سمير الفيل - وميض تلك الجبهة.. ( رواية ) الفصل الاول

عن وقائع حقيقية للكتيبة 18 مشاه خلال حرب أكتوبر والسنوات التالية في القطاع الأوسط من الجبهة.
………

إهداء
إلى شادي وهيثم ومحمد .


كان لا بد أن أجلس معكم . أحملكم بين ذراعي لكن وجوه المحاربين المرهقة اختطفتني . فرحت أستعيد ملامحها, وأنصت لحديث لم تبح به الشفاه .
………




تلك الأيام المليئة بالعزة والألم. صعود إلى سفوح دامية. حين يهبط الليل كان علىّ أن أسترجع تلك الوجوه, أنا أسألها مطرقة لا تنبس بكلمة:
هل اغتالت الحرب أرواحكم ؟
الأرض تعبق برائحة أنفاسهم, أما قطرات الندى فمعلقة على أزهار الليمون. والأشواك لها - وحدها - وخز مؤلم. لعلها تملك فضيلة البوح.
في ساحة القتال, تغويك الأسلحة بضجيجها. تهتك الأستار غير مبالية بأية حرمة. حين تخلو لنفسك ستبكي بضراوة. هي الحرب.
لا تمسح دموعك بمنديل مطرز من ذكريات الحبيبة .
دع الكون يرى البلل على وجنتيك .
تلك الأجساد التي تلاشت من يحكي عنها ؟
مضرجة بالدم والأنين .
لها تلك الصفحات .
إنه إمتنان - لم يمض وقته - فهي لم تظفر بعد بكلمة وداع .
بهدوء مضت... لا تخفف عني يا إلهي. أريد أن تكون كتابتي تعباً.
فقط امنحني القوة لأن يكون وداعي بنفس قدر ألمهم .


( 1 )

لم أحارب. لم أحارب قط. وجدتني فجأة وسط مجموعة من المقاتلين الذين يحملون في دمائهم همهمات القذائف المكبوتة الغاضبة. وجوه تحمل مرارة الفقد وحقيقة أنها رأت ما لا يمكن أن يُرى إلا في ميدان مشتعل بالبارود والشظايا المتطايرة .
لم يغفر لي مشواري اللاهث, ولا حنجرتي التي تطقطق من العطش, ولا أصابعي المهترئة داخل البيادة الثقيلة سؤالي الساذج عن ك 18 .
عند انحدار المدق الإسفلتي كانت بقايا علب كبريتهم وسجائرهم, بل قارورات العطر متناثرة هنا وهناك، وسط فوضى الأسلاك الشائكة, وفوارغ القذائف في علبها بلون زيتي غامق مع استدارة الحروف المطبوعة باللون الفضي المتغطرس.
حين رأيت أسقف القرميد الأحمر عاد بي الذهن إلى طفولتي التعسة, وليال من الحرمان مضببة وغير محددة. أسقف ملونة، بها تعرجات محسوبة. حدبات حظائر الطيران المهجورة, وحدائق تكسو زهورها المتربة أوراقاً مهملة, وبقايا لفائف الجبس المنزوعة عن أذرع وسيقان عساكر مصابين .
لعله مطار الدفرسوار القديم. قلت لنفسي وأنا أغذ السير بحثاً عن وحدتي العسكرية من خلفي محمد عباس يجر ساقيه متعباً, يزفر والعرق يغسل وجهه, ويبلل سترته واستدارة العنق. أما أحمد طاهر فقد كان يتقدمني خطوات قلائل. يسألني هل أتقدم إلى اليسار أم إلى اليمين ؟
أشير بيدي كيفما اتفق: كل الطرق تؤدي إلى هناك !
تنشق الأرض عن عربة تعيين متهالكة, تثير بإطاراتها الضخمة زوبعة من عفار, قبل أن تتخطانا. أشير لها بيدي. أسأل السائق في استعطاف: الكتيبة 18مشاة .
قبل أن يتوقف تماماً ينظر إلينا ملياً, أحمد طاهر الشربتالي في المقدمة يحمل المخلاة، ويدندن بأغنية محمد عبد الوهاب القديمة " ياوابور قوللي رايح على فين؟ ". محمد عباس كعادته تنفر العروق من رقبته الغليظة, دونما سبب يسب الدنيا والأيام السوداء, والحر, وأوراق الأشجار الجافة التي تخشخش تحت أقدامه المنهكة .
وحدي كنت اعرف أن المشوار صعب وطويل. الأيام التي علينا أن نسخط منها ، وعليها لم تأت بعد .
علينا أن ندخر اللعنات فسوف نحتاجها لأوقات أصعب وأقسى. هل كنت أقرأ صفحات مطوية بأعين فاحصة ثاقبة أنارتها قدرة خاصة على استبطان الكامن والخبيء ؟
كما لو كنت قد كشفت سر المكان: الموقع قريب. أليس كذلك ؟
حرك رأسه، وشاربه الكث يهتز مع ضحكته المجلجلة. أشار لنا بعد أن أوقف العربة كي نصعد بسرعة. حذرنا من منحنيات الطريق الوعر.
سألنا عن سجائر. لم أكن أدخن. مد محمد عباس يده - وكان حريقة سجائر - بالعلبة. انتزع سيجارتين, وضع واحدة في فمه, والأخرى علقها خلف أذنه. التصقنا بالمكعبات, فلسعتنا سخونتها. وضعنا المِخل خلف ظهورنا كحواجز تقينا لسع الطبيخ الميري "اليمك"!
ارتجت العربة في سيرها. سألنا سؤالاً تقليدياً حفظناه خلال أشهرنا القليلة الفائتة، وظل يطاردنا فور تجنيدنا: مؤهلات أم عادة؟
أخبره محمد عباس أنه حلواني. وسعل سعالاً متصلاً ارتج له كيانه, رمى بالسيجارة قبل أن يأتي عليها.

ابتسم الشربتالي وهو يخبره أنه حاصل على ليسانس الحقوق. ضحك السائق وهو يهز كتفيه بلا مبالاة: أنصحك أن تدفن شهادة المحاماة هذه في أول حفرة تقابلها. إنسها تماماً. ولا ترجع لها إلا بعد أن ينقضي جيشك.
لم يسألني عن مهنتي. هل النظارة الطبية هي السبب أم أنه سيعاود السؤال؟
اعتدنا أن نقطع وقتنا في الكلام. الكلام وحده يملأ الفراغ الهائل. قلت له:
ألا تريد أن تعرف مهنتي .
ضحك وهو يشير إلى النظار: مدرس أو مهندس أو محاسب!
قلت وأنا أخفي اضطرابي: تخمينك صحيح. أنا مدرس.
كانت ثمة بيوت متهالكة من الطوب اللبِن تتساند في قدم وابتئاس على البعد, بينما المساحات الخضراء قد بدأت في الاتساع وفرض نفوذها.
عن البلاد سألنا. أخبره الشربتالي أنه من الزقازيق، وضرب محمد عباس على صدره وهو يعرفه ببلده: المنصورة. قلت كالمنوم: أنا من دمياط.
رحب بنا: أحسن ناس. مد يده بزمزمية صغيرة ممتلئة بالماء. شربنا. كدنا نغسل وجوهنا المتربة. التفت ناحيتنا من نافذة العربة، ومد يده يستعيدها.
قال بلهجة لا تخلو من حزن: أحمدوا الله أنكم لم تدخلوا الحرب.
أشار بيده نحو تبة تبرز من أرضيتها بعض أسياخ الحديد, وألواح الصاج الصدئة, بل سترات عسكرية ذهبت الشمس بلونها فبدت كمزق لا يمكن تحديد كنهها: هنا عجنت قذيفة الألف رطل سيارة عبد الخالق الموجي. وكانت تحمل إمدادات للجبهة.
شهقنا ونحن ننظر للخوذ المقلوبة مثقوبة فوق العصي. لم ننبس بكلمة بعدها، استمرت السيارة ترتج ونحن نزيد التصاقاً بالمخِل !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى