أم الزّين بن شيخة - الخبز لا يصلح للأكل فقط ...

لأيّ شيء تصلح الثّورات العربيّة؟ هل كانت ثورات من أجل الحريّة أم من أجل الهويّة؟ خندق من المعارك المغلوطة وضجيج أيديولوجيات، وماضي ثقيل لا يريد أن يمضي.. وفي لجّة هذه السياسات اللجوجة، يبدو أنّ ثمّة حلم آخر أخطأ الطريق إلى الأفواه الجائعة.. إنّه حلم الخبز الحافي الذي لم يقع يوما توزيعه بعدل على هذه الشّعوب المغدورة دوما في أحلامها. سارتر قال يوما: “ليس في العالم غير الأغنياء والفقراء.. أمّا ما تبقّى فمحض ثرثرة”...
للخبز رمزيّة عميقة لدى كلّ الشّعوب.. فهو خبز الأنبياء أو ما تبقى من لحمهم.. وهو خبز الأمراء أو ما يتبقى على موائدهم.. وهو خبز الفقراء أو ما يبقى في أحشائهم.. والخبز شعار للثورات التي تحلم بالخبز أوّلا، بالحرية ثانيا وبالكرامة الوطنيّة أخيرا.. ثمّة خبز للفقراء وثمّة خبز للأغنياء وثمّة الخبز الحافي للأدباء. لكن ثمّة أيضا خبز لا يصلح إلاّ للرّسم.. خبز فنّي خيالي عبثي.. خبز مضادّ لسياسات الخبز الرّسميّة.. خبز من أجل كتابة تاريخ فنّ الرّسم منذ الرّسومات الأولى المفتونة بسحر الخطوط وصولا إلى اللوحات المشطّة في الحداثة.. خبز مشاغب يبعثر ألوانه على انفعالاتنا وينثر الرّعب ويرقص عل أنغام الكاووس.. خبز ديونوزي للنّشوة ولأشباه الآلهة ولأكثر من بشر.. خبز سرّيالي يستفزّ ويخترع التأويلات ويخلق المعاني على قارعة اللوحات الفنيّة..

سلفادور دالي ( 1904 ، 1987) هو رسّام إسباني وكاتب وسينياريست ونحّات. وهو من أشهر الفنّانين في القرن العشرين. رسم في كلّ الأساليب وتأثّر بكلّ المدارس الطلائعية: الانطباعية والتوحّشية والمستقبلية والتكعيبية. لكنّه وبانتمائه إلى المدرسة السريالية، بقي دوما رغم طرده منها، من طرف مؤسّسها بروتون، يُحسب على أنّه من أشهر ممثّليها. رسم دالي 1640 لوحة وعُرفت أعماله بطابعها السرّيالي المستفزّ الساخر والمرعب معا. اختار أن ينتمي إلى جماليّة تراوح بين الرخو والصلب ولون النار ولون الدم والرحم طورا وزرقة السماء والبحر الذي يسكن حذوه طورا آخر.. ومزج كلّ ذلك بالرماديّ الميّال إلى الأسود الفظيع، وذلك من أجل فضح فظاعة الحرب والتشهير بقرن لاحم ملهوف على أكل لحوم البشر وتحويلهم إلى جثامين.
لقد زاوج دالي في رسمه بين الطابع الأيروسي متأثّرا بفرويد، وجمالية أكلية مطبخية، وانتهى إلى “التصوّف النووي” حيث تمتزج عُزلة اللاهوتي بكارثة حرب نووية في صحراء هاجرها الرحّل منذ سقوط قنبلة هيروشيما إلى كلّ الكوارث الفظيعة التي أصابت إنسانية الحربين العالميّتين.. يحلو لدالي أن يحدّثنا عن “المسيح بوصفه جبلا من جبنة الكاممبار” وعن مجتمع الخبز حيث لا شيء فيه غير خبز كبير الحجم على مائدة ضخمة تتسع لكلّ الجياع..
من أهمّ لوحاته لوحة “استمرار الذاكرة” (1931) والخبز الأنتروبومرفي (1932) والخريف يأكل نفسه(1936) وغواية القدّيس أنطوان ( 1946) والشيطان المنطقي (1951)..
إنّ أهمّ ما يثيرنا في جماليات دالي هو نوع من العلاقة العجيبة بين الرسم والأكل وتحديدا بين الرسم والخبز. يحيلنا دالي في مذكّراته إلى قولة لإحدى الأميرات اعتبرها شعارا خاصّا به: “في سنّ السّادسة، أردت أن أصبح طبّاخة وفي سنّ السّابعة أردت أن أصير نابليون، ومنذ ذلك الحين لم ينفكّ طموحي عن النموّ بقدر نموّ جنون العظمة لديّ”. لقد اخترع دالي كوجيتو جديد: من “أنا أفكّر إذن أنا موجود”، لديكارت إلى “أنا آكل إذن أنا أرسم.. وبقدر ما أتذكّر ما في أحشائي أصيّر الأشياء في لوحاتي ما يحلو لأحلامي أن تكون”. ويقول أيضا: “إنّي أعرف جيّدا ما آكل، لكنّي لا أعرف ما أفعل”..
في هذا السّياق يتنزّل “خبز سلفادور دالي” الذي أعلنه شعارا لأعماله الفنيّة قائلا: “منذ عودتي إلى باريس، أعلنت من جديد هذا الشّعار اللّغز: الخبز، الخبز، لا شيء غير الخبز”.. لكنّ هذا الشعار جعل النّاس يعتقدون أنّ دالي صار شيوعيّا.. فأجابهم في تهكّم استثنائي جدّا: “إنّ خبز دالي لا يمكن أن يكون من أجل إنقاذ عائلات عديدة.. إنّ خبزي هو خبز مفترس، مضادّ للإنسانيّة.. هذا الخبز أرستقراطي، جمالي، ذهاني، سفسطائي، مسيحي، هو خبز مثير ومستفزّ ومعطّل لكلّ أنواع البداهات اليوميّة”.
خبز مفترس هو إذن خبز دالي.. لكن من سيفترس؟ في هذه العبارة انقلاب صارخ ضدّ القيم الفنيّة والجماليّة التقليديّة: ههنا لا تكون اللّوحة انفعاليّة سلبيّة تنتظرنا كي نراها ونحكم عليها.. بل هي من يأتي إلينا ويسطو على منظوريّتنا ويفترس المرئي الذي بحوزتنا.. إنّها لوحة لاحمة مستفزّة متنمّرة ستهاجمنا في كلّ لحظة.. ستجعلنا لحما لها.. سيكون الواقف قبالتها في حالة خطر.. فحذار. ليس الأثر الفنّي بضاعة صالحة للاستهلاك.. وليس الخبز المرسوم ههنا في اللّوحة الفنيّة خبزا من أجل الأكل.. بل هو من سيأكلنا.. فهو لا يأتي إلى سلّتنا من المخبزة بل من المرسم.. وهو لا يولد قبالتنا من السّنبلة بل من اللّون.. وهو خبز مفترس لأنّه سرّيالي ذهاني سليل الرّغبة والحلم والجنون والخيال واللاوعي..
لقد رسم دالي الخبز أكثر من مرّة: رسمه سنة 1926 بعد الحرب العالمية الأولى ورسمه ثانية سنة 1932 تحت عنوان مثير “خبز أنتروبومورفي” ثمّ رسمه سنة 1945 في لوحة هي فقط سلّة من الخبز الغامض الذي يتّخذ شكل “اللّغز المكتمل”.. سلّة من الخبز قضّى دالي شهرين كاملين في رسمها الذي اكتمل يوما واحدا قبل نهاية الحرب العالمية الثّانية.. هل كانت سلّة الخبز توقيعا لنهاية الحرب؟ لا شيء تبقّى من الحربين غير سلّتي خبز ملقاة على سطح اللوحة في حالة من الألغاز والسّخط والاستفزاز الفظيع.. لقد رحلت الأفواه التي كانت تحلم بهذه السلّة من الخبز.. مات الإنسان ولم يبق غير الخبز.. ويحلو لدالي أن يتبجّح بسلّتيه في نوع من العبثيّة التي يريدها في حجم عبثيّة الحرب وفظاعتها معتبرا كلّ من يجمع بين اللوحتين، قادرا “على فهم تاريخ فنّ الرّسم منذ السّحر الخطّي البدائي إلى الواقعيّة المشطّة”.
إنّ خبز دالي يحمل توقيعات متعدّدة ومتناقضة.. إنّه خبز فلسفي ميتافيزيقي من عجينة غريبة الطعم.. هذا الخبز ليس حكرا على فئة ما.. وليس شعارا لأيديولوجيا ولا هو ملك لأيّ حزب أو طبقة أو دولة. إنّه خبز مفترس يشترك فيه الجميع: العقلاء والمجانين، الفقراء والأرستقراطيون و“المهلوسون” والصّامتون.. إنّه خبز مفترس لكلّ النّزعات الأيديولوجية والخصومات والسّياسات التي تقسم النّاس إلى فئات وطبقات.. إنّه خبز مفترس للغة العقل ولقيمه الحاسبة ولحروبه التي لم تبق منها غير رائحة الأحشاء النتنة.. إنّه خبز أيروسي نهم إلى حدّ الشّهوة الشّاهقة.. إنّ خبز دالي يصلح للرّسم وللأكل وللحكي وللضّحك بل هو خبز فتّاك ومدمّر لهندسة الخطوط المستقيمة.. إنّه خبز مفترس للطّغاة، مضادّ لكلّ من يُتاجر بجوع الجياع ولكلّ من يحكم ظلما باسم خبزهم.
لقد أعلن دالي عن حلمه السرّيالي الحميم: إنّه يحلم بتأسيس ما يسمّيه “مجتمع الخبز”.. وهو مشروع هدفه “استفزاز منظّم لعقول الحشود التي وقع السّطو عليها من طرف الدّول”.. لقد كان دالي يحلم بخبزة عملاقة طولها 15 مترا.. وهي خبزة ستثير حسب حلمه انفعالات متناقضة وتأويلات وخصومات.. وستخلق ظاهرة أدبيّة واجتماعيّة فريدة من نوعها.. وستدفع من ثمّة النّاس إلى التّفكير بالخبز على نحو مغاير.. التّفكير هو شكل آخر من الأكل بأحشاء بهيجة..
النّتيجة: إنّ الخبز لا يصلح للأكل فقط بل يصلح الخبز للفنّ أيضا.. والخبز هو موضوعة سرّياليّة واقعيّة أكثر من الواقع نفسه.. والخبز هو أيضا ظاهرة تستفزّ المشاعر وتؤجّجها وتدفع بنا إلى الكتابة.. إلى الغرابة.. إلى الرّسم.. إلى الحلم.. إلى اختراع خبز آخر وحلم آخر وأحشاء مرحة بدلا عن أحشائنا الكئيبة “المحشوّة بالسّبانخ”..
يقول دالي في كتابه “حياتي السريّة”: “إنّ كل ما أحبّه بعمق وذنب هو أحشائي”، ويقول أيضا “إنّي أرى الفكّ عضوا رائعا يشي برغبتنا الخاصّة في الحياة وقيمة الواقع، وهو مجرّد صهريج هائل للفساد، والمقابر فيه مناضد عشائنا. إنّ الحقيقة بين أسناننا. فقد برهنت الفلسفة نفسها في فنّ الأكل أنّ الإنسان يكشف عن نفسه حين تكون الشّوكة في يده” (الصفحة 31 من التّرجمة العربيّة).
إنّ خبز دالي يدفعنا إلى الضّحك من الخبز الحافي الملغّز والمعطوب والملغّم بمعارك وأقاصيص وأيّام للقتل المفاجئ غدرا.. خبز يصلح لاستفزاز الذاكرة الجمعيّة التي وقع السّطو عليها سياسيّا.. ذاكرة محشوّة بالآلام والأحلام وبدماء من ماتوا من أجل الرغيف لكلّ الأفواه.. خبز من يعتلي العروش باسم توفير الخبز ولا يفعل غير احتكاره والمتاجرة به.. خبز يمرّ عبر أحشائنا كي يجوّز لنا العبور من آخر أوجاعنا إلى أوّل أحلامنا..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى