يوسف إدريس - أمه

فى ليلة شتاء وجدها.
ثالث شجرة قبل النفق وجدها.
واحدة من أشجار " أم الشعور " القائمة على جسر النيل عند نهاية شارع القصر العينى.
كان قد طفش.
مرة أخرى طفش.
جرب عربات القطار القديمة المركونة صدئة على القضبان لا تستعمل.
و تحمل "العلق" التى كان الخفراء يوقظونه بها حتى هجر السكك الحديدية ، و جرب أسفل عربات النقل فى " الدراسة " و الفجوات الكائنة فى سور "فم الخليج" و المقابر
و الخرائب و حظائر المواشى فى المدبح و أشياء ، و أماكن كثيرة جربها ، و كان البشر دائما يطاردونه ، كما يطارد الكلب المسعور أو الأجرب.
كان طفش.
منذ أن طرده زوج أمه و هو يطفش.
كان يحب أمه ، و كانت أمه تحبه ، و أبدا لم ير أباه ، إلى أن جاء ذلك الرجل و بدأت أمه تبدو ضعيفة لا حول لها و لا قوة أمامه.
سكران يأتى هائجا ، و مسطولا مرة ، يأتى و يفرغ هياجه و سطله فى أعماق أمه المسجاة تتلوى ، يأتيه صوت أنينها و لهاثها و قد أحاله و أحالها الزوج الجديد إلى سائل أنثوى ذائب من لحم طيع و قلب بدأ بالتدريج يلين ، و عنه يتحول و يبتعد.
هكذا أحس و ظل يحس ، كل يوم كان قلب أمه عنه يتباعد و ناحية الرجل و نزواته العارمة يقترب ، و يتشكل و يستجيب ، و يتميع ، حتى صحا فوجد الرجل قد أخذ أمه تماما مثلما أخذ الموت أباه.
و حين أثمر الزواج الجديد طفلا انتفخ له بطن أمه ، أدرك أن الشعرة التى كانت تربطه بذلك البيت "الحجرة" قد انقطعت و أجبره الرجل على ترك المدرسة و العمل كصبى نجار، و استغاث بالأم مستنجدا ، و لم يفاجأ أبدا و هى تصيح فيه صارخة طالبة منه أن يخرس حتى لا يوقظ الرضيع . و مالها النجارة ؟! على الأقل تعلمك ، يابن الكلب ، ابن الكلب يا أمى. أصبح أبى هو الكلب . دامع العينين قبل ...
و لكن النجار كان قاسيا و كان هو كثير السرحان و التوهان ، و بالشاكوش أحيانا
و أحيانا بفردة القبقاب و معه أقبح الشتائم كان يضربه.
و طفش.
صاحب ولدا من جامعى الأعقاب و المتسولين ، و عمل صبيا فى محلات و أرغموه على أن يدفع ثمن مبيته لدى أيهم من لحمه و كرامة الرجل الطفل الذى كبرته الأيام بسرعة ، يدفع الشيىء الكثير.
و مرة أخرى طفش.
من كل طفشان كان يطفش ، من الأعور الذى حاول أن يعلمه النشل طفش ، من الأعمى الذى حاول أن يجعله يسحبه ، و يشحذا معا ، طفش ، فكثيرا ما كان يدفعه من ظهره بعضوه البارز أبدا. من المرأة التى أخذته ليلة و فى حضنها أدخلته ، روع
و طفش.
و المشكلة لم تكن طفشان النهار ، فمن أكوام القمامة تعود أن يجد دائما فى الأكوام ، ما يأكله ، لا ، لم يكن يفعل كالكلاب الضالة و القطط . كان يعرف كيف يفتش و ينتقى ،
و دائما ما كان يعثر على شيىء طازج أو بالقليل غير حامض ، فى بحر النيل يغسله
و ينظفه ، حتى قطع الخبز كان يغسلها و ينظفها و يدعها للشمس تجففها و تسخنها استعدادا لمأدبة قادمة حافلة.
المشكلة فى الليل و المأوى.
و فى ليلة شتاء وجدها ..
الشجرة جذعها من جذور و لهذا يسمونها "أم الشعور" فجذورها فى الهواء ، تلتحم معا و تجف ملتحمة ، و تصنع جذعا و ساقا ، تتولى عشرات السنين تضخيمه و تكبيره ليتحمل عبء الشجرة المهول .
و لأن ساقها جذور متلاصقة فهى لا تكون جذعا مستديرا مصمتا ، و لكن يظل فى الجذع فجوات هى تلك المسافات التى كانت تفصل الجذور ، فجوات كبيرة و صغيرة . مفتوحة من الناحيتين مرة و مغلقة أحيانا صانعة عشا مسقوفا ذا فتحة واحدة.
ذات ليلة و هو سائر بائس و لكن غير باك ، فحين يصبح البؤس هو القاعدة اليومية الليلية التى لا تتغير لا يعود الانسان يبكى بؤسا ، فالبكاء يجيىء أملا فى حل أو استدرارا لأمل ، أو رجاء إلى الذى خلقنا أن يهدينا للحل أو بالحل و يريحنا و لو ساعة من ألم مستمر أضاع منا حتى الإحساس بالألم.
كان الليل قد بدأ يمطر . ثم بغزارة راحت السماء تصب سيولا تفرغ الشوارع من الناس و الدنيا من الونس و تخلق فى النفس شعورا قويا بالخوف و رغبة عارمة فى البكاء.
و لجأ إلى الشجرة يحتمى من السيول التى بللته حتى و صلت لنخاع عظمه . و على الضوء القليل القادم من عامود نور ساطع الضوء ، رأى الفتحة و اقترب.
و بعينيه راح يتفحصها و استغرب حين وجد لها عمقا و كأنها كهف. و للكهف من الداخل بروزات و تجعيدات ، و كأنه فم عجوز يحفل ببقايا أسنان معوجة.
دخل.
و كأنه إلى سرداب سعادة دخل . فمجرد إحساسه أن قذائف الأمطار و سياخها المائية قد كفت عن الدق فوق رأسه و اختراق أسماله ، و أنه قد أصبح فى مأمن ، مجرد إحساسه بهذا ، سعد ، فرحة كبرى غمرته ، و كأنه الصعلوك قد أهدته السماء قصرا من عجب.
و استمرأ الشعور حتى أنساه كل ما لاقاه فى حياته من طرد و طفشان و صفعات
و إهانات و عمر مديد ملىء بالألم ، لم يوقظه من شعوره ذاك إلا خاطر عنّ له ، أن يكون فى مخبأه هذا زملاء من ثعابين أو حيات أو فئران أو أى مما يعض أو يلدغ.
و إمعانا فى إرعابه كان البرق قد بدأ. و على ضوء البرق إذا برق و النور القادم من العامود الصامد ، شبرا شبرا راح يتفحص الكهف النباتى و جدرانه و لم يعثر إلا على جزء من هيكل عظمى لكلب لابد و أنه مات من زمن ، حين رماه بعيدا و بخرقة عثر عليها أيضا فى الكهف نظف أرضه ، و أخير قرفص و جلس ، أحس أنه أسعد انسان على ظهر الأرض ، أسعد من أى ملك أو غنى أو الفرماوى نفسه صاحب كل عربات الكارو و الخضار.
و من فرط سعادته راح يقاوم الخدر الذى بدأ يدب فى جسده و يقوده إذا استسلم إلى نوم ما ذاقه فى عمره أبدا . إنه هنا ليس فى ملك أحد كى يطارده أحد ، و ليس قريبا من مخزن أو دكان ليأخذوه بالشبهة ، و لا عسكرى يستطيع أن يراه ، و لا أنس و لا جن أو بشر. راح يقاوم حتى يستمتع بشيىء حرم منه على الدوام منذ كان له بيت و كان له أب و كانت له أم حنون يجد فى حضنها الأمان و الدفء و الحماية من كل شرور البشر.
يقاوم الخدر المؤدى حتما إلى النوم . بإرادته يقاوم و معه البرد الشديد يساعده ، و كلما أحس بالدنيا خارج الكهف ترعد و تبرق و المطر بإلحاح ينهمر ، و أحس بنفسه محميا بالشجرة العجوز و حضنها عن هذا كله ، كلما أحس بشعور الناجى من غرق. المحمى فى قلعة حصينة ، حولها وحوش الدنيا كلها تعوى و تتلمظ ، و هو يخرج لها لسانه اطمئنانا و تأكدا أن أنيابها تماما بعيدة عنه و أن زئيرها ، زئير العاجز أن يناله ، و أن الدنيا أمان مبطنة بالقطيفة ، و قطيفتها الزغبية النباتية أصبحت تحنو عليه ، و يسرى إليه منها دفء لا يعرف مصدره.
و صحا.
فى الضحى صحا.
المطر كان قد كف و لكن ضجة الشارع و الترام بدت كما لو كانت قد مضى على بدئها عشر ساعات . ظل يحدق طويلا من خلال فتحة الشجرة إلى المارة و العربات
و يجتر نصف نائم ، عمره كله حتى يتذكر اللحظة التى دلف فيها إلى مثواه الجديد ذاك ، و عمره كله كوم و ليلة الأمس وحدها كومة أخرى و ثمة فاصل باتر بينهما.
و بأيد واهنة و أذرع متراخية كسولة راح يتحسس الجدار الداخلى للفجوة ، كأنما يقلب بين أصابعه محتويات كنز عثر عليه أخيرا و أصبح ملكه و فى حوزته.
و أحس أنه جوعان جوعا لم يحدث له فى حياته أبدا.
و لكن كان عليه أن يغسل وجهه أولا . و النيل بجواره. ياله من قصر فاخر. حتى الماء يجاوره. و الأمكنة وافرة لقضاء حاجته.
و كأن أيضا ، حين انحلت مشكلة مأواه و منامه ، تفتحت أبواب الرزق فى وجهه . فما كاد يخطو بضع خطوات فى الشارع حتى طلبت منه سيدة هبطت لتوها من الأتوبيس أن يحمل عنها حقيبتها . و رغم ثقل الحقيبة ، فقد أحس بها فى خفة الريشة. و لأول مرة فى حياته يفطر فولا و طعمية ، و بصلا ، و يشرب شايا و يدخن سيجارة من أولها لآخرها.
و سرح فى شوارع المدينة . و كان رزقه واسعا فى ذلك اليوم. فحين جاء الليل كان فى جيبه ما يكفيه لدخول سينما الروضة و يعيشيه و يبقى معه "ريالا" يبدأ به يوم غده .
و أحس و هو عائد من السينما بعد أن شاهد فيلمين أنه فى طريقه إلى مكان أصبح عزيزا عليه تماما . أعز عليه من بيت أو مكان سكنه. شيىء واحد كان يخنقه إذا فكر فيه ، أن يعود ليجد المكان مشغولا بقاطن آخر اكتشفه. و لكنه كان دائما فاتحا فاه ، فارغا ، ينتظره ، و لولا أنه خاف على نفسه أن يجن لاندفع يحتضن جدرانه من الداخل و يغنى لعبد الحليم حافظ و يصرخ فى المارة جميعا : لقد أصبح لى مأوى. بل إن سعادته القصوى كانت أنه قد أصبح له شيىء يخصه . مكان ينتمى إليه. و كأنما عثر على عائلة لا أب فيها يموت و لا زوج أم يقطع جسده و ينهش كرامته. أصبح له هو ، التائه فى بحر الحياة، مأوى.
و لكن الليلة كانت باردة ، و ظل مغلق العينيين و النوم مستعص عليه ، و ماذا يهمه حتى لو قضى الليل بطوله ساهرا ، فى الصباح أيضا سيكون المكان ملكا خالصا له لا ينازعه فيه أحد ، و لا يوقظه ، إذا نام ، من نومه احد ، مكانه ، بيته.
و لكن البرد ازداد حتى بدأ يرتعش. سيقضى نصف يومه التالى يبحث له خرق أو أجولة قديمة تغطيه فالبرد أصبح لا يطاق. مهما قرفص ، و حشر نفسه و ألصقها بالجدار الداخلى للشجرة. بل حين راح يحك نفسه فى الجدار النباتى الناعم بالمقارنة إلى الجدار الخارجى الخشن ، لم يواته الدفء أبدا.
أحس ، قرب الفجر ، شيئا فشيئا ، أن ثمة دفئا قد بدأ يشمله ، أيكون دفء الحمى ؟ أيكون قد أمرضه البرد ، و أصبح فى طريقه إلى عطس و كحة و مرض إذا داهمه حتما فسيقضى عليه ؟ و تحسس جبهته ، و قارن حرارة يديه بحرارة جسده ، لا ، لم تكن هناك حمى ، و لكنه كان يحس بالدفء ملموسا لا يعرف مصدره ، فقط حين - بحكم العادة - ملس على جدار الشجرة الداخلى ، أحس بأن الحرارة تنبعث منه.
و خاف ، حتى كادت الرعشة ، رعشة الرعب من هذا الدفء الغريب المجهول ، تعاوده.
و لابد أنه خرف أو بدأ يخرف ، فقد لمعت فى ذهنه الطفولى فكرة ، أن الشجرة العجوز قد بدأت تدفئه ، و تفعل مثلما تفعل أى أم حين ينكمش ابنها فى حضنها ،
و تحس أنه بردان ، فتدفئه ! ..
و تخريف أو لا تخريف ، أعجبه الخاطر تماما و استراح حتى كفت أسنانه عن اصطكاكها ، و أطرافه عن الرعشة ، و وضع رقبته تحت ذقنه ثم دفن رقبته بين ساقيه و كأنه يتخذ وضع الوليد فى بطن أمه.
و نام.
و كما انتمى إلى الشجرة تماما و أصبحت ملجأه و ملاذه من العالم الخارجى الشرير ، حتى أصبح يأوى إليها فى عز النهار هربا من القيظ حين جاء الربيع و معه الحر ، فوجىء ذات يوم و كأن الشجرة كانت ضائعة هى الأخرى ، و بلا قريب مثله ، و بدا كما لو كانت فجوتها تتحور لتأخذ شكل جسده ، بل فوجىء ذات يوم بعرق داخلى منها يبرز و يمتد إلى الخارج من فتحتها و يواليه بالطبطبة و السقيا حتى ألفى فى أسابيع قليلة يكبر و يكاد يملأ فتحة الفجوة و يصنع لها بابا يكاد يخفى الفتحة ، بحيث لم يعد يعرف مكانها سواه.
و دون أن يدرك هو ما يحدث ، و بالطبع دون أن تدرك الشجرة ، بدأت علاقة أكبر من مجرد الانتماء ، و الحنان المتبادل ، و البرودة تغمره بها صيفا ، و الدفء تغمره به شتاءا.
أحبها أكثر مما أحب أمه ، لقد كانت الحضن و البيت و الظليلة و العائلة و كل ما يمت له فى الدنيا.
و لا يدرى كم من الزمن مضى ، عام أو عشرة أعوام ، فالزمن كان قد توقف به عند اللحظة التى اكتشف فيها أم الشعور ، تلك التى دبت الحياة فى كل أنحائها تماما ،
و اخضر كل مكان متخشب فيها ، و رغم أنه كان قد وفق إلى صنعة و أصبح صبيا فى محل "دوكو" ، و يكسب ، إلا أنه لم يستطع أن ينتزع نفسه منها ، و من جوفها "الحضن".
و لكن شيئا فشيئا بدأ يحس أن الفجوة تضيق عليه ، إذ كان - دون أن يلحظ - قد كبر ، و كبرت معه سيقانه و أذرعه حتى جاء اليوم الذى لم يعد يقدر أن يحشر نفسه داخلها.
و هكذا الدنيا ، فقد كان عليه ذات يوم أن يجمع حوائجه التى خبأها فى ثنايات فجوتها ، و يودع الخن الذى أصبح من الداخل أخضر كله ، و يذهب ليقاسم زميله فى المحل ،
و صديقه ، الحجرة فوق السطح و التى كان يقطنها صديقه وحده.
و ليال طويلة قضاها لا يعرف كيف ينام على فراش و هو الذى تعود على حضنها الحى ، و على وضعه الجنبى المريح داخلها.
و لكن الأيام تمضى ، و يتعود الرقاد فوق فراش ، و يقارب سن البلوغ ، و يبلغ ،
و يلهيه العمل الشاق طوال النهار و السهر الطويل مع الصحاب و الشلة حتى نسيها ، بل نسى الشارع كله و قد انتقل بعمله و سكناه إلى شبرا.
و ذات يوم أرسله الأسطى فى مشوار لفم الخليج.
و فجأة وجد نفسه يقفز من الأتوبيس عند نهاية القصر العينى ، و يسرع إليها و وقف مشدوها يرقبها.
كانت أوراقها الخضراء كلها قد جفت و أعضائها الجديدة و القديمة تخشبت و بابها النباتى اندثر.
كما لو كانت قد ماتت.
و أحس بغصة ما قبل البكاء.
و بكى.
أمه.

من المجموعة القصصية " العتب على النظر" المنشورة 1987



يوسف ادريس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى