احمد جبار غرب - تداعيات رجل يحتضر.. قصة قصيرة

لاشيء يغنيني الان عن قنينة خمر معتق فهي حبيبتي وملاذي الاخير اعانقها واقبلها لان سعادتي تكمن فيها.. انها تروي عروقي من ضما يسكن احشائي ويغتال احاسيسي،اشعر بالبرودة وقشعريرة في جسدي النحيل اذا ابتعدت عنها..اشعر بالتيه والانغلاق والسكون.لا حياة في داخلي سوى ماكنة تتحرك وفق نواميسها المعتادة..كثيرا ما اكون سريع الغضب والعن ذاتي واليوم الاسود الذي ولدت فيه، وكثيرا ما العن ألمسؤولية اريد ان اكون هائما ابتعد عن كل ما يثير احاسيسي.. لا اريد اطفال او زوجة او اصدقاء فكلهم مراءون، ونفعيون الكل ينظر لي بعين مصالحه او ينظر لي كجزء من تعامل يومي ممل يغلب عليه طابع الرتابة والاستحواذ على ذاتي.. ولدت وأنا حالم بأن كل شيء جميل في هذه الحياة، كنت غائبا عن الوعي وقليل الادراك.. وكانت مشاعري مستجدة ولازال زغبها ينمو ببطء. كنت احس بالفرح وإميل الى الضحك ومشاهدة الافلام.. خصوصا افلام الحركة والصراع كانت شخصية البطل تغويني.. ولطالما شعرت بالزهو لانتصارها على أعداؤها. اعتقد اننا نحلم ان نكون خارقين فوق العادة، او نريد ان نسيطر ونحتوي الاشياء المحيطة بنا وامتلاكها.. ربما القوة تجعلك مهابا ومحترما من قبل الاخرين.. انها تنشا بالفطرة وربما غريزيا او لشعورنا بالاضمحلال والضعف في حياة متصارعة مع ذاتها، ونحب ان نرتدي لباس البطولة حتى وان كان وهما، وكنت احب ان العب (الدعبل) وافرح لفوزي واحزن لخسارتي لكن مجرد حس بالشجن سرعان ما اتناساه في لحظات انها اشبه بالالتفاتة الى جهة ما ثم الاستدارة الى الوضع الطبيعي.. واعمل من الطين عندما تمطر السماء بغزارة منحوتات جميلة اضعها في الشمس لتجف..واستمتع بها، وربما اسحبها بخيط صغير لنذهب في رحلة صغيرة الى جوارنا..كنت ارى في المطر عالم خاص فيه سمو وروحية مقدسة يجذبني هطوله واستمتع بصوته المنهمر بغزارة وطالما ابهجني هذا المنظر وهو يسحبني الى مديات بعيدة من التصورات.. وعندما تفيض ساحتنا بالمياه نلجأ اليها حفاة الاقدام انا وأصحابي الصغار لننزل فيها لنشعر بمتعة بوهيمية غير مستدركة لما نفعله انه وله وعشق طفولي لا يقاوم… ان تتخلص من مسؤولياتك وان تكون البراءة هي عنوانك ذلك هو الشعور الذي يصاحبني..غير مكترث بما يحصل بالعالم حروب فيتنام او الفصل العنصري في روديسيا او الصراع حول كشمير او النكسة في خمسة حزيران او صراع الفيتكونغ مع كمبوديا..تلك المفردات التي نسمعها من المذياع ولا تعنينا.. ربما لم اسمع بها، فانا لي عالم خاص لا يتغير.. اكل واشرب وأنام.. كنت ما ان اضع راسي على الوسادة وماهي ألا لحظات حتى اصحو على جلجلة في ألمنزل لم تكن سوى عمل الفطور الصباحي المعتاد. وما ان اصحو واغسل وجهي واكل شيئا من فطوري دون ان اكمل الباقي حتى اهرع الى مدرستي.. لكني كنت مولع بشرب الشاي، كنت في الصف الثالث ابتدائي، كانت الحياة في المدرسة لم تكن سوى نزهة من اللعب والحركة ألدائمة، حتى اني لم اهتم بالدراسة ويوميا اوبخ من قبل معلمي، بل احيانا يضربني في (المسطرة) شريط القياس الخشبي كنت امثل امامه دور التحدي والبطل بالامتثال لما يريد، ودون اي احساس بالألم وهذا ما كان دائما يحصل وهو ما ينغص علي ويجعلني اكره المدرسة والمعلم،لا اريد ان يحاسبني احد.. اريد ان اكون حرا اعبث بما اريد دون لوم او تقريع او ضرب ..لحظات ويدق جرس المدرسة ايذانا بالخروج وعلى عجل نسرع وبفرحة غامرة الى حمل حقائبنا ونذهب الى حيث عالمنا الخاص واللعب واللهو وعند ما ارجع الى البيت ارى مشاجرة بين امي وأبي جدال مثير بينهم ينتهي بالضرب بقسوة لوالدتي فأجهش بالبكاء والى احتضان أمي لا اعرف لماذا يحدث ذلكم ؟عشت هذا المشهد البائس بشكل متواصل.. وهو يتكرر باستمرار طوال سنين ..بدأت اشعر بان هنالك ثقلا كبيرا انوء بحمله هناك تفكير وقلق ينتابني..تعلمت بعض المفردات ووعيتها..القوة والرجولة والحرام والحلال الخطأ والصواب استجمع في ذاكرتي مناظر مؤلمة عشتها في طفولتي منها ضرب امي بقسوة وضرب معلمي وعقابه لي دائما وعندما اسهر في المقهى للهروب من هذا الجو الكئيب وأعود اليهم يتناوبون علي بالضرب المبرح لم يفهموني سبب ألضرب لكن فهمت بعد ذلك انهم يخشون علية وهذا جزء من عقاب رادع لي في تصورهم لكني استمريت في حياتي وصخبها رغم كل هذا.. وكثيرا ما اتخاصم مع اصدقائي لأتفه الاسباب.. واستمر حالي الى سنوات المراهقة مزاج متعكر وحزن وانطواء تتخللها بعض اللحظات التي اصطنعها او اسرقها من الفرح في مناسبات او حفلات خاصة تقام في منطقتي ..حتى جاءت خدمتي العسكرية ولرسوبي في المدرسة فكان علي ان اخدم في الجيش وكانت هناك حربا ضروس تحدث يسقط فيها المئات كل يوم، دون اي مغزى حقيقي لها،انها حرب مجانية ندفع ثمنها نحن! افتعلها اناس مستبدون لا يهمهم وطن او شعب بل تهمهم طبقتهم وحزبهم.. وبعد تدريب شهرين سقت لأداء الخدمة في احدى القواطع القريبة من خط النار.. كان الصمت يلفني وعقلي شاردا افكر في مصيري وأهلي البعيدين عني، الذين اراهم كل يوم في مخيلتي وأمام ناظري واشعر بالاكتتاب والإحباط يحاصرني الى درجة اتمنى ان تأتي قذيفة وتقتلني! لا اسمع سو اصوات المدافع وأزيز الطائرات وهي تضرب مواقع هنا وهناك، وكنا نصمت بترقب ونتحمل قدرنا ونستجمع شجاعتنا عندما نكون في المواجهة لأنها تعكس شخصيتنا.. كنا نقضي ثلاثين يوما او اكثر من ذلك وكأنها ثلاثين شهرا..وعندما يأتي المساء تهجم علينا الغربة وينحصر تفكيرنا بالموت وعائلتي وأصدقائي، كم كانت حياتنا قاسية، في الهجوم تعلن شهادتك قبل ان تهجم وأنت تذهب الى الموت رغما عنك ومن اجل اهداف واهية يتمسك بها الطغاة، وعندما ينتهي الهجوم ترى الجثث المحروقة والأجساد الممزقة والروائح النتنة المنبعثة منها..تلوذ بالصمت او تتكلم مع نفسك بما يشبه الهذيان (لماذا يحصل كل هذا) كانت العسكرية قاسية جدا لا يمكن ان تطاق..ابتدائنا من الارزاق التي توزع الى المراتب الى المعاملة القاسية التي تتلقاها من اصغر مسئول (العريف) وتتحمل دون ممض لأنك ستتعرض للخيانة اذا ما واجهته او تكلمت معه بالمنطق في كلتا الحالتي انت ستخسر روحك.. انتهت الحرب بعد ان دفعنا الثمن غاليا ماديا وروحيا حرب اتت على كل شيء وأفرزت معطيات في كل جوانب حياتنا..كل شيء تتبناه لسلطة يتحول الى رجس وأشياء ممسوخة انتشرت حكايات اللامعقول والعبث في حياتنا الفساد والفقر والمرض كما انتشر المطبلين وأصحاب الابواق الذين يتلقون اموالا مقابل خدماتهم للنظام الثقافة أعدمت وكان بديلها ثقافة المديح والتسبيح بحمد السلطان، ازادت الطبقة الموالية للنظام وازدادت جموع الشعب فقرا على فقر وما رافق ذلك من حصار على النظام استهدف الشعب بالأساس وكأنما كان هناك اتفاق بين القوة العظمى وهذه السلطة.. بقيت عاطلا عن العمل لفترة طويلة..توفي والدي بكيت عليه بحرقة سكنتني العبرات وتشظت روحي انقباضا وهزيمة وانتكاسة،كنت التجأ اليه وقت الملمات ..كان يمثل لي ضمانة للمستقبل اتكئ عليها من هول الحوادث المرعبات التي تجتاحنا بين الحين والأخر . لكن بعد اسبوعان ذهبت لى السينما ربما لكي اتخلص من حزني والأمي.. بدأت اميل للعزلة والانطواء، ابتعد عن الاصدقاء فليل الكلام لكن في داخلي كلام كثير ترفض ان تبوح به ذاتي.. ووالدتي دائما ما كانت تقرعني وتوبخني لعدم الذهاب الى العمل كنت اصمت ازائها لأنها محقة فيما تقول لكني اتجرع كلامها بمرارة.. امي لا تفهمني جيدا لا تدخل لأعماقي ولا استطيع انا ان افهمها ماذا يعتمر في داخلي..كانت السلبية تجتاحنا وهي صورة مصغرة لحياة العراقيين جميعا وأخيرا اخبرتها ان (وجدت عملا سأعمل) كان لي صديق حميم اعرف منذ ايام الدراسة متفهم لظروفي اوعدني خيرا بتشغيلي في احد المطاعم التي يمتلكها اقاربه كان عملي هو ان اغسل الاواني وما يتبقى من وقت اقضيه نادلا اقدم وجبات الطعام للزبائن ورغم زهد الاجرة المعطاة لي إلا اني مضطر للعمل لحاجتي الماسة ، وعندما كنت اقدم الوجبات كنت ارسم ابتسامة زائفة على وجهي وفي داخلي مرجل يغلي يكاد ان ينفجر..عملي لا يطاق فانا دائم الحركة لا اتوقف دقيقة واحدة،قضيت اسبوعا وانأ اعاني من الام نفسية وجسدية اعطيت قسما من المبلغ لامي وأخذت الباقي اتصرف به..كان الحزن تشتد وطأته علي ولا سبيل للخلاص !ذهبت الى احد البارات لاشتري زجاجة من العرق وضعتها في كيس كانت لي تجربة الشراب في مراهقتي لكن ليس بشكل معتاد واغلبها تشكل المجاملات سبيلا لها..وطأت اقدامي البيت اخفيت العلبة في مكان امن اشعلت سيكارة كانت امي قد ذهبت قي زيارة طقوسية اعتادت عليها وبقيت انا وحدي في البيت..انتصف الليل وحظرت مزتي.. اطباقا متنوعة من الكرز والحمص المسلوق واللبن المغمس وبالخيار اشغلت جهاز الراديو ادرت مؤشراته لإيجاد صوت السيدة ووجدتها على اذاعة ألقاهرة كانت اغنية السهرة..احظرت عدتي وقدحي واخرجت الزجاجة كانت رائعة وبدأت اسكب في القدح وأضيف اليه الماء القليل..بعد دقائق احسست بالارتخاء وجسمي بالتنمل شعرت براحة كبيرة وانأ استمع لصوت السيدة وهي تهز اعماقي طربا وزدت من الشرب وصعدت الخمرة الى راسي تلعثم لساني هرعت من مكاني متنرنحا لا اقوى على الثبات والوقوف اضطررت للجلوس وأنا اسرف في الشرب ازدادي خدري وأصبح جسمي بخفة ريشة لم اعد استطيع ألكلام.. اطبقت على ما تبقى من القنينة من الخمروكرعتها، وسقطت القنينة من يدي المرتعشة شعرت بالدوران وبان عيوني تثقل لم اعد اتذكر..مرت امامي شريط من ذكريات مر سريعا كومضات من فلم سريع اللقطات،صمت وأغمضت عيني وازداد نبضي تسرعا لم اعد ارى شيئا انفاسي اضمحلت فقدت التذكر والوعي واستسلمت لنوم عميق علني لا اصحو بعد ذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى