الجنس في الثقافة العربية الجنس في الثقافة العربية : مليكة فريحي - أبو نواس والتغزل بالمذكر ، من مظاهر عولمة الشعر العباسي، التغزل بالمذكر.. أبو نواس أنموذجا

خطا النَّظم في العصر العباسي خطوة كبيرة حيث استطاع مواكبة العصر، فازدهر المديح بفعل ازدهار الحياة الاقتصادية وتطور الحياة الاجتماعية، مع ميل الخلفاء إلى الترف وحب الإطراء، فأقبل الشّعراء يقصدون بغداد والعواصم الأخرى للإقامة في جوار القصور[1]. وقوي الهجاء كذلك بدافع تحاسد الشعراء، وإلحاحهم في طلب الجوائز.

أما الغزل فقد مال به أصحابه بصورة عامة إلى التهتك والإباحية والفحش في الألفاظ، وكثر في هذا العصر الخلعاء والشّعراء الماجنين وأهمهم أبو نواس، وحماد عجرد، ومطيع بن إياس، وهناك فئة من المتعففين أمثال البحتري والعباس بن الأحنف، والشريف الرضي، فكانت قصائدهم صادرة عن وجدان فيه البراءة والمحافظة على الآداب العامة[2].

وازدهر في المراحل الأخيرة من العصر العباسي، مع اضطراب الأحوال السياسية وكثرة المعمرين، شعر الاعتداد بالنفس، الذي ظهر عند أبي الطيب المتنبي، وأبي فراس الحمداني[3]، وغيرهما.

واشتهر في هذا العصر أيضا شعر الخمرة، وارتقى مع أبي نواس، الذي تجاوز الأعشى وابن كلثوم في هذا الفن، وجعل من خمرياته رمزا للتجديد وأساسا لنشر الآراء وفلسفة الحياة والوجود[4].

ومن الفنون الشعرية أيضا الوصف الذي شمل الطبيعة المطبوعة، والطبيعة المطبوعة، والطبيعة المصنوعة، فاهتم الشّعراء بوصف قصور الملوك وبركهم وكذا الأنهار، والرياض[5].

وازدهر أيضا شعر الزهد والتذكير بالآخرة كردة فعل على الترف والملذات والخروج عن الدين والملة، ومن أعلامه أبو العتاهية وأبو العلاء المعري وغيرهما.

كما ظهر في هذه الفترة شعراء للصفوة وآخرين للفقراء، حيث وصفوا أنفسهم وصفا ساخرا متخذين من شعرهم وسيلة للتكسب واستدرار عطف الناس، ومن هؤلاء أبو دلامة والشمقمق وغيرهما.

واشتهر شعر شكوى الدّهر والرّثاء الذي قد اتسع إلى رثاء الأمم والحيوان، وكذا الشّعر السياسي الذي كان نتيجة الصراع بين القوى المتنافسة[6]، ضف إلى ذلك الشّعر التعليمي الذي كان على يد إبان بن عبد الحميد اللاّحقي الذي عمل على إشاعة مثل هذا الشّعر، حيث أنّه نظّم كليلة ودمنة في أربعة عشر ألف بيت.

اتجه الغزل في هذا العصر اتجاهين، فهناك الغزل الماجن المادي الصريح، وهناك في مقابله الغزل العفيف الصادق في الأحاسيس. وهذا الأخير مثله العباس بن الأحنف والبحتري، والقلة من الشعراء.

يقول شوقي ضيف في العباس بن الأحنف إنه كان ذا "شخصية ظريفة حقا في العصر العباسي إذ قصر نفسه على الغزل، لكن دون تبذل أو تصريح بعهر و فحش"[7]، كما هو في قوله :

قـَـــــالَتْ ظّلومُ سمّية الظلمِ - - مــالي رَأَيتكَ نَاحلَ الجِسْمِ
يَا مَنْ رَمى قَلبِي فأقصدهُ - - أنت الخَبِيرُ بمَوْقعِ السَّـْـهمِ[8]
وكذا قول البحتري في عذريته وحبه العفيف الواضح في أبياته:
طيفُ البَخِيلةِ، وَافانَا فَنَبَهَنَا - - بعرفه، أمْ خِتَام المِسكِ مَغْضُوض؟
لَهَا غَرائِبُ دل مَا يَزَالُ لَهَا- - عَلَى الغَرَامِ بِنَا، بَث وتَحْرِيض[9]

كما سلك بعض الشعراء الآخرين طريق الغزل الماجن ومن بينهم بشار بن برد، وابن الرّومي ومطيع ابن إياس الذي برع في هذا الفن[10]. وجاء في كتاب الفن ومذاهبه في الشعر لشوقي ضيف أن لمطيع بن إياس مقطوعات وقصائد لا يمكن سوقها لما فيها من فحش داعر، وفجر فاجر، فمثلا في قوله[11]:

أتَتْنِي الشَّمْسُ زَائِرَةً - - وَلَمْ تَكُ تَبْرَحُ الْفَلكا
تقول وقدْ خلوتُ بها - - تحدّثْ واكفني يدكا

وقوله أيضا:

إكْلِيـلها ألـوَان = وَوَجْهُهَا فَتَان
إذا مَشَتْ تَثَنَتْ = أَنَّهَا ثُعْبَـان[12]

تفنن وأبدع بشار هو الآخر في الغزل الماجن وكانت له طريقته الخاصة، حيث أنه كان يصور جمال المرأة عن طريق أذنه وكان يرى أن العين قاصرة على تصوير الجمال إلى القلب، هذا لأنه كان أعمى، وكانت أذنه تقوم مقام عينه[13]، وقد صور رأيه في أبيات جميلة من بينها، البيت الأوّل شطره الثاني الذي لا يزال متداولا في العالم بأكمله قائلا:

يـا قَـومُ أُذني لِبعَضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ - - وَالأُذنُ تَـعشَقُ قَـبلَ العَينِ أَحيانا
فَقُلتُ أَحسَنتِ أَنتِ الشَمسُ طالِعَةٌ - - أَضرَمتِ في القَلبِ وَالأَحشاءِ نيرانا
فَـأَسمِعينِيَ صَـوتاً مُـطرِباً هَزَجاً - - يَـزيدُ صَـبّاً مُـحِبّاً فيكِ أَشجانا
يـا لَـيتَني كُـنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجَةً - - أَوك ُنتُ مِن قُضَبِ الرَيحانِ رَيحانا
حَـتّى إِذا وَجَدَت ريحي أَعجَبَها - - وَنَـحنُ فـي خَلوَةٍ مُثِّلتُ إِنسانا
فَـحَرَّكَت عودَها ثُمَّ اِنثَنَت طَرَباً - - تَـشدو بِـهِ ثُمَّ لا تُخفيهِ كِتمانا
أَصـبحتُ أَطوَعَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ - - لأَكـثَرِ الخَلقِ لي في الحُبِّ عِصيانا[14]

ومن الذين أبدعوا أيضا في هذا الفن نجد الحسن بن هانئ، أبا نواس، الذي أوصله إلى حد الفحش والفجور، ويقول في إحدى الجواري:

كَتَبَت عَلى فَصٍّ لِخاتَمِها - - مَن مَلَّ مَحبوباً فَلا رَقَدا
فَكَتَبتُ في فَصٍّ لِيَبلُغَها - - مَن نامَ لَم يَعقِل كَمَن سَهِدا
فَمَحَتهُ وَاِكتَتَبَت لِيَبلُغَني - - لا نامَ مَن يَهوى وَلا هَجَدا
فَمَحَيتُهُ ثُمَّ اِكتَتَبتُ أَنا - - وَاللَهِ أَوَّلُ مَيِّتٍ كَمَدا
فَمَحَتهُ وَاِكتَتَبَت تُعارِضُني - - وَاللَهِ لا كَلَّمتُهُ أَبَدا[15]

ويقول في موضع آخر مصرحا بفجوره في قصيدة من البحر الطويل:

وناهِدَةِ الثّدْيَينِ من خَدَمِ القَصْرِ - - سبتْني بحسْنِ الجيدِ والوَجْهِ والنّحرِ
غُلاميّةٌ في زِيّهَا، برْمكيَّةٌ، - - مزوَّقَةُ الأصْداغ، مطمومةُ الشعْرِ
كلِفْتُ بما أبصرْتُ من حُسنِ وَجهِها - - زماناً، وما حبّ الكواعبِ من أمْري
فما زلتُ بالأشْعَارِ في كلّ مَشْهَدٍ - - أُلَيّنُها، والشِّعْرُ من عُقَدِ السّحْرِ
إلى أن أجابَتْ للوصالِ، وأقبلَتْ - - على غيرِ ميعادٍ، إليّ مع العصْرِ
فقلتُ لها: أهلاً ودارَتْ كؤوسنا - - بمشمولةٍ كالورْسِ، أوشُعَل الجمرِ
فقالت: عساها الخمر؟ أنّي بريئةٌ - - إلى الله من وَصْلِ الرّجالِ مَعْ الخمرِ
فقلت: اشربي إن كان هذا محرّماً، - - ففي عنُقِي يا ريمُ وزرُكِ معْ وزْرِي
فطالبَبْتُها شيئاً فقالت بعبرةٍ: - - أموتُ إذنْ منهُ، ودمعتُها تجري
فما زِلتُ في رِفقٍ، ونفسي تقولُ لي: - - جويريّةٌ بكْرٌ! وذا جزعُ البِكْرِ[16]

تغزل أبو نواس بالجواري وهام بهن وكان غزله فاحشا، كما تغزل أيضا بالغلمان واستطاع أن يحقق أعلى درجات المجون التي وصل إليها العصر العباسي، وتعد كمظهر من مظاهر عولمة هذا العصر بعد أن كان عصرا عربيا أعرابيا ليصبح بدخول العنصر الأعجمي عربيا أعجميا.

التغزل بالغلمان عند أبي نواس

تهيأ أبو نواس أن يكون من أول مبتدعي هذا الباب عند العرب، وأشهر أعلامه، إلا أن شهرته في الواقع مخزية، لأن أغلب شعره في هذا الموضوع حافل بالشذوذ والخلاعة العارمة يحمل من وصف المنكرات والعار والمرض الأخلاقي، فغزله هذا لا يخلو من الاستهتار والفحش، يأخذ ظاهرة الميل إلى المذكر التي كانت ظاهرة في ذلك العصر، ويراها البعض ظاهرة حضارية مألوفة في الحضارات الإنسانية الكبرى.

ولكن بعض النقاد يعزون سبب ميل أبي نواس إلى الغزل بالمذكر إلى الصّد والبين الذي كان يلقاه من امرأة أحبها كانت تسمى جنان، وهي جارية لآل عبد الوهاب الثقفي، أحبها الحسن ابن هانئ حبا عنيفا قويا، وكتب فيها أرق شعره. لكن جنان لم تبادله هذا الشعور" فلم يكن هذا الحب إلا من جانب واحد فحسب، ويستفاد من أخبارهما التي ترويها كتب الأدب أن جنان كانت تنكر أشد الإنكار هذه العلاقة، فلم يحظ منها حتى بعطف الرثاء والإشفاق، وقالت لامرأة تعرضت لها بشيء مما يتحدث به الناس: واضيعتاه؟ لم يبق لي غير أن أحب هذا الكلب"[17].

ويقال إن أبا نواس لم يخلص في حبه إلا لها، وأول ما كلفه بها أنّها مرت وهو جالس في المربد مع فتيان من أهلها يتنزهون وينشدهم الأشعار، فأبرزت عن وجه بارع في الجمال، فجعل ينظر إليها، فقال له أصحابه، خرجت عن حدك الذي كنت تنتسب إليه يا أبا نواس، يعني من حب الغلمان إلى حب النسوان فأنشأ يقول في قصيدة من بحر المنسرح:

إنّي صرفتُ الهوَى إلى قمَرِ - - لا يتحدّى العُيونَ بالنّظَرِ
إذا تأمّلتَهُ تعاظَمَكَ الإ - - قْرَارُ في أنّهُ من البَشَرِ
ثم يعودُ الإنكارُ معرفةً - - منكَ إذا قستَه إلى الصورِ
مُباحةٌ ساحةُ القلوبِ لهُ،- - يأخذُ منْها أطايِبَ الثّمرِ[18]

كان أبو نواس في طليعة من ابتدعوا فن الغزل بالمذكر وهو عيب على الأعراب، ويصرح بذلك جهرا في قوله:

دَعِ الطَّلَلَ الذِّي انْدَثَرَا - - يُقَاِسي الرِّيحَ وَالمَطَرَا
أَلَمْ تَرَى مَا بَنَى كِسْرَى - - وَسَابُورَ لِمَنْ غَبَرَا
مَنَازَةُ بَيْنَ دِجْلَةَ وال - - فُرَاتِ تفيَّأَتْ شَجَرَا
بِأَرْضٍ بَاعَدَ الرَّحَمَ - - نُ عَنْهَا الطَّلْحُ والعُشْرَا
وَلَمْ يَجْعَلْ مَصَايِّدَهَا - - يَرَابِيعًا، وَلَا وَجَرَا
وَلَكِن حَوُر غِزْلانٍ - - ترَاعِي بِالمَلا بَقَرَا[19]

ويرى طه حسين أن الغزل بالمذكر أو الغلمان اتجاه جديد لم يكن معروفا في الجاهلية والإسلام وعصر بن أمية، إذ هو من آثار الحضارة العباسية، والأمر الغريب أن أبا نواس يجهر بغزل المذكر رغم أن وجود الجواري في هذا العصر، وقد مال إليهن في قوله:

وَبَـديــعِ الحُـسْــنِ قـد فـَــا - - قَ الرَّشَا حُسْناً ولِينَا

تَحْـسَـبُ الوَرْدَ بخَـدّيْـ - - ــهِ يُـنَـاغي اليَــاسَـمِــينـَـــا
كلّما ازْدَدْتُ إلَـيْـــهِ - - نَــظَــراً زِدْتُ جُنــونَــا
ظَلّ يَسْقِينَا مُداماً، - - حَلّتِ الخِدْرَ سِنينَا
وتَـغَـنّـيْـنَـا بــحِــذْقٍ: - - يا دِيــار الظّــاعِنيـنـــا
فاسْـقيـنـا، حتى أوَانِ الْـ - - ـحَجّ، لا تسْقِ الضّنِينَا[20]

استطاع أبو نواس أن ينقل أوصاف المرأة إلى الغلمان. ولولا استخدامه ضمير المذكر، لا يمكن التعرف على المتغزل فيه. ويقول في ذلك (البحر: مجزوء الرمل):

قل لذي الطّرفِ الخَلوبِ، - -ولِذي الوجهِ الغَضُوبِ
ولمن يثني إليهِ ال - - حسنُ أعناقَ القلوبِ
يا قضيبَ البانِ يهتزّ - - على ضِعْسٍ كثيبِ
قد رضينَا بسلامٍ، - - أو كلامٍ من قريبِ
فبروحِ القُدس عيسى، - - وبتعظيمِ الصّليبِ
قفْ إذا جِئْتَ إلينا، - - ثمّ سلّمْ يا حَبيبي[21]

بلغ العصر العباسي درجة من الفحش والمجون، لم تكن معروفة في عصور خلت. ويؤكد النويهي على أن نفسية أبي نواس نفسية معقدة لا يمكن فهمها إلا بتحليلها وفق المنهج النفسي الحديث. وقد تناول في سبيل الوصول إلى فهم نفسيته وشعره العديد من الظواهر التي التصقت به، فوقف طويلا أمام الخمر، والشذوذ الجنسي، والنشوة الدينية وما يصاحبها من دعوة إلى الإباحية[22].

وأكدّ معظم الدارسين أن أبا نواس من الشعراء الخلعاء الذين أجهروا بفجورهم خاصة في ميدان التغزل بالغلمان كمشهد لم يظهر عند الشعراء السابقين، وهو مظهر من مظاهر عولمة الشعر العباسي بعد دخول العنصر الأعجمي، وأنه الرائد في هذا الفن وفتح المجال للشعراء فيه.



الهوامش

[1] مصطفى السيوفي، تاريخ الأدب في العصر العباسي، ط1 ،2008.،الدار الدولية،.القاهرة، ص37 .

[2] المرجع نفسه ص 37.
[3] شوقي ضيف، الفن و مذاهبه، ط08، دار المعارف، مصر، ص309.

[4] إليا الحاوي، في النقد و الأدب ،ط2 1986، ج3، دار الكتاب اللبناني.بيروت، ص31.

[5] عمر فروخ ، بشار بن برد، ط1979، دار لبنان للطباعة، ص31.

[6] ذو النون المصري، المنتخب من عصور الأدب، ج1، عالم الكتب، لقاهرة، ص107 .

[7] شوقي ضيف، الفن و مذاهبه، ص 68 .

[8] المرجع نفسه، ص 68 .

[9] البحتري، .خليل شرف الدين،.ص 153.

[10] شوقي ضيف، الفن و مذاهبه، ص 66.

[11] المرجع نفسه ص 64 .

[12] المرجع نفسه ص 65 .

[13] ينظر، عمر فروخ، بشار بن برد، ص 120 .

[14] المرجع نفسه، ص 120 .

[15] أبو نواس، ديوانه، حققه وضبطه، أحمد عبد المجيد الغالي،ط2010م*1431ه، دار الكتاب العربي، بيروت ، لبنان، ص207.

[16] المصدر نفسه، 209.

[17] أمينة عبد الله الحشاني، الدراسات النقدية الحديقة عن أبي نواس، مجلس الثقافة العام بالقاهرة، 2006، ص 12.

[18] المصدر نفسه، ص193.

[19] المصدر نفسه، ص 18.

[20] المصدر نفسه، ص 121.

[21] المصدر نفسه، ص273.

[22] المصدر نفسه، ص 151.


د. مليكة فريحي - الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى