقدمات وفتنة التصدير

لمقدمات الأشياء فلسفة عميقة يتخذها الكاتب أو الشاعر أو الأديب في افتتاح نصه أو قصيدته أو أثره، بها يستدرج قارئه لفتح عوالم المقروء، ومن خلالها ينصبُ شراكه لكل قارئ على امتداد الزمن، فمنهم من يقع تحت إغوائها، فتهم به بعد أنْ يَهم بها فتغلقُ عليه أبوابها فلا يخرج منها إلا أنْ يرى برهان الخواتيم، ومنهم من يتسلح بعدة التأويل حيث يتخذ منها مسافة أمان، يُعاين مساراتها ويقلّب الأمر فيها هو فوق ربوة العنوان.
وليس هذا الصنيع المتعمد فكرة جديدة، بل هو فعل ضاربٌ في القِدم له مقاصده وغاياته، فمنذ الجاهلية وحتى عصر الإسلام استعملت المقدمات والتصادير في الرسائل ضمن الغزوات، وقد كانت جملة «باسْمك اللهم» تحكم فلسفة الرسائل بين القبائل المتنازعة، فيرى بعضهم أن رسائل السِلم كانت تُفتتَح في العُرف الجاهلي بهذه الجملة علامة دالة على كون الـمُرسل يعبر عن حالة رضاء تجاه المرسل إليه، في حين تعبر الرسائل الخالية من جملة «باسمك اللهم» عن معنى المشاحنة والحرب، فقد وصلنا أن قبائل العرب في حالة الغزو تترك صدور الرسائل عارية تعبيراً عن الغضب وإنذارا ببدء الحرب. وقد كان لهذا أثره في ما بعد على تصديرات السور في النص القرآني بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» علامة على الابتداء في الشيء والتبرك به، حيث رأى بعضهم أن خلو سورة براءة من افتتاح «بسم الله الرحمن الرحيم» جاء نتيجة لمخالفة اليهود للميثاق والعهد الذي أبرم مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون القرآن قد راعى ثقافة العرب في «برتوكول» ضرب الميثاق. وقد تواصلت هذه التصادير والافتتاحات إلى يومنا هذا ضمن طقوس معينة، كالبسملة في بدء الأكل أو افتتاح شيء معين.
ليست هذه اللمحة التاريخية والتأصيلية مربط الفرس في فلسفة المقدمات وإغوائها وإنْ كانت ضرورية، بل المهم أن هذا الزخم من المقدمات يُثقل كاهل الكتاب، ويمارس في لغة علم الهرمينوطيقا نوعاً من القهر التأويلي والتوجيه الدلالي، حيث يوجه – في الأغلب الأعم- القارئ نحو فخاخ تأويلية معينة، فكثير من المؤلفين اليوم يزينون كتبهم بمقدمات قد تخطها أيديهم، وقد يكتبها لهم آخرون عربون وفاء، والمتعارف عليه أن المؤلف يختار بحنكة من يقدم له حتى يمارس هذا الاسم سلطة في واقع القارئ، ويعطي انطباعاً عن طبيعة الشيء المكتوب وإنْ لم يُقرأ بعدُ. وضمن هذا تكون المقدمات ضرباً من توجيه العقول، ولفت النظر إلى رؤى دون أخرى، ومسارات بعينها. ولسنا بهذا التحليل موضع اتهام بقدر ما هي التفاتة إلى صنيع يكثر استعماله في واقعنا اليوم، حيث تحولت الكتابة العلمية إلى ضرْب من التبهرج واستعراض عضلات ضمن المقدمة، أضف إليها ما تحمله أسماء الكتاب من سلطة على المتقبل.
وضمن هذا تستوقفنا ظاهرة غريبة في المجتمعات العربية اليوم أشار إليها عصمت سيف الدولة منذ الثمانينيات في كتابه «إعدام سجان»، مفادها توافد القراء العرب على الكتابات الغربية توافداً غريباً يقف عند حدود ضخامة الأسماء وأجراسها الموسيقية على شفاه الضعفاء من بني جلدتنا. إننا أمام زمن مُستعار نرى فيه ثقافة الغرب هي الملاذ الوحيد وعلينا السير وراء هذا الركب مهما كان. وليس أدل على هرولة القارئ العربي واندفاعه في مباشرة النصوص الأدبية والفلسفية والحضارية وسقوطه في فخ العناوين والمقدمات والتصادير، ما حصل لكثير من الكتاب من تكفير وشتم وصل إلى حد التهديد بالقتل، فغير بعيد من تاريخ هذه السطور أحدث كتاب «صحيح البخاري نهاية أسطورة» ضجة كبرى في الواقع المغربي خاصة والعربي عامة، فكُفّر الكاتب من قبل البعض، وهم مازالوا على أعتاب العنوان. ويعود بنا هذا الحدث إلى مقتل فرج فودة بسبب كتابه، وتكفير نصر حامد أبو زيد بسب أفكاره. إذن ليس على العربي حرج أن يتزود بالمقدمات والأسماء ويصوم عن المتون فيكفه ذلك زادٌ، وتكفه ضخامة الأسماء وتوقيع المقدمين ورصانة بعض السطور في مستهل كل كتاب، يكفه إذن إغواء المقدمات وسلطة الأسماء.
إن إغواء المقدمات والأسماء وفتنة التصادير التي تتلقفك وأنت على مشارف العنوان ظاهرةٌ تكاد تكون عربية بالأساس، وهذا قد يعود إلى العقل العربي الذي استأنس بثقافة القيل وتبجيل الأسماء وعناوينها على المتون، وما تحمل من زاد معرفي وثقافي. فيكفي اليوم أنْ تصدر كتابك بعنوان جيد يستهوي قارئك مع مقدمة طريفة لكاتب معروف حتى يجد كتابك حظه من الدراسة، وحتى يرى نور المبيعات على رفوف المكاتب. إن لعبة المقدمات والتصادير بدت في نظرنا مكشوفة عند أهل التأويل، وبدا تأثيرها واضحا في توجيه القارئ نحو مزالق تأويلية معينة، وعليه فإننا نستأنس بكثير من القراءات التأويلية التي تشير إلى هذا الفعل وتحذر من أدواره السلبية.
وإلا فماذا نحن فاعلون؟
أظن أن الإجابة عن هذا السؤال بيد القارئ الذي أصبو أن يكون في قراءته أكثر جرأة في نزع لبوس المقدمات والعناوين والأسماء والمضي نحو محتوى النصوص وقضاياها ومصافحة المعاني مصافحة مباشرة تنبئ عن التقاء القارئ بمصادر المعرفة الحقيقية والتأسيس لثقافة الرغبة لا ثقافة الإكراه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى