مصطفى عبد الله عارف - جسر الصرافية.. قصة قصيرة

كالقتيل يسقط في حضن امه ، تطوقه بذراعيها ، تمسح دمه بدموعها ، تستره بثوبه الممزق. تمسد اضلاعه المتكسرة بكفين حانيتين وكأنها تريد ان ترد كل ضلع الى مكانه… هكذا سقط جسر الصرافية في حضن امه دجلة بعد ان قطّع خنجر مسموم شراينه. وتقف بغداد بعينين لم تكفا عن البكاء منذ زمن. تنظر الى واحد من اخوتها الذين يوصلون اطرافها ويحرسونها ويحملون ابنائها العابرين على ظهورهم ، وقد تناثر جسده فوق شطآنها. وتندبه النوارس بعد ان كانت تزغرد وتتلفت حائرة تبحث عن اعشاشها التي تهاوت مع سقفه المشبك فأين سترتاح اجسادها الصغيرة اين؟ وبمن سيلوذ العشاق؟ وقد كانت ظلاله المشبكة تحميهم من الشمس والعيون وحتى المطر المتساقط. ايه يابغداد! ان جسر الصرافية رمش من رموش عينيك الطويلتين الوسيعتين النديتين اللتين تذوف فيهما خضرة النخيل. ايه يابغداد! يا اخت الجسر وياعروس الدنيا التي لم تخلع ثوبها ! اتمتد نحوك يد ينام الوسخ تحت اضافرها لتلوث ثوبك الناصع وتخدش حُسنك وتسرق حمرة خديك وشفتيك وتحرق رموشك رمشا رمشا؟ فيا لحزن بغداد ويا للوعة كبدها على جسر الصرافية !.

كانا مستندين الى قطعة متبقية من سياج الجسر، ينظران الى الموج يلطم الجرف قربهما. رفعت سوسن رأسها تنظر الى الجسر الممزق المتشبث حديده بالارض ورؤوس دعاماته شوامخ فوق الماء بكبرياء شجي. همست كمن يدعو في صلاة.

– ياسين ! متى يعود الجسر لنا لنعبر عليه؟

– عندما يعود الجسر ، سنعبر بزفة تليق به وبنا ومع ذلك فكل الجسور اليوم موصلة كما تقول لميعة عباس عمارة.

– ومن هي لميعة عباس عمارة؟

– شاعرة عراقية قصائدها بالفصحى والعامية.

حدثها كيف ذهبت الشاعرة لترى الجسر المعلق بعد قصفه بالصواريخ في حرب الكويت وحين وقفت تنظر الى المعلق المنكفئ وجهه على الماء واضلاعه المكسرة ، اجهشت بالبكاء وقالت كمن تندب عزيزا وتذكر صفاته الحلوة رغم الموت.. (ياجسر المعلق يا احلى جسر ضلعي احسه المنكسر موش الجسر)

– كأنها عبرت عن دواخلي. اتدري انني عندما جئت اعبر جسر الصرافية فوجدته منسوفا مقطع الاوصال ، احسست بوجع في صدري مثل عشرات الواقفين المذهولين يبكون جسرهم.

– كأنهم ياسوسن يتعمدون قطع شرايننا. فقبل الصرافية كان جسر الجمهورية وكان المعلق.

ظل متمسكا بقطعة السياج وهو يقول.. جسر الصرافية امسك بكتفي دجلة من خمسينيات القرن العشرين. الا ان اهل بغداد ، على ماسبقه واعقبه من دمار، يرون ان قرونا من حضارة بلادهم قد سقطت.

رجع بذكرياته اشهرا والجسر شامخ مستقيم الظهر يحمل اللائذين تحت سقفه المشبك واللائذات.

اختطف من خدها قبلة. تفاجأت وقالت لائمة..

– اخشى ان يكون قد رآنا احد.

– النوارس فقط هي التي رأتنا. والنوارس لاتتكلم

وهو يغادر المصرف. توقف عند الباب ليعد ويتأكد من حساب راتب والده الذي يستلمه وكالة عنه. وجد زيادة في المبلغ. عاد الى موظفة رواتب المتعاقدين.

– هناك خطأ في الحساب.

ارتبكت وزاد وجيب قلبها. ولما احس بذلك قال:

اطمئني فأنت اعطيتني زيادة مئة الف دينار.

تنهدت بارتياح. نظرت اليه ممتنة من اعماقها.

– لحظات وأتأكد من الموجود والمصروف.

عادت تشكره على امانته وقدمته الى زميلاتها الموظفات وابتسامة فرح تزين كل ملامح وجهها.

اقدم لكم انسانا نادرا بامانته. اعاد لي الزائد الذي اعطيته خطأ.

القت نظرة على السجل بين يديها..

– اسمك ياسين؟ لقد انقذتني.

– المسألة بسيطة جدا فهذا واجب.

عند انتهاء الدوام عبر الرصيف المقابل لمصرف العطيفية. رأها تخرج بين زحام الموظفين. رأته فابتسمت. تقدم اليها قائلا بابتسامة.

– جئت اشكرك. فأنت شكرتني كثيرا.

حركت رأسها مستغربا مستفهمه. فعاد يقول وهما يسيران.

لقد منحتِني فرصة تذوق الجمال في عينيك وتأمل شعرك ليلا منسابا وهذا يستحق الشكر والتسبيح.

طأطأت تنظر الى الارض وقد صعدت حمرة الحياء في خديها.

– هذا كلام حلو لم اسمع مثله.

– لقد علمتني القراءة الكثير ، فأنا اعيش وسط الكتب في مكتبة امتلكها في شارع المتنبي وانا ادعوكِ لزيارتي ايام الجمع لتشاهدي جمال بغداد بكرفنالها الثقافي والفني والتحرري.

نظرت في عينيه الجريئتين والوديعتين.

– اراك انتظرتَ نهاية الدوام !

قال ضاحكا فاضحكها معها

– انا انتظرتكِ انتِ.

ثم بعد صمت قصير قال: اتعودين الى البيت بسيارة؟

– لا.. ابدا.. فأنا اعبر جسر الصرافية وبيتنا على شاطئ الاعظمية.

– بيتنا في العطيفية قرب المصرف الذي تعملين فيه. هل من ضير اذا عبرت معكِ الجسر؟

ادارت رأسها نحوه بابتسامة ساحرة.

– الجسر للعبور من شاطئ الى شاطئ كما تعلم.

اطار النظر بملامح وجهها وقال متحرشا

– انتِ تعرفتِ على اسمي ولم اعرف اسمكِ لحد الان.

– ايعجبك اسم سوسن؟

– السوسن اسم وردة. ومن لايعجبه الورد؟

ولما قامت بزيارته بمعية شقيقتها ، اهدى لها رواية ” ذاكرة الجسد ” للكاتبة الجزائرية احلام مستغانمي ، موضحا : ستتعرفين على انثى مثقفة تكتب في السياسة والحياة والحب والجنس بجرأة مؤدبة.

كان يلتقيها على فترات متباعدة فيعبران الجسر متشابكي الاكف فيقفان تحت سقفه المشبك ينظران الى النوارس يقبل بعضها بعضا وهي طافية على الماء.

بدأ النوم يداعب عينيها ، وكفها الايمن تحت خدها. اخشى ان يكون اختلاف المذهب قاطعا جسر المحبة بيني وبينه. انا اعرف تعصب ابي وعلمت ان اباه اشد عنادا وتطرفا. انا اغفو وياسين امامي يحيطني بذراعيه فارعا ناحفا حنطيا جعد الشعر حليقا انيقا. وهل انسى كيف اقتحمني وهو يرد الي المبلغ الزائد حانيا مبددا الخوف من اعماقي؟ لماذا يخنق المذهب عصفورين يحبان بعضهما؟

جلسا على دكة مختبئة بين اشجار الكورنيش برقبان المهندسين والعمال في محاولة انتشال الجسر واعادته.

– أتذكرين كم كان جميلا؟

– كنت احبه واشعر بالالفة والامان تحت سقفه.

– أتدرين انه صورة من صور بغداد في الفن المعماري؟ فقد كان القطار يعبر عليه جنب السيارات والمشاة تحيطهم اسيجته العالية وسانداته وسقفه وكلها من الحيديد المشبك. من يقف على الجرف لينظر اليه ، ير صندوقا مشبكا فوق الشط يحتوي كل تلك الاشياء.

كانت عيناها ترقبانه كلما سرح… الاسود والابيض فيهما غالبان كالمتنافسين يصلان الحد في وقت واحد. عجبتُ للرسام كيف مازج بين اللونين وكأنه قاسهما باجزاء الملمتر. هل هذه هي العيون الحوراء؟ لا ادري. ووسط كل هذا الحُسن تغفو بدلال تحت عينها اليمنى شامة سمراء. اادع خلافا مذهبيا يمزق هذه الصورة باصابع لاتحس الفن ولا تعرف مكامن الجمال؟

– انا يا ابي اريد هذه الفتاة. دعوا الحب ينتصر على الخلافات المذهبية.

اجاب ابو ياسين بنبرة قاطعة

– انا لا اقبل ان اصاهر عائلة تختلف عني في المذهب.

يبدو ان الابوين اتفقا رغم كل اختلافاتهما، على رفض الزواج. ولكن في نهاية النفق المظلم كما يقولون اومض ضوء خافت. فعمّها وعمي واخوها متحررون لايقبلون التعصب وسأتعلق بشعاع هذا النور.

في واحدة من وقفاتهما قرب الجسر متكئين على عمود حديدي ، كانت عيناه تنحدران مع شعرها من القمة الى الكتفين فالصدر وتصعدان ثانية فسالته كيف يرى شعرها فأجاب : كنت اقارن بين شعرك والشعر الغجري المجنون لنزار قباني. فالغجري خشن مجنون صعب ان تناله لانه يسافر في كل الدنيا. اما شعرك المسترسل فناعم عاقل استطيع ان اتلمسه فدنياه محدودة مستقرة على الكتفين والصدر.

رفعت اصبعها مهددة

– اياك واللمس فالناعم العاقل قد يتحول الى غجري مجنون.

في جسدها فورة ، ان اقتربتَ تعطِّل مقاومتك وتجرك نحو اعماقها. كانت مرة في قميص ملتصق يفضح حدود نهديها المكورين. ولما انتبهت انه يركز النظر رفعت رأسها نحوه وقالت مبطنة كلامها.

– نحن على حافة الشط حاذر ان تنزلق قدمك فتغرقك الموجة.

انتظرها تخرج من المصرف. ران الجد على قسماته

– لسنا قاصرين ياسوسن. سنذهب انا وانتِ الى المحكمة وسنصحب اخاكِ وعمك وعمي لنعقد قراننا. لقد استأجرت دارا على كورنيش العطيفية حيث بنى المنصور بغداد واثثته وسنرى فجر كل يوم دجلة تغسل النعاس عن عينيها وعند الغروب نراها وهي تغفو يهدهدها الموج ويحرسها النخيل.

اشرابت الاعناق صوب الجسر. الواقفون والمتسكبون ورواد المقاهي على الشاطئين. كان مشهدا لم تعتده الناس. زفة عروس تعبر الجسر راجلة. العروس بكامل زينتها تسير متأبطة ذراع عريسها وسط ايقاع الطبول وعزف المزامير وتصفيق ورقص الاصدقاء. بين خطوات وخطوات يقف الجميع منحنين متشبذين بسياج الصرافية وكأنهم يخافون عليه ناظرين الى دجلة يتراقص موجها فرحا تحت الجسر. كان يتبع الموكب وفي نهايته ابو ياسين وابو سوسن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى