نانسي أبو حوسة - المسمــــــــــــــــــار

المسمار كائن مهمش على الجدران، خلف الأبواب أو حلقة وصل بين شيئين.. هو صغير بحجمه.. كبير بعمله. ساهم في إنقاذ البشرية من طوفان مهلك، عندما حمل نوح عليه السلام صفوة الكائنات على ذات ألواح ودسر.
دسر ومسامير اسمان لأهم اختراع عرفته البشرية وأنقذها. بين أنواعه وحكاياته تطوف بنا
نانسي أبو حوسة في هذا الملف وكل صفحة معلومة تثبتها بمسمار لا يجرح ولا يؤلم.

حكاية المسمار
يُعد المسمار من أقدم الأدوات المهنية التي اخترعها الإنسان منذ القدم، كما أنه من أصغرها حجماً. ويعود اكتشاف المسمار إلى أكثر من خمسة آلاف سنة مضت عندما خرج من بين بلاد فارس والأناضول. وكان يُصنع من العظم والخشب اليابس ومن ثم تطور مع ازدهار البشرية. وبقيت المسامير مختبئة وراء الكواليس في العلوم الصناعية حتى عام 1606م، عندما حاز المخترع بولمر بيفيس الإنجليزي براءة اختراع عن جهازه الميكانيكي لتقطيع الحديد وصقل المسامير بأحجام مختلفة. ومع بداية الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، توالت الاختراعات المتعلقة بالمسمار في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. ففي عام 1786م اخترع هزكييل ريد آلة لصنع المسامير، وفي عام 1795م حاز جاكوب بيركنز براءة اختراع آلة لصنع المسامير قطعة واحدة، أي الرأس والجذع في عملية واحدة. وشكّل هذا الجهاز ثورة حقيقية في عالم الصناعة، إذ وفّرت هذه الطريقة من عملية التلحيم الحراري لأجزاء المسمار، وجعل إنتاج المسامير يصل إلى مئتي ألف مسمار في اليوم الواحد. في عام 1851م أنتج الصناعي وليام هرسيل آلة لصنع المسامير باستخدام الخيوط المعدنية من الفولاذ، والتي تتميز بقدرتها على تحمل الضغط من الأوزان المختلفة، وكذلك التغيرات المناخية المتقلبة. ومنذ ذلك اليوم انتشرت الطريقة الثورية الجديدة في صناعة المسامير وأصبح أثرها دقيقاً، إذ لا يشترط أن يستخدمها نجار ماهر.
في يومنا هذا تُصنع معظم المسامير من الأسلاك المعدنية المختلفة على حسب أسباب استخداماتها، كما أصبح هناك أكثر من ثلاث مئة صنف من المسامير المتوافرة.

أكذب مسمارين.. مسامير العذاب

للمسامير قصص تاريخية ودينية، ولعل القصة المزعومة لصلب المسيح بطلها مسماران دقا بشراسة فوق كفي المسيح المزعوم لتثبيته على الصليب. ظهر هذان المسماران في أغلب الأيقونات المسيحية التي تمثل المسيح مصلوباً. فالمسامير من أقسى أنواع أدوات التعذيب وأبشعها. لذا نجد قصص تعذيب كثيرة أبطالها مسامير. ففي إسبانيا في القرن الخامس عشر، إبان محاكم التفتيش، كان المسمار بطلاً من أبطال أدوات التعذيب، فكان المتهم ليدلي باعتراف ما يساق إلى غرف التعذيب القاسية التي يلقى فيها صنوف العذاب، وعندما لا يعترف أو لا يوجد عنده شيء يعترف به، فإنه لا بد أن يمر على المسمار المسنون والمحمي في النار لتفقأ به عيناه. كما كان كرسي المسامير في القرون الوسطى وحتى نهاية القرن الثامن عشر يثير الفزع لمجرد ذكر اسمه، في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. حيث كان عبارة عن كرسي من خشب زرعت في مقعده ومسنده مسامير حادة، ومزود بأحزمة تضييق المكان عند جلوس الضحية. وكانوا أحياناً يقومون بتسخين هذه المسامير، ما يجعل القيام منه عذاباً والجلوس عليه موتاً!
ربما كان ماركوس ليسينيوس (53-112 ق.م) القائد الروماني هو أكثر من استخدم المسامير، ويقال من باب الطرافة المؤلمة أنه هو من أنعش صناعة المسامير، حيث استخدم أكثر من عشرين ألف مسمار من الحجم الكبير وهو في طريقه من روما إلى كابو، وذلك لصلب ستة آلاف عبد زهواً بانتصاراته.

الكتابة المسمارية..
أول خطوط التدوين

شكل اختراع الكتابة أهم الأحداث في التاريخ الفكري للإنسان، فهي الحد الذي بدأ عنده توثيق التاريخ منذ اختراعها حتى يومنا هذا. والكتابة المسمارية هي اللغة المكتوبة للغة الآكادية التي تعدّ من اللغات الساميّة كالعربية والآشورية والبابلية والعبرية. وأصبحت اللغة الآكادية أم اللغات المكتوبة والمقروءة معاً بمفهوم اللغات المعقد كونها أوّل محاولة لممارسة الكتابة، فكانت تنقش فوق ألواح الطين والحجر وغيرها من الأسطح التي كانت متوافرة قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أي قبل ظهور الأبجدية بـ1500 سنة، وظلت سائدة حتى القرن الأول ميلادي. وظهرت أولاً في جنوب بلاد الرافدين وكان يتكلمها البابليون والآشوريون ولا تمت بصلة إلى أي لغة معاصرة. كما كانت اللغة المعتمدة لدى الشعوب القديمة بجنوب غربي آسيا.

وسميت اللغة بالمسمارية لأنها كانت تكتب بطريقة النحت على الحجر بالمسامير، وتم اعتمادها في تلك الفترة التاريخية كلغة مكتوبة للغة الآكادية.

في القرن التاسع عشر تمكن مجموعة من الباحثين وعلماء الآثار من فك رموز الكتابة المسمارية ومحتوى نصوصها التثقيفية، إذ احتوت على العديد من التعليمات الإدارية والتاريخية والفلكية والطلاسم والقواميس المسمارية التي جمعت وحدها ما يعادل 130000 لوح طيني موجود في المتحف البريطاني في سوريا.
وازدهرت الكتابة المسمارية إبان حكم الملك حمورابي (1728– 1686ق.م) وانتشرت بين الناس في تلك الفترة، وأصبحت اللغة الرسمية في المعاملات وفي الشؤون الحياتية العامة كالمعاملات التجارية والمراسلات، ونصوص الأدب، والشؤون الدينية والعبادات.

وكان أوج ازدهارها عندما أمر حمورابي بجمع العلوم وتدوينها، ما ساهم في انتقال الحضارة من بلاد الرافدين إلى جميع أنحاء البلدان المجاورة وإلى أطراف العالم القديم. أما الملك آشوربانيبال الذي كان يعد من أكثر ملوك العهد الآشوري ثقافة (626-668ق.م) فكان له الدور في نسخ الكتب وتجميعها على الألواح الطينية. فجمع الكتب من أنحاء البلاد وخزنها في دار كتب خاصة طلب تشييدها في نينوى بالعراق. أما أداة الكتابة المسمارية فكانت عجينة الصلصال التي تتم الكتابة عليها وهي لينة ومن ثم تحرق لتتصلب.

واستغرق تطور اللغة المسمارية آلاف السنين تميّزت في ثلاث مراحل أساسية، بينما ألهمت في جميع مراحل تطورها العديد من الحضارات التي تأثرت وأثرت بها. وهذه المراحل هي:

المرحلة الصوريّة: وهي أولى مراحل جميع الكتابات المعروفة حول العالم. وسميت بذلك لأنها تصور بشكل تقريبي الأشياء المادية بمبدأ الرسم نفسه. أما مضامين النصوص المكتشفة فكانت بمعظمها تتناول الشؤون الاقتصادية. أما الجزء الآخر فكان لأهداف لغوية تعليمية.

المرحلة الرمزية: في هذه المرحلة تغيرت العلامات الصورية وأصبح الكاتب يكتفي بالتعبير عن الأشياء بشكل رمزي. وكان السبب الرئيس وراء تطوير المسمارية بهذا الاتجاه حتى تصبح الطريقة الصورية من الممكن قراءتها بأي طريقة وبغض النظر عن لغة كاتبها.

المرحلة الصوتية: وهي آخر المراحل وأهمها التي مرت بها الكتابة المسمارية وأكثرها تطوراً، وتم الدمج بين الطريقتين الصورية والرمزية، بالإضافة إلى ابتكار طريقة جديدة تساعد على كتابة أسماء الأعلام واستخدام صيغ الأفعال، والربط بين أجزاء الجملة الواحدة. وبذلك أصبحت المسمارية أول من ابتكر الطريقة الصوتية في الكتابة، والتي انتشرت فيما بعد في أنحاء العالم كافة لسهولة تعلمها وكتابتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى