محمد المحسن - الإيروتيكية في قصيدة: أسرجت غيمتي إلى محراب عشقك.. للشاعرة التونسية أمنة هادية

يقول ستيفن سبندر(1):” أعظم الشعر هو ما يكتبه شخصٌ يجهد نفسه ليذهب إلى أبعد مما يمكن ” ففي الغالب لا يمكن أن يكون الشعر شعراً إلا إذا كان مدعوماً بوعي بواقع العالم ونظرة معينة للأشياء المحيطة بنا، فلا بد من الاكتشاف والبحث عن لغة جديدة تحاكي الواقع الملموس فالشعر عند الشاعر سفيان رجب هو مجازفة وتجريب و كسر للثبات والجمود في قصائد يمكن تصنيفها بقصائد تجريبية تخلق عوالم أخرى يتنفس عطرها وتعطر ما حولها لما تحمله من رؤية إبداعية و عمق شعري.
ولكن السؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
ما معنى أن يتحول الشعر الى رحلة شهوانية ايروتيكية، متناقضا مع مفهوم “طهر” القصيدة، ومع وظيفته التربوية التي يراها البعض من صفاته. ولماذا يوغل شعراء في تضمين النص الشعري الحالم بأفكار شهوانية تضع فوق الجسد الانثوي بصمات الاصابع الذكورية، أو قل براثنها؟. بل إن شعراء مثل تيديسكو في ديوانه “ذاك القلب العاري ” بدا (حسب تعبيره هو) عازفا شهوانيا على جسد أمراة، محولا تفاصيل جسد أبيض كالثلج بهضابه وجباله ووديانه الى ساحة لرحلة شهوانية، ذلك أن تيديسكو ينظر الى التاريخ على أنه مجرد عملية هدم وبناء أيروتيكية.
وتراوح الجنس كموضوع إباحي على درجات نلمحها في كتابات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإدوار الخراط كاشفا عن أزمة جنس في المجتمع، واستخدم شعراء التستر والترميز بديلا للطرح المباشر تلافيا لاشكالات اجتماعية.
لنقرأ معا هذا القصيدة للشاعرة التونسية المتميزة أمنة هادية التي إخترقت -بجسارة إبداعية- المسكوت عنه إنتصارا للشعر في تجلياته الخلاقة بمنأى عن -تربيات الوصاية-و”الأدب الخجول”:
كرهتُ فيكَ الرعونة
وصبيانيات الطفولة
كرهت فيكَ التراجع
في صبوة تتتابع
كرهت فيكَ الرّجولة
إنتصاب قضيب طبعا فحولة
كرهتُ معك الشوارع
والمقاهي والطوابع
كرهت الثياب التي انتقيت
في سجن خيوطها ارتميت
كرهت اللحظات التي معك
أتنفّس هوى حبّك عشق
كرهت الكلام الذي كان هباء
والنظرة الأولى ورجع اللقاء
كرهت نفسي لأنك منّي
ففي روحي تسري وفي دمي تهذي
كرهت مسامات جلدي
تسرّبت فيها عُنوة تدري
كرهت شعري الذي لَخبطت
ونهدي البِكْر منه شبعت
كرهت أدغالي تضاريسي الشريدة
كبّلتها يوما وكانت عتيدة
كرهت خُطايا إليكَ سارت
ودقّات قلبي التي تتالت
كرهت الوجوه التي رأيت
تُذكّرني بكَ وإن نسيت
كرهت السّماء والمحيطات
وكلّ البحار والأغنيات
كرهت النجوم ولون الغيوم
لأنك وهم سراب يحوم
كرهت شفتي التي عصرت
ومن نبع عسلي نهلت
2 / 2
كرهت السّكر في قهوتي تُذيب
وأنت القريب مني بعيد
كرهت اللون الأزرق في ثيابك
وعطر عرقكَ في أنفي ثابت
كرهت الهدايا قوارير العطور
وتتويجك لي بدر البدور
كرهتُ فحيح الثعبان يسري
في سمّه يغتسلُ رسمي
كرهت قصص الحبّ العتيقة
أغاني العشق هل كانت حقيقة
كرهت القصائد التي كتبت
وتمثالك الذي بيدي نحتت
كرهتُ كلّ ما قيل معك
لأنك ضيّعت ما تمتلك
ولعل نزار قباني في العصر الحديث استطاع تأسيس نموذج لكتابة بورنوغرافية تتناول شهوة متبادلة بين ذكر وأنثى وما يترتب على ذلك من إسقاطات اجتماعية، وغالبا ما أظهر قلقا من أن تنهش ذكور القبيلة تلال الجسد الانثوي، وعد النهد رمزا لأنوثة صارخة، وغالبا ما اطلق عليه صفات الأرنب والتلة ومركز اللذة، وكانت حروب نزار الشعرية تدور في غرف النوم مؤمنا ان لجسد المرأة (قرونا استشعارية).. وانه لا بد في الجنس من الخروج على النص.. و إلا تحولت أجساد النساء إلى جرائد شعبية، مؤمنا أن جسد المرأة يؤسس شيئاً، وأنه ليس صحيحاً أن جسدها ساذج.. و نصف أمي.. على حد تعبيره. وفي كل ذلك حاول نزار خلق معادلة شعرية تعالج الاخذ والعطاء الشهوانيين، رغم أن كثيرين كانوا ينظرون إليه على أنه أرستقراطي مترف ومنغمس في اللذة في مجتمعات أحوج ما تكون الى الخبز.
على ان الشاعرة اللبنانية جمانة حداد ترى في حديثها ل (إيلاف)… أن المعيار الأول والأخير لتقويم اي قصيدة قيمتُها الأدبية، لا إيروتيكيتها ولا تصوفّها ولا جرأتها ولا “براءتها” الخ… تلك تجليات فحسب، وهي إما تكون تجليات موهبةٍ حقيقية، وإما تكون فقاعات لغوية. يحكي البعض عن “طهر” القصيدة وفضيلتها، وكأن للشعر مهمّة تربوية!.
ويصف محمود درويش نفسه بانه شاعر محتشم لكن يحبّ الشعر الإيروسي ويقول… أفضل الإيروسية على الإباحية حتى من الناحية الشهوانية‏.. ‏ العمل الإيروسي يخدم أكثر من العمل الإباحي‏. لكنهناك شعراء عرب يتوسعون في الأوصاف الجنسية ويدونون تجاربهم الجنسية كقصائد. لكن جمانة حداد لها رأي شجاع في الموضوع فهي تقول…
وأنا إذ أكتبُ عن جسدي واستيهاماتي لا أفعل ذلك لكي أستعرض عضلات “جرأتي”، بل سعياً منّي الى ان أكون أمينة لما اعيشه في داخلي ولما أهجس به. جسدي جزء أساسي منّي ومن روحي وعقلي، وهو حقل تجاربي وميدان عيشي للحياة. هو الأرض التي تستقبل في رحم ترابها، الشمس والقمر والمطر والريح والنهر والعصافير والناس. وحتى عندما أكتب، أشعر أنني أكتب بجسدي وعليه، وأن كلماتي تنفجر من مسامي وتنحفر على جلدي نفسه.
ويقترب الشاعر عدنان الصائغ في قصائده من جمل ايروتيكية، دون ان يكون ذلك موضوعا لقصيدة متكاملة، فيصف النساءَ الجميلاتِ… بانهن تكرارُ آهْ… ويقول عن امراة..
تمارسُ المضاجعةَ
كما لو أنها تحفظها عن ظهرِ قلبٍ.
وربما نزع شعراء كثيرون الى الافصاح عن طقوس غرف النوم مع الزوجات أو العشيقات، ليصبح الأمر سرا لابأس من أن يطلع عليه كثيرون عبر القصائد.
لكن ادونيس في مجموعته “المسرحِ والمرايا” يبتكر للانوثة صور ايروتيكية حداثية موغلة في الرمزية.
في حين يقترب الأخطل الصغير كثيرا من رسم العلاقة الجسدية المباشرة مع عشيقاته موغلا في نعت تفاصيل الجسد الانثوي بصفات الطبيعة، فجسدها هو هضبة وتلة ونهدها رمانة وشفتاها خطان احمران على كاس، وشهوتها حصان جامح.
رذاذ الرجوله يتطاير بين شهوات النساء
ولاريب في أن الكثير من شعراء الحداثة استلهموا الكثير من أفكار ريتسوس الايروتيكية، على أن الجسد الانثوي العربي لدى شعرائنا جسدك مرئي قابل للّمس،وتبدو القصيدة
لدى شعراء كثيرين تعبير عن جوع جنسي.. بينما الايروتيكية الاوروبية وصف لجنس متوفر..
على سبيل الخاتمة:
وعوداً إلى تجربة اللذة في الكتابة من دون اقنعة صوفية أو غيرها، فأظن ان انجازها رهين بوعي مغاير الى حد بعيد، وعي يشتبك بضراوة مع اشياء العالم، ويهجر الوعي المشاع المقيم على افكار مريحة، لكي يذهب الى المناطق الأكثر توهجاً. ان قصيدة حسية أي إيروتيكية ستصطدم بالضرورة مع الوعي المسترخي الـمُستند الى نظام تعاطٍ جماعي، مقبولٍ للغة نفسها. ان تفجُّرَ اللغةِ يحتاج الى موضوع متفجر منظور اليه من زوايا منسية أو مهجورة. لكم أراد الوعي العربي الراهن ان يطمس الجسد، أن يقلل من شأن الرغبة الجنسية أو يدجنها من دون جدوى، وهو يعلن تعارضاً بيِّناً مع التعاطيات الخفية للرجال والنساء العرب المقالة اليوم عبر الأنترنيت في إطار تعبيرات فجة لكنها دالة لجهة تفنيدها للحشمة الإجتماعية المنافقة..
مكانية تأثر الشعراء جميعاً من الأجيال كلها بعضهم ببعض
لستُ الوحيد من أشار الى النقطة الأخيرة، وقد سبقني آخرون. هذا التأثر طبيعي وموضوعي طالما ان حركة العالم لا تذهب بإتجاه واحد، وإنما هي متعددة الاتجاهات. سوى ان مقاطعة قراءة (ثمة الحرس…) المريرة تبرهن بعد هذه السنوات على صواب التفكير بثيمات أخرى غير الثيمات المستقرة. لقد أثرت في روحي بعمق تلك المقاطعة وساءلتني، وعبرها تساءلتُ عن المسكوت عنه، عن المطمور الذي يراد طمسه نهائياً في الحساسية الإنسانية لدى العرب.
انتهت -هذه المقاربة- باردة-في تقديري- لكن قصيدة أمنة هادية بقيت ساخنة..
وتبقى قراءة المتلقي لقصيدة الشاعرة التونسية أمنة هادية أكثر وعيا..وشمولا..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى