محمد شكـري - الحلقـة الثانية - حاوره: يحيي بن الوليد و الزبير بن بوشتي

* وعيي السابق ارتبط بمعدتي.. كنت أسرق كل ما يمكنه أن يملأ بطني حتي لا أصير عبئا علي أسرتي
* أنا من أنصار الكتابة بالفصحي اما الدارجة المغربية فهي انحطاط جاء من اللغة العربية!



في الحلقة الثانية من حوار الكاتب المغربي محمد شكري، ينقلنا الي محل ولادته الاول، بني شيكر التي يقول انه لا يتذكر منها الا صورة ضبابية، فخروجه منها حدث في صغره. ويرسم لنا مشهد العلاقة مع والده، الذي صار مثل قريته القديمة رسما وشبحا قديما. وكان شكري قد قدم صورة قاسية عن والده في الخبز الحافي ، وكانت بمثابة تصفية الحساب مع الماضي الذي لم يعد موجودا. في نفس السياق يتحدث شكري عن صدمة ما يسميه السرد في الخبز الحافي عليه ككاتب، وعلي القارئ المغربي، وهنا يقول شكري ان شهرة الرواية سحقته، ويطالب النقاد والجمهور بشكل عام بالتعامل معه، كجزء من واقع ادبي، لا كفقاعة اسمها ظاهرة محمد شكري. ومع ذلك لا ينكر شكري قيمة عمله هذا باعتباره سجلا ووثيقة عن تاريخ المحرومين التي لم يقم التاريخ الرسمي بالحديث عـنها. كما لا ينكر اثر الكاتب الطنجاوي محمد الصباغ علي تكوينه الثقافي، فهو اول كاتب مغربي حفزه للبحث عن الاسلوب في الكتابة.


الطفولة

يحيي بن الوليد: في التحليل النفسي أو الخطاب النقدي الذي يفيد من هذا التحليل. هناك إقرار بأن السيرة الذاتية تتم كتابتها انطلاقا من الحاضر. بمعني أن هناك عودة من الحاضر الي الماضي، ولابد من أن يتخلل هذه العودة، سواء عن وعي أو عن غير وعي، القفز والحذف أو الاضافة علي مستوي صيانة الوقائع والاحداث. ولذلك نريد منك أن تحدثنا عن طفولتك من خارج دائرة الابداع؟
محمد شكري: أعتقد أن كل كاتب مرتبطة حياته بظروف وتحولات بلده وثقافته. وأنا أنتسب الي العالم الثالث. والعالم الثالث سواء كان عربيا أو غير عربي يحس نفسه، تجاه طغيان الاستعمار، مقهورا. هذا القهر نلمس فيه كثيرا من التاريخ والهوية الثالثيين. لذلك نجد في العالم الثالث اهتماما كبيرا بإعادة الاعتبار لشعب من شعوبه من خلال التأريخ لتحولاته الملموسة إدانة لما سلب منه. وهذا ما يدعو بعض الكتاب الي كتابة سيرة حياتهم الذاتية أو سير غيرهم حتي يتسني للقارئ الذكي استكشاف بعض ما لم يكتبه التأريخ المأجور أو الرسمي: تاريخ الملوك والزعماء والحكام بصفة عامة. السيرة الذاتية توحي لقارئ بالحقيقة التي لا يؤمن بها وهي تطالعه في الرواية. الرواية بالنسبة لعموم القراء العاديين هي مزيج من التخيل والكذب علي الواقع.

يحيي بن الوليد: وإذا أمكن، نعود الي لعبة الحاضر والماضي، وإذا ما كنت تقبل بما أشرنا إليه سابقا تحت تسمية الحذف.
محمد شكري: الحاضر إضاءة للماضي لكن بانتقاء ما هو ملائم للصيغة الفنية المصبوب فيها. وكل ماض هو توثيق لما كان واستشراف لما نحن عليه الآن ولما يمكن أن يكون في المُقبل. الماضي والحاضر بحكم تلاقحهما يتلاحمان من أجل طموح مستقبلي. فالانسان مرتبط بالامل. الرهان علي المجهول لانعدام رهان ملموس بديل.

الزبير بن بوشتي: وبينما أنت تدشن هروبك، هل كنت واعيا بهذا الرهان المجهول؟
محمد شكري: وعيي، سابقا، كان مرتبطا بمعدتي. لم أكن أسعي إلا الي ملء بطني. الرهان الكبير هو ألا تبقي فارغة. كانت حياة معدية بالنسبة لأسرتي كلها. كنت أسرق كل ما يمكنه أن يملأ بطني حتي لا أصير عبأ علي أسرتي خصوصاإخوتي الذين لم بكونوا بعد قادرين علي كسب قوتهم اليومي.

الزبير بن بوشتي: إذن حياة الشارع وما شابها من انحرافات كانت بالنسبة لك اضرارا؟
محمد شكري: نعم. وعندما كنت أشارك إخوتي طعامهم أحيانا كنت آكل أقل منهم. وحتي لا أسرق الجيران صرت أسرق أمي لكي أذهب الي السينما. فقد سرقت براد شاي لجارة فشكتني لأمي. اسرق بيتنا واترك الجيران هكذا قالت لي أمي. وبعد ذلك كففت نهائيا عن السرقة حتي عندما صرت في أمسّ الحاجة الي السرقة. التربية التي تتم بين الشارع والمنزل لابدّ أن تكون فيها ثغرات وانزلاقات.

الزبير بن بوشتي: طفولتك تدخل إذن في إطار ما يصطلح عليه اليوم بـ الطفولة المغتصبة .
محمد شكري: لقد حدثت تحولات بين طفولة الامس وطفولة اليوم. الطفولة القديمة كانت تبحث عن ملء البطن. كان هناك جوع بمعناه الحقيقي. اليوم نادرا ما تجد طفلا يتسول الخبز. إنه يطلب درهما أو أكثر وغالبا لا ليشتري طعاما بل لشراء مخدر قوي مثل السيليسيون (نوع من الغراء المخدر). في طفولتنا القديمة كنا نكتفي بجمع أعقاب السجائر وعندما يتوفر لدينا قليل من النقود قد نشتري الكيف الذي كان ثمنه رخيصا جدا. وقد نشترك في ثمن شراء زجاجة خمر. طفولة اليوم أكثر انحرافا من طفولة الامس، لأن الحياة تعقدت أكثر. مخدرات اليوم أكثر تدميرا من مخدراتنا القديمة. هناك إحباطات اجتماعية وسياسية واقتصادية عاني منها كثيرا مغرب الاستقلال. وقد انعكست سلبياتها علي سلوكاتنا.

الزبير بن بوشتي: بكتابتك لسيرتك الذاتية هل تكون قد صفيت حساباتك مع أسرتك؟
محمد شكري: لست مسكونا علي الدوام بحالة مرضية تجاه أبي. لقد صفيت حسابي معه في الخبز الحافي وزمن الاخطاء. كفي. لقد كان ما كان. غالبته كل مساوئ مجتمعنا. ليست لومته. أذكر أنه عام 64 رفع دعوي ضدي كتب عريضتها أحد المغرضين الجاهلين من صنف الكتبة العموميين يدعي فيها أبي أنه صرف علي دراستي حتي صرت معلما ولم أعد أعطيه شيئا من أجرتي. لم يكن هذا صحيحا، إذ كنت أعطي جزءا من أجرتي لأمي القائمة علي تدبير البيت. وفي المحكمة بينت للقاضي أن أبي كذاب كبير، إذ لم يسأل عني أبدا عندما كنت أدرس في العرائش تحت رعاية منحة دراسية، أما ما كان يخصني لشراء الدفاتر والكتب فقد كنت أسرقه ليلا مما ينشر علي السطوح من غسيل. وعندما طلب القاضي استفسارا عن حقيقة ما ادعاه أبي من مساعدتي علي دراستي أجاب باكيا: كفي. إن ابني يعرف كيف يتكلم أحسن مني. كنت بصحبة رفيق. خرجنا من قاعة المحكمة ودخلنا أول حانة كانت قربها.

الزبير بن بوشتي: في انتظار التطرق بشكل موسع لـ الخبز الحافي و زمن الاخطاء أتستطيع اليوم استرجاع صورة قريتك بني شيكر الريفية التي غادرتها وأنت طفل؟
محمد شكري: لم أعد اذكر إلا خروجي منها بشكل ضبابي. ما حدث ليس في مقدور طفل بين السادسة والسابعة أن يصفه الآن بكل دقة.

الزبير بن بوشتي: هل كانت لك فيها ذكريات عن طفولة المسيد (الكُتَّاب) مثلا؟
محمد شكري: لا أذكر إلا عتمة خروجي من قريتي البائسة. لم يأخذني أحد الي أي مسيد .

الزبير بن بوشتي: وكيف كان خروجك من قريتك؟
محمد شكري: خرجنا علي بعـض القري مرورا بـ باب تازة، شفشاون وجمعة الزينات. بقينا في جمعة الزينات أياما. أخذتني أمي الي المسيد (الكُتّاب) وجلست مع الطلاب الصغار أنتظر ما سيحدث في ذلك الكتاب الكئيب. كان الفقيه أكثر كآبة من المسيد. ذات لحظة ارتكب أحد الاطفال خطأ في قراءة سورة قرآنية. أخذ الفقيه يضربه بوحشية. لم أكن أعرف الدارجة المغربية. كان الفقيه الهمجي يضرب الطفل الصغير بضراوة. قمت وشتمت الفقيه بلغتي الريفية: أتش ذيماش أيميس نرقحبا: لتأكل أمك يا ابن.... ثم هربت أسابق الريح. إنها ذكري خنزيرية بربرية.

يحيي بن الوليد: وأبوك هل كان دائما علي نفس الحال من الهياج كما حرصت علي تقديم صورته؟
محمد شكري: كان أفظع من الصورة التي وصفته بها في كتاباتي وتصريحاتي. الاب المغربي ـ عموما ـ لا يختلف كثيرا عن أبي أو من الفقيه الذي تكلمت عنه سابقا في هذا الحوار. لقد صرّح لي أحد قراء الخبز الحافي بأنه غيّر معاملته في تربية أبنائه خوفا من أن يشتموه ويحقدوا عليه عندما يكبرون. هذا يؤكد أن بعض الكتابات الادبية قد تساهم في تغيير بعض السلوكات. التغيير الذبذبي البطيء وليس التغيير المباشر الموكول الي العلوم الانسانية.

يحيي بن الوليد: وكيف تنظر الي أبيك الآن بعد كل هذه السنوات؟
محمد شكري: لم يعد في ذهني إلا شبحه. كنت أتمني لو أني لم أسأل عنه. أتصور دائما أني ولدت بدون أب. أعجب للذين يتكلمون عن آبائهم بحب وفرح. يا لحب الآباء والابناء! ما أندر ما سمعت عن هذا الحب! من طرف الكبار طبعا.

يحيي بن الوليد: كيف تشرح هذا؟
محمد شكري: صورة الأب ـ قديما وحديثا ـ يمكن لي أن أعممها. قتل الأب نزعة بشرية ولدت مع الانسان منذ نشأته حتي الآن: روحيا أكثرها وأقلها جسديا. الآباء غالبا ما يشدون أبناءهم الي الوراء: الي الجمود... الي الثبات المميت. من أجل ذلك لا أريد أن أكون سلف أحد. قتل نفسي بيدي ـ إن كان ذلك ضروريا ـ هو أفضل من أن يقتلني من يخلفني.

يحيي بن الوليد: ولذلك قتلت أباك روحيا وذهنيا.
محمد شكري: لا أريد أن أقتله مرتين. هناك إضاءات أخري علي الحياة عوض المس المرضي الدائم في الحقد علي الآباء. هناك آفاق أخري أحاول أن اضيء بها ما تبقي لي من حياة ولغيري بدون ضغينة. لا أريد أن أرسّخ عداوة الآباء والأبناء. لا أرتاح عندما أشعر أني منقاد الي بؤرة أسرية متناحرة.

يحيي بن الوليد: غير أن الملاحظ هو إما أنك تتكلم دائما عن الآخرين أو عن أبيك بشكل خاص؟
محمد شكري: في غالب الاحيان أتكلم عن نفسي أكثر مما أتكلم عن الآخرين أو عن أبي.

الزبير بن بوشتي: في كتابك جان جنيه في طنجة تسجل شهادة خطرة عندما تقول إن أباك باعك بثلاثين بسيطة لقهواجي؟
محمد شكري : (مقاطعا) الآن معظم الآباء يتاجرون في أبنائهم. أن يولّد الرجل زوجته أولادا كثيرين لكي يساعدوه في الفلاحة فهل هذا معقول. هذه مسألة تاريخية عبر تاريخ الانسان الزراعي، أما اليوم فلم يعد هذا معقولا إلا في المجتمعات البدائية. وأبي كان هدفه هو أن يتاجر بنا ويتكاسل هو في العمل. كنا ثلاثة عشر حسبما قالته لي أمي، ولم يبق منا علي قيد الحياة إلا أربعة وأنا أكبرهم. الصالح من كثرة الاولاد قد يكون واحدا أو أكثر والباقون يصبحون مجرمين ومنحرفين. جهل وأمية. ماذا تنتظر من هذه الحثالة البشرية؟ صار كثير من الآباء الكسالي لا يسألون عن مصدر ما يأتي به أولادهم من مال الي الدار. كارثة تسود كل العالم الثالث. ومعظم هذه الظواهر نجدها أيضا في البرازيل، الفليبين وحتي في بعض مناطق إسبانيا.

يحيي بن الوليد: ألا تحس أن هناك طفولة شخصية، بمعني آخر هناك طفولات متجمعة في طفولة شخص واحد ؛ إذ كل طفولة لا تكتب من خلال طفولتها وحسب بل هي من خلال نضجها كما سبق وأن قلت في أحد استجواباتك؟ أهذا يعني أنه ليست هناك طفولة بنفس الاحساسات التي يعيشها الطفل في طفولته المتجمعة كما عبرت أنت بنفسك عن ذلك في مكان آخر؟ الطفولة المتجمعة هي مشتقة من الطفولات الاخريات التي استوعبها الكاتب أو المتراكمة لديه من خلال الطفولات التي عاشها، سواء من خلال طفولة شخصية محضة أو من خلال طفولات الآخرين. إذ هناك جمع طفولات. طفولة الكاتب وغيرها. وليست هناك طفولة محضة. ومن يقول العكس فهو كاذب، إذن أنا أكتب طفولتي من خلال رجولتي كما قلت أنت عدة مرات. ثم ـ وكما يقال ـ فإن الطفل هو أبو الرجل.
محمد شكري: نعم. قد يكون الطفل أبا الرجل كما تقول. لكن أن يكون هذا الأب سويا: أن يساهم في توليد أو رعاية ابنه أو من يتبناه. أما في حالتي المنفلتة من التربية النموذجية فهي أن أعتمد علي ما اكتسبته من تجارتي الاجتماعية دون توجيه. هدفي هو أن أنفلت من أي شيء همجي حاصل لي. ولقد كان لي اختيار: فإما أن أستمر ابن أب جاهل وهمجي أبيع السجائر المهربة أو أن أذهب في العشرين من عمري الي مدينة العرائش وأدرس وأن أتخرج معلما أعلّم المسحوقين مثلي وأبناء أمثال من يلدهم أمثال أبي. إني لم أندم علي اختياري الاخير. ربما أديتُ خدمة لنفسي وللمجتمع.

الزبير بن بوشتي: هل هذا يعني أنك أصبحت أبا لابن؟
محمد شكري: (يضحك) لكي أصبح أبا لابن عليّ أن أتزوج. لقد عزفت عن الزواج لأني أخشي أن أمارس علي من ألد نفس التسلط والقهر اللذين مورسا عليّ. لهذا أنا أخشي أن يكون لي مولود.. فأنا لا أثق في نفسي. لا أثق في أقلّ من أحد. كلانا قد يثق وقد لا يثق في الآخر. إنها ثقة وليست ثقة، وبينهما أقل من ثقة.

الكتابة السردية

يحيي بن الوليد: لنبدأ هذا المحور المتعلق بالكتابة السردية عندك بالسؤال الكلاسيكي الذي عادة ما يطرح علي الكتاب والذي يتعلق بقصة الانتماء للكتابة.
محمد شكري: كان مفهومي للكاتب إما أنه ميت أو صعب رؤيته. كنت في عام 1960 تلميذا في مدرسة المعلمين في تطوان، ولم تكن الكتابة هاجسا من هواجسي أو لم تكن تخطر علي بالي. كنت أحد رواد مقهي كونتيننتال في تطوان. وكان يرتاد هذا المقهي رواد ينتمون الي الثقافة وعلي راسهم محمد الصباغ. كان كاتبا مشهورا في ذلك الوقت في المغرب. ايضا كان هناك محمد العربي الخطابي، والمهدي الدليرو، وعبد الواحد أخريف ومحمد الطنجاوي. وبين فينة وأخري يأتي عبد السلام البقالي ومحمد البوعناني من أصيلة ومجموعة من المثقفين والمهتمين بمحاولة الكتابة، لكن محمد الصباغ كان قد صدرت له كتب بالعربية وترجم بعضها الي الاسبانية آنذاك. استرعي انتباهي اهتمام رواد المقهي بتلك الجماعة، لكن التقدير والاعجاب كانا يوليان لمحمد الصباغ. سألت شابا كان جالسا جواري عن ذلك الشخص الذي يهتمون به أكثر من الآخرين. قال إنه الكاتب محمد الصباغ. هنا فكرت في أن الكتابة لها تقدير كبير. وبما أنني أنتمي الي طبقة مسحوقة ومغمورة فإذا أنا أصبحت كاتبا مشهورا فسيُعْطَي لي نفس الاعتبار الذي يعطي لمحمد الصباغ. إذن اعتبرت الكتابةـ كما تصورتها في ذلك الوقت ـ مصلحة شخصية وإذا شئتم رفعة وتبجحا. اشتريت كتب الصباغ وقرأتها. كانت كتبا صغيرة الحجم. تأكد لي بعدما قرأتها أنني أنا أيضا أستطيع أن أصبح كاتبا.

يحيي بن الوليد: وأول نص نشرته ؟
محمد شكري: في تلك الليلة قرأت الكتيبات الثلاثة. في اليوم الثالث كتبت خربشات أسميتها حديقة العار . لم أعد أذكر موضوع هذا النص. كانت هناك أشجار وعصافير تقفز فوق بعضها البعض. كتبته بخط واضح وقدمت نفسي لمحمد الصباغ: قرأت كتبك وأعجبت بها. أنا أيضا أريد أن أكون كاتبا . أخذ مني محاولتي الاولي ووضعها في جيبه ودعاني الي تناول القهوة. كان يشتغل في المكتبة العامة علي ما أذكر. قال سيقرأ المحاولة وغدا نلتقي في نفس الساعة. وكذلك كان. جاء كعادته لتناول قهوته. أعاد لي المحاولة قائلا بلباقة: قواعدك النحوية سليمة، لكن ينقصك الاسلوب . ما العمل إذن ؟ أعطاني لائحة كتب بالعربية وأخري بالاسبانية بعدما ذكرت لـه أني أقرأ بها. أغلبها دواوين شعرية. بدأت صداقتي معه ومع الكتب. وسيلتك الوحيدة لكي يكون لك أسلوبك الخاص هو أن تستوعب الكثير من الاساليب. هكذا قال. أصبحت مسكونا بجنون الكتابة. وخلال هذه السنة الدراسية من 60 الي 1961، التي قضيتها في مدينة تطوان، نشرت نصوصا قصيرة في جريدة العلم منها: جدول حبي مع صورة قلدت فيها أحمد شوقي واضعا جماع يدي علي حنكي لأضفي علي نفسي شيئا من الاهمية. إنه التبجح المراهقي سعيا وراء إثبات الذات من خلال الكتابة. كنت أسعي للخروج من أسرتي المهمشة.

يحيي بن الوليد: وأنت تنشر هذا النصوص الاولي كان يتم التعـامل معها هل بنوع من الترحيب أو اللامبالاة ؟
محمد شكري: كنت أنشر في ملحق الناشئين. كان هناك كثير من الناشئين أمثالي. بدأت في تطوان، وعندما تخرجت وعينت في طنجة في إحدي مدارسها بدأت مسيرتي (أو مشواري) سعيا وراء الكتابة المتعددة الاجناس. نشرت خواطر نثرية وكتبت قصائد عمودية لم انشر منها إلا واحدة علي ما أذكر علي وزن المتقارب. عثر عليها في إحدي المجلات المغربية محمد أديب السلاوي. وفي عام 1966 كتبت أول نص قصصي: العنف علي الشاطئ ونشر في مجلة الآداب البيروتية وتلقيت رسالة من سهيل إدريس يشجعني فيها علي المضي في الكتابة. كتبت نصا آخر بعنوان العنف وبقول الاموات لكنه نشر بعنوان بشير حيا وميتا في مجموعتي القصصية مجنون الورد. كتبت أيضا مقالات أدبية جمعت بعضها في كتاب غواية الشحرور الابيض .

يحيي بن الوليد: يظهر إذن أن محمد شكري دخل النشر الفعلي عام 1966.
محمد شكري: نعم.

يحيي بن الوليد: ومن تلك الفترة حتي الآن نلاحظ أن هناك رحلة طويلة في عالم الكتابة.
محمد شكري (مقاطعا) وهناك توقف وتسكع ولهما أسباب.

يحيي بن الوليد: ويظهر أن التوقف دام ما يزيد علي 17 سنة.
محمد شكري: 19 سنة: من عام 1973 الي 1992. أما التواريخ الواردة بين هاتين الفترتين في كتبي المنشورة بعد التوقف فهي لإعادة تنقيح ما كتبته من قبل.

يحيي بن الوليد: يمكن أن نعود الي هذا التوقف وأسبابه ونقول الآن بأن اسم محمد شكري صار اسما أساسيا في الكتابة الروائية والقصصية المغربية.
محمد شكري: (مقاطعا) عوض الرواية أقول الحكي. أنا لا أكتب الرواية بالمعني المتعارف عليه ما عدا روايتي السوق الداخلي. هناك أجناس متداخلة في حكيٌ كما في زمن الاخطاء و وجوه، أما الاساسي أو التأسيسي في الكتابة المغربية فليس من شأني هنا التقويم.

يحيي بن الوليد: لنتوقف عند هذا السرد ولنبدأ من مسألة الظاهرة (محمد شكري ظاهرة) ونسألك هل هذه الظاهرة هي تهمة أو واقع أو هي التهمة والواقع ؟
محمد شكري:إنها بين التهمة والواقع. إنني أقول دائما بأنه لا ينبغي أن يُتَعامل معي كظاهرة محضة. الظاهرة وحدها هي شهرة فقاعية، ستزول بمرحلتها. طبعا لا أستطيع أن أمحو بسهولة من أذهان الناس تعاملهم معي كظاهرة، ولكن ينبغي أن تُقْرن الظاهرة بالقيمة الادبية من خلال كتاباتي. ظاهرتي هي أني تعلمت الكتابة والقراءة في العشرين من عمري. وهذا ليس ضروريا أن يجعل مني ظاهرة. إنه يسيء إلي.

يحيي بن الوليد: لنتوقف عند هذه الظاهرة ونسألك عن النصوص التي تم الاعتماد عليها في توصيفك ظاهرة.
محمد شكري: معروف أني مسحوق بشهرة كتابي الخبز الحافي .

يحيي بن الوليد: لكنك نشرت قبله مجموعة مجنون الورد عام 79.
محمد شكري: نعم.

يحيي بن الوليد: لماذا لم تنل مجموعتك نفس الشهرة؟
محمد شكري: لدي صدورها، نالت ما تستحقه من شهرتها في المغرب والمشرق وترجمت الي الفرنسية والايطالية بكاملها، وبعض قصصها ترجمت الي الانكليزية، الألمانية، الاسبانية والايسلندية. ثم إن القصص القصيرة لا تنال شهرتها الكبيرة إلا لدي كتابها الكبار أمثال غي دو موباسان، تشيخوف، وتورجينييف، بورخيس، يوسف إدريس ومحمد زفزاف. قد تكون مصحوبة بشهرة اصحابها الذين كتبوا روايات مثل جيمس جويس، وليم فولكنر وهيمنغواي وحتي سارتر وكامو. وطبعا هناك أسماء أخري كبيرة، لكن المجال لا يتسع لذكر الكل؛ فنحن هنا لا نسجل فهرسا لكل ما كتب في أي نوع من الابداع، إذ يكفي أن نلمّح. وعوْداً الي الخبز الحافي فإنها سيرة ذاتية- روائية واعتبرت عند صدورها وثيقة اجتماعية وتاريخية: الطفولة والشباب وعلاقتهما بالعائلة والمجتمع. يشترك في هذه الوثيقة الجيل الذي عشته وجايلته: فكلنا أولاد الاكواخ والدور الصغيرة. طبقة قليلة مغربية تعاونت مع الاستعمار هي التي أصبحت إقطاعية وخائنة. طبعا هناك شهداء الوطن الذين كانوا من البورجوازية السياسية المثقفة ثقافة فقهية، في معظمها، أو من طبقة شعبية أمية أو شبه أمية. ومن هذه الشريحة التي تناسلت تكوّن من ساهموا في معني المغرب الجديد، في تأسيس المغرب الحديث: أساتذة، أطباء، قضاة، محامون، سياسيون مناضلون، صحافيون، مهندسون، كتاب وفنانون... إلخ.

يحيي بن الوليد: نص الخبز الحافي هو خطاب أكثر مما هو نسق كتابي أو حكيُ كما سنلاحظ في نصك اللاحق زمن الاخطاء ، فقد كنت في الخبز الحافي مشغولا بتبليغ خطاب الاحتجاج قبل الاعتناء بما يسمي لعبة الحكي أو قواعد الحكي بلغة اصحاب المنهج البنيوي.
محمد شكري: ما يطغي في العالم الثالث هو الكتابة الاحتجاجية والتوثيقية لأننا لازلنا نبحث عن هويتنا التاريخية التي لم يكتبها التأريخ الرسمي المأجور: تاريخ الملوك والرؤساء، أما تاريخ الشعب وتحولاته الاجتماعية فلا يكتبه سوي الادباء والفنانين والمفكرين إن هم لم يتخاذلوا أو تغرهم الرسميات بمناصبها العليا؛ فإذا أردنا أن نقرأ البورجوازية الفرنسية، مثلا، فما علينا إلا أن نقرأ بلزاك وغيره. ولا يخلو الخبز الحافي، في بعض فصوله، من جمالية تقنية الحكي ولعبته.

يحيي بن الوليد: نجد أن جان جنيه يختلف عن الكتاب الفرنسيين.
محمد شكري: إنه متعدد الاهتمامات. فهو مخلخل لبعض الاخلاقيات سواء كانت في المجتمع الفرنسي أو غيره. يتجلي ذلك في مسرحياته مثل الخادمات، والشرفة وسياسيا أكثر حدة في السود و الحواجز . فهاتان المسرحيتان الاخيرتان فيهما انتقادات حادة للعنصرية والاستعمار. وكتب أخري مثل الأسير العاشق الذي يدافع فيه عن القضية الفلسطينية ومقاله صبرا وشاتيلا المتميز عن كل ما كتب عن مجزرة لبنان.

يحيي بن الوليد: وسيرته الذاتية مذكرات اللص .
محمد شكري: لقد عانق عصره دون أن يتخاذل أو يخجل من تشريح نفسه وغيره في هذا الكتاب. لقد قرأته عدة مرات، وأعتبره من أجمل كتبه. إن الادب قد يخلصنا من الواقع المرير.

يحيي بن الوليد: ولكن بالنسبة لجان جنيه لغته ونصوصه قوية علي مستوي الحكي.
محمد شكري: ومن قال العكس ؟ إنه مبدع كبير ولغته شاعرية وهو آخر الاسلوبيين الفرنسيين. له موهبة خارقة للمزاوجة بين الاحتجاج السياسي وانتقاد بعض الاخلاقيات. أما أنا فموهبتي لم تسمح لي بأن أكتب إلا بالطريقة التي كتبت بها. إن أي أديب غربي أو أمريكي، عندما يشرع في الكتابة الحكيٌ، يجد في حوزته تراكما في فن الحكي شبه مصقول ومحكم الحبكة عمره أكثر من قرنين. أما الاديب العربي فمخزونه محدود. فإلي غاية العقد الاول من القرن العشرين كانت عدته الاسلوبية في الحكي تعتمد في معظمها علي السجعيات. إنني لا أحب المقارنات الادبية، ولكنك حفزتني، وسؤالك يوحي بذلك.

يحيي بن الوليد: لا نريد أن ندخل في نقاش معرفي، ولكن مع ذلك يمكن لي أن أثير معك أنه علي مستوي التحولات الثقافية العالمية هناك عودة لافتة الي المهمشين الذين يصوغون خطاباتهم داخل نصوص حكائية، هكذا لكي لا نقول الرواية. والملاحظ أن محمد شكري يكتب بدوره عن الهامش. أريد أن أسألك حول هذا الهامش، هل هو هامش غير أعمي ؟
محمد شكري: ليس الهامش بل المُهمَّش. فالتهميش مفروض علي شخصيات كتاباتي ؛ فأنا ليست لي نفس الشروط التي كتب بها وعنها مارسيل بروست، وأندريه جيد أو مورافيا اجتماعيا وثقافيا. أنا أنتمي الي طبقة المهمشين، ولذلك أرد إليها الاعتبار من خلال كتاباتي علي قدر مكتسباتي الفنية. ومبدئي هو أن لا أخونها كما لا أخون نفسي.

يحيي بن الوليد: وأنت تقول إنك لا تريد أن تخون طبقتك ألا تري أنك تكتب عن هذه الطبقة من موقفك ككاتب، ألا تري في ذلك مفارقة ؟
محمد شكري: وهل تريد لي أن أظل أعيش في نفس الحضيض الذي عشت فيه حتي لا أخون طبقتي ؟ أنا أحاول أن أجمِّل ما هو قبيح في حياتي وحياة الناس بواسطة اللغة والاسلوب والصور السامية. الكتابة عن المنحط والمباءات بشكل سام. هذا هو مسعاي. ثم إنه لا يروقني أن تشبهني: (موقفك ككاتب)، فحرف الكاف هنا للتشبيه، وأنا كاتب ولست شبه كاتب.

يحيي بن الوليد: نبقي عند الخبز الحافي ، علي أساس أن ننتقل الي باقي أعمالك،ألا تري أن شهـرتك مقرونة بهذا الكتاب دون سواه من كتبك، ألا يزعجك ذلك؟
محمد شكري: نعم، أصبحت شهرتي بهذا الكتاب تزعجني الي حد ما. هناك كتب لي تسمو علي الخبز الحافي من حيث التقنية. هناك كتّاب سحقتهم مثلي شهرة كتاب واحد مع أنهم كتبوا كتبا أخري ربما أروع مثل فلوبير الذي سحقته شهرة مدام بوفاري مع أن القراء العاديين لا يلتفتون الي رائعتيه: بوفار إي بيكوشي إغواء القديس أنطوان بالاضافة الي سالامبو. أما سرفانتيس فلا يعرف إلا بـ دون كيشوت ودانتي بالكوميديا الالهية. وهناك كتاب ليسوا أصحاب كتاب واحد بل مكتبة.

يحيي بن الوليد: نجيب محفوظ عربيا.
محمد شكري:نعم. ودوستويفسكي، بلزاك، سارتر وكامو الي حد ما لأنه حمل الي قبره ما تبقي له من عبقريته.

يحيي بن الوليد: هل كنت تعتقد أن الخبز الحافي سيثير كل هذه الضجة ؟
محمد شكري: عندما كتبته أخذه محمد برادة وسلمه لسهيل إدريس الذي قال لي في رسالة: عليك أن تعيد كتابة سيرتك الذاتية. ينبغي لك أن تفلسفها... لكني لم أعد كتابتها. بقيت علي حالها الي أن نُشرت بالفرنسية فكان لها صداها المعروف. ومن خلال عائدات الترجمة نشرتها بالعربية علي نفقتي الخاصة، وكذلك فعلت مع كتبي الاخري. هكذا تخلصت من لعنة بعض الناشرين واحتيالهم.

يحيي بن الوليد: وعلي ذكر ما قاله سهيل إدريس، بخصوص الخبز الحافي ، أسألك بدوري ألم يكن بالامكان كتابة هذا النص بطريقة أخري ويثير نفس الضجة ؟
محمد شكري: لو أني أعدت كتابته لما كتبته بطريقة تختلف عن جرأة الطريقة التي كتبته بها. فهو مرتبط بمرحلة معينة وبحياة معينة وإن كان مازالت شرائح اجتماعية تعيش علي نفس النمط الذي وصفته في الخبز الحافي . هذا يعني أني لا أشعر بندم أو بذنب كوني كتبته كما كتبته. لا أستغفر شيئا فيه. ولو أني كتبته بطريقة أخري لما أثار نفس الضجة التي أثارها. إن الكثيرين الذين قرأوه تعرفوا فيه علي هويتهم.

يحيي بن الوليد: وأنت تصوغ وقائع هذا النص فمن هو المخاطب الذي كنت تفكر فيه ؟
محمد شكري: طبعا كل قارئ لهذا الكتاب قد يجد فيه ما يهمه فيعجب به أو لا يهمه فيقرف منه ؛ فإذا قرأه أحد المهمشين فسيجد فيه عزاء لنوع الحياة التي يكون قد عاشها هو نفسه، وإذا قرأه قارئ لا ينتمي الي هذه الشريحة الموجودة في هذا الكتاب فقد يجد فيه حالة أنتروبولوجية أو إيطولوجية عن طبقة معينة، وآخر يجد فيه حبه أو كراهيته. أما العقلية المحافظة المتزمتة فلا يمكن لها أن تقرأه إلا بكراهية واشمئزاز ؛ لأن الحياة الموجودة فيه لا تتلاءم مع مبادئها وأخلاقيتها. قد يجد فيه الطبيب النفساني شريحة اجتماعية مصابة ببعض العقد كالأوديبية، المازوخية، النزعة الإحراقية، الشذوذ الجنسي والدعارة في مستوياتها المتباينة. أنا لا أفرض نفسي لكي أختار قارئي الوحيد ؛ فهناك قراء متعددون، وهم يعرفون ما يقرأون وما لا ينبغي لهم أن يقرأوه. ففي كل قراءة هناك ذوق ذاتي بل حتي ذوق الذاتية الجماعية.

يحيي بن الوليد: لعل أهم ما حققه الخبز الحافي هو أن الشرائح الاجتماعية المختلفة لأول مرة تقرأ كتابا بهذا الشكل. يقرؤه المتسكعون والمشردون، يقرؤه ماسح الاحذية والاستاذ. لقد فتح أفقا قرائيا في المغرب. هل في هذا السياق يأتي توظيف العامية ؟
محمد شكري: لم يكن ذلك مقصودا كما يقصده بعض الكتاب علي الطريقة البختية. لم يكن ذلك مقصودا كما فعل برادة في روايته لعبة النسيان . عندما أكتب لا أستحضر نظرية الكتابة. طبعا استوعبت الكثير من الاساليب، كما قلت من قبل، لكي يكون لي أسلوبي. لو أنك سألتني بمن تأثرت من الكتّاب منذ ثلاثين سنة لكنت قد قلت لك بهذا التيار أو ذاك. ليس لدي هاجس استعمال الدارجة إلا عرضا. أنا من أنصار الكتابة بالفصحي. ومن لا يفهم كلمات الفصحي فعليه أن لا يتكاسل في استعمال القاموس. الدارجة المغربية انحطاط جاء من اللغة العربية وهناك من يقول العكس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى