إبراهيم سعد الدين - بَائِعَةُ الوَرْد.. قصة قصيرة

د ابراهيم سعدالدين.jpg

حكايتي ـ يا سادة ـ أغربُ من الخيالْ. مع أنها حكاية بسيطة لا خَيالَ فيها البَتَّة. فأنا أحَدِّثكم اليومَ عن مدينة ليس كَمِثْلِهَا مكان في القَلْب. هي ليستْ مدينة بالمعنى الذي قد يخطُرُ ببالكم، وإنّما بلدة وسط بين الريفِ والحضر، وأهلها أناسٌ طَيّبون بسطاء ـ أو هكذا كانت صورتهم في مُخَيّلتي قبلَ أن يشتبكَ قدري بقَدرهم في هذه المحنة التي لم أصادفْ ولا أظُنُّ أحدَكم قد صادَفَ مثلها من قبل. ألَمْ أقُلْ لكم إنّ حكايتي أغربُ من الخيالْ..؟!.

أحدّثكم اليوم عن بلدَتي، مسْقط رأسي الذي شهدَ مولدي وسِنيّ طفولتي وصبايَ وقِسْطاً لايُسْتَهانُ به من سنوات الشبابِ الأولى. هي ـ كما قُلْتُ لكم ـ بلدة وسطٌ بين القرية والمدينة، أهلها مُوَزَّعون ما بين الزراعة والتجارة، ولذا فهم يُفاخرون القرى والعزب والكفور المحيطة بأنهم أهل زراعةٍ وكَدٍّ وتعبْ وفي الوقتِ ذاته أهل تجارة وشطارة ولَعِبٍ بالبَيْضَةِ والحجرْ. ولبلْدتنا نَهْرٌ يُقَسِّمُها إلى شِطْرَيْها: الرِّيفيّ حيث البيوت الطينية الفقيرة الواطئة المتشابهة، والفلاحون بأجسادهم الخشنة وأقدامهم الحافية أحياناً المشققة بأثلامٍ عميقة عند الكعْبَيْن والحَوافّ غالباً وجلابيبهم القاتمة اللَّون المتسخة دوماً بالعرق والغبار والطين، ولهجتهم الريفية الجافَّة غليظة المخارج والحروف، وأحاديثهم الرتيبة المُعادة المكرورة عن التسميد والرَيّ والبذار والحصادِ والعلفِ وعشار البهائم .

أما الجانب الحضري ـ حيثُ التجار والحرفيون من خياطين وكوّائين وصانعي أحذية وما شابه ـ فقد كان أشبه بفَرْعٍ جميلٍ لا علاقة له بالأصل، فالناس هنا مُرهفو الحِسِّ ناعمو الملمس، بجلابيبهم النظيفة المكْوِيَّةِ دائماً وأصواتهم الرقيقة العذبة وأحاديثهم المثيرة التي لاتتركُ شاردةً ولا واردة من شئون الحياة إلاَّ وتناولتْها بألسنةٍ حداد وبديهة حاضرة ونكاتٍ وقفشاتٍ وتعليقاتٍ لاذعة. لم يكن غريباً إذن أنْ تجري العادة بيننا ـ نحن سُكّان الجانب الرّيفيَ ـ حين نعتزمُ عبور الجِسْرِ إلى الجانب الآخر من البلدة قوْلنا أننا نازلون إلى البلدْ، تماماً كما لوكُنّا مُسافرين إلى بلدٍ آخر خارج الحدود. ليْسَ هذا فحسْب، بل كنّا نحن سكّان الجانب الريفيّ مادّة للتندّر والفكاهة من أهل النصف الحضري من البلدة، الذين دأبوا على السخرية من سذاجتنا وضيق أفقنا ـ نحن الرّيفيين ـ وإطْلاقِ النكاتِ والنوادر الغريبة التي هي ـ أو بالأحرى القسط الأعظم منها ـ مَحْض افتراءٍ وخيالْ.

عُدْتُ إلى بلدتي هذه ـ ياسادة ـ بعد غِيابِ عشرين عاماً أمضيتها في طلب العِلْمِ والعملِ في عدة بُلْدان أجْنَبِيَّة أتاحتْ لي مُسْتوى لابأس به من العَيْشِ أغراني بأن ألبِّي نداء الحنين إلى الأهل والوطن، فحزَمْتُ متاعي ورَحَلْتُ غيْرَ مُدْرِكٍ بأن محْنتي سوف تبدأ في نفس اللحظة التي تطأ فيها قدماي أرضَ بَلْدتي التي كان شوقي إليها وإلى أهلها لا يوصَفْ.
حينَ هبطتُ من الحافلة التي أقَلَّتْني إلى البلدة تَلَفَّتُّ حولي غير مُصَدَّقٍ أن هذا المكان هو ذاك الذي سكن مخيلتي ووقرَ في الذاكرة طيلة العُمْر. كان كل شيء قد تغيَّر. قُلْتُ لماسح الأحذية الذي كانَ صبيّاً على عتبات الشباب ظلّ يُلِحُّ عليَّ مُسْتخدماً كلَّ عبارات الترغيبِ ليظفرَ بمسْحِ حذائي:
ـ محطة القطار.. ألمْ تكنْ هُنا..؟!
وأشَرْتُ له بإصبعي إلى المكان الذي قصدته. ظلَّ الصّبيُّ مُنْكَبّاً على عمله في صَمْتٍ دون أن يُحَوِّلَ بصره إلى حيثُ أشرْت. حين أعَدْتُ عليْه السؤالَ بصَوْتٍ أعلى رفعَ إليَّ عيْنَيْن خاليتَيْن من كُلِّ تعْبيرٍ:
ـ يا أفنْدي.. أنا سمعْتُكَ من أوَّل مرَّة.. لكنني لا أعرفُ عن أي قطارٍ وأيَّةِ مَحَطَّةٍ تتحَدَّثْ..!!
وخَبَطَ بالفُرْشاةِ على صندوقه مُعْلناً عن أنه قد فرغَ من عمله.
قُلْتُ لنادلِ المقهى الذي كان شابّاً في منتصفِ العُمْر أكثر بشاشةً ومودّة:
ـ متى أزالوا محطة القطارِ من هنا..؟!
قال وهو يهرشُ رأسه وكأنه يتذكّرُ حادثة موغلةً في القدم:
ـ أووه .. منذُ زمانٍ بعيدٍ جِدّاً .. كُنْتُ وقتها بالكادِ صَبِيّاً لا أكادُ أوْعَى على الدنيا.. كم سنةً صارَ لك بعيداً عن البلَدْ ..؟!
تجاهلْتُ سؤاله لأصلَ إلى بيتِ القصيدِ الذي من أجله طرَحْتُ سؤالي، فالقطار ومحطّته لم يكوناَ في الحقيقة أكبر هَمّي:
ـ وبائعة الوَرْد .. ألَمْ يكُنْ مَحلُّها هناكَ على ناصية الشّارع الصغيرْ..؟!
تَطَلَّعَ إليَّ الرّجُلُ بوجهٍ باهتْ وعَيْنَيْنِ فيهما من الشَّكِّ أكثر ممَّا فيهما من التصديق:
ـ بائعة وَرْد..؟! في هذه البَلْدة ..؟!
هَزَزْتُ رأسي مؤكِّداً وعُدْتُ أشيرُ بإصبعي إلى المكان.
زادَ التشكّكُ في عَيْني الرجل حتى اكتسى به وجهه كُلُّه وتلاشى تقريباً كلُّ أثرٍ للفهْم وهو يُحَدِّقُ في وجهي بنظرةٍ بدتْ لي غريبة في حينها. بادرني الرجلُ مُعتَذراً وهو ينصرفُ عنِّي إلى عمله:
ـ لا تُؤاخذني .. عندي عمل ..
أتاني صوتُ فلاَّحٍ يجلسُ داخل المقهى، يوحي مظهره بأنه من الوجهاء:
ـ ماذا يريدُ الأستاذ ..؟!
تجاهلَ النّادلُ سؤاله عن عَمْد، فتولَّيْتُ أنا المُهمَّة:
ـ كُنْتُ أسألُ عن محلِّ الورود.. الذي كانَ عند ناصية الشارع الصغير.. هُناك..
وعُدْتُ أشيرُ بإصْبعي. نظرَ الرجلُ إلى حيثُ أشَرْتُ وقالَ ضاحكاً:
ـ أمتأكدٌ أنتَ أنّك من هذه البلدة.. يا أستاذ ؟!
عَرَّفْتُه بنفْسي وأنَّني قضيْتُ عشرين عاماً بعيداً عن البلد، فقالَ مرَحّباً ومُتشكّكاً في الوقت ذاته:
ـ والدكَ كانَ رجلاً عاقلاً وفاضلاً.. يرْحَمهُ الله.
وعادَ يسألني:
ـ وأين قضيْتَ سنواتِ غُرْبَتِكَ يا أستاذ..؟!
قُلْتُ هازئاً به وأنا أدْرِكُ ما ينطوي عليه سؤاله من إيحاءٍ خبيثْ:
ـ قَضيْتُها بِمُسْتَشْفى للأمراضِ العَقْلِيّة.. أليسَ هذا قصْدك.. ؟!
ـ لا.. لا سمحَ الله يا أسْتاذْ.. لكن لا تؤاخذْني..
وتَنَحْنَحَ حتى يمنح نفسه فسحة من الوقتِ للبحث عن الكلمات المناسبة.
ـ لم يكن في هذه البلدة في أيِّ وقتٍ من الأوقات بائعةُ ورْد ..!!
قُلْتُ بصوْتٍ قاطعِ اليقين وجسدي كلّه مُحْتَدِمٌ بالغضبِ والانفعال:
ـ بل كانت هنا بائعة الوَرْد.. وكانَ اسْمُها سالي.
لا أدْري كيفَ أسْعفَتْني الذاكرة في هذا الوقتِ بالذات.. لكنَّ الموقفَ ازدادَ سوءاً على غيْرِ تَوَقُّع، إذ انفجرَ الرجل ضاحكاً حتى ارتجَّ جسده اللَّحيم، وجاراه رُوّادُ المقهى في الضحكِ كلٌّ على قَدْرِ جهْدِهِ وكياسته.
قالَ الرجلُ وهو يمسحُ وجهه وعيْنَيْه الدَّامِعَتيْنِ من أثر الضحك:
ـ هل تُريدُ نصيحتي إكْراماً لأهلكَ وناسِكَ الطّيّبين..؟ لا تَذْكُرْ هذا الحديث أمام أحدٍ غَيْرنا في هذه البلدة..
ولم يتْرُكْ لي أية فُرْصةٍ للرّدّ فأردفَ مستأنفاً حديثه على الفور:
ـ ما لَنا نَحْنُ والورْدِ يا أسْتاذ..؟! نحن فلاَّحون نزْرعُ ما نأكله ونلْبَسُه ونًرَبِّي ماشيتنا عليه.. ما حاجتُنا نحنُ للوَرْد..؟!
وعاودته نوبة الضحك مرّةً أخرى وهو يقول:
ـ وحتّى لو صحّتْ حكايتك عن الوَرْد.. فهلْ يصَدِّقُ أحَدْ أنّ سَالي هذا يمكن أن يكونَ اسْماً موجوداً ببلْدتنا هذه..؟!
ردَّ صوْتٌ من جوْفِ المقهى:
ـ رُبَّما كان سالي هذا اسْم الدَّلَعْ .. يا حَاجّ !!
تعالتْ عاصفةٌ جديدة من الضَّحِك، بينما اسْتََخَفَّ الطَّرَبُ أحَدَهم فأخذ يَنْقرُ بأصابعه على طاولة المقهى وهو يترنّمُ بصوْتٍ يخالطه خنفٌ بسيط:
ـ إسْم الدَّلَعْ .. سالي .. إسْم الدَّلَعْ.. سالي..
تعالتْ أصواتٌ أخرى فيما يُشْبه الكورس بينما استمرَّ المُغَنّي في النّقْرِ والتوقيعِ.. وارْتجلَ أحدُهم رقصةً عابرة على الإيقاع الذي أصبح تيّاراً هادراً لم تُفْلحْ معه أصوات العقلاء ونادل المقهى بالكَفِّ عن هذا الهذرْ.

غِيْرَ أنَّ هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر. الأسْوأ حقّاً كان ينتظرني بين أهلي وعشيرتي الذين لم يكونوا أقلَّ إصْراراً على إنكارِ قوْلي جُمْلةً وتفصيلاً، وباتَ واضحاً أن الجميعَ مُتَّفقونَ على أن الغُرْبَةَ قد أفسدتْ عقلي. بدا الأمرُ وكأنه مؤامرة قد حِيكَتْ بين الأقاربِ والأباعدِ على حَدٍّ سواء لدَفْعي كَرْهاً أو طوْعاً إلى الجنون. وإلاَّ فكيف أفسّرُ إصْرَارَهم هذا الذي يدعو إلى الدهشة على إنكارِ ما هو واضحٌ بذاكرتي وضوحَ الشمسِ في رائعة النهارْ..؟!.

كَانَ لها وَجْهٌ بَيْضاويٌّ ناعم يخالطُ بياضَه النّاصعَ مَسْحةُ شحوبٍ تُضفي عليه ظلاًّ حالماً. وكان لها عَيْنانِ لَوْزيَّتان وأنفٌ دقيق وشفتان رقيقتان كأنهما ورقتا ورْدٍ من تلك الورود التي تحيطُ بها من كلِّ صَوْب. وكان جِسْمُهَا مُسْتَدِقّاً مُرْهفَ الحِسِّ كأنه وترٌ في كَمَانْ. لا.. سالي كانت حقيقة واقعة وليسَ وهماً أو خيالاً. كُنّا ـ نحن الصغار ـ نمُرُّ بها جيئةً وذهاباً، في رواحنا إلى المدرسة الإبتدائية وغُدُوّنا منها، فنطيلُ التحديقَ إليها، ونظفرُ بابتسامتها الرائعة وكأنها نافذة مُطلّة على حديقة مُزهرة تنفتح لنا فتهبُّ علينا أنسامها الرّطْبة النّديّة المشبّعة بأطيابِ الورود وأريجِ القِدّاحْ. ومرَّةً أو مرّتيْن تبادَلْتُ معها بضْعَ كلماتٍ عابرة، ورأيتُ ـ عن كَثْبٍ ـ ما يُشبه غََمَامَةَ الحُزْنِِ الشَّفيفة في عيْنيْها النجلاويْن بلوْن البندق.
الشيءُ الذي كان يُدْهشني حقّاً هو كيف اجتمعتْ كلمة البلدة ـ بشِطْريْها الريفيّ والحضريّ ـ على نَفْي هذه الحقيقة مُتبرِّئين منها كأنها وصْمةُ عارٍ لحقتْ ببلْدتهم.

لمْ يكدْ يمْضِي يومانِ أوثلاثة على عودتي حتى كانت حكايتي على كل لسانٍ بالبلدة. وجدَ فيها الفلاّحونَ مُضغةً سائغة بأفواههم، يلوكونها مُسْتَلِذّينَ بطعْمها ومذاقها اللَّذيْن قطعاَ عليهم مللَ الحياة وإيقاعَها الرتيبْ. أمّا الحضَريُّونَ فقد أحالوها إلى مادّةٍ خِصبةٍ للتنَدُّرِ يحملونها معهم إلى المحالّ والمقاهي، يُضيفون إليها كلَّ يومٍ ـ دون تَحَرّجٍ ـ ماتجود به مخايلهم وقرائحهم من توابل وبهارٍ ومُنَكّهاتٍ تَفْتَحُ شهيّة السّامعين وتثير فضولهم. بَيْدَ أنَّ محنتي الحقيقية كانت مع الصّغارِِ والشبابِ الذين بدوا وكأنهم تحلَّلوا من كل قيمةٍ وتجَرَّدوا من كل حَياءْ. بعضهم ألّفَ الأراجيز والأهازيج ليشيّعني بها في غُدُوّي ورُواحي، وتجَرَّأ بعضهم في مخاطبتي بما لا يليق، حتى العقلاء الذين ظلوا مُحتفظين معي ببعض وقارهم كانت عيونهم ـ وهم يختلسون النظر إليّ ـ أشبه بلَدْغِ البعوضْ، ولم يكن بعضهم يستشعرُ أية غضاضة في مجاراة التيّار والاستهزاء بي متَسَتّرين أحيانا بكلمات التورية والتعريض، كأنْ يُوَجّه أحدهم إلى الآخر أو إليَّ شخصيّاً التحية قائلاً: يا صباح الورْد..! أو: مَسَاء الفُلّ واليَاسْمِينْ ..!! فتتفجَّرُ الضحكاتُ من حولي صَاخِبَةً ويبدأ فاصلٌ من التَّهْرِيجِ والمَسْْخرَةِ يَطالُني رَذَاذُه. بل إنَّ وفداً من وُجَهَاءِ البلدة أتى إلى بَيْتِنا في مَسْعىً حَمِيدْ لإثْنَائي عن هذا الشَّطَطِ الذي أضْحَكَ علينا أهْلَ البِلادْ*.
أخيراً اهْتَدَى الأهلُ والمعارفُ إلى العلاج النَّاجعْ. قال أحدهم كلمةً ما لبثَتْ أن أصبحتْ خطَّة عَمَلٍ واجبة النَّفاذْ.
ـ يا جماعة زَوِّجوه.. ربما يكون في الزواجِ إصْلاحٌ لِحَاله..

زَوَّجوني واحدة من الأقارب تصغرني بخمسَ عَشرة سنة، لكنها كانتْ أرْجَحَ منّي عَقْلاً. كانت لي نِعْمَ السَّلوى والأنيسْ. غيرَ أنَّ بائعةَ الوَرْد ظلَّتْ هاجساً يَمْلِكُ عليَّ نومي وصَحْوي، حتى رأيْتها في المنام ذاتَ ليْلة. كانتْ كما عرفتها دَوْماً، طيْفاً شَفَّافاً حُلوَ المُحَيَّا باسِمَ الثَّغر. قالت لي كأنها تَعْتَذِرُ لي عن ذَنْبٍ لا حِيلَة لها فيه:
ـ تَحَمَّلْتَ كُلَّ هذا لأجلي..؟!
قُلْتُ لها بيقينٍ بدا لي بَيِّناً:
ـ بل لأجْلي أنَا..
قالتْ وابتسامتها البيضاء تتَرَدَّدُ خَجْلى على شَفَتَيْها الوَرْدِيَّتَيْن:
ـ الآن جاء دَوْري لأتَحَمَّل عنكَ ما يُثْقلُ كاهِلَكْ
واكْتَسَى وَجْهُهَا بِمَسْحَةِ حُزْنه الشَّفيفْ. وحين رأتْ صَمْتي وسؤاليَ الحائرَ في عَيْنَيّ:
ـ سأرْحَلُ عَنْكَ أنا..
واسْتَدْرَكتْ حينَ الْتَمعَ الحُزْنُ في عَيْنَيَّ ونَدَّتْ عَنِّي زفْرَةُ ألَمْ:
ـ هذا بينَكَ وبَيْن النَّاس فقَطْ.. أمَّا ما بَيْنَنا فسوف يَبْقى سِرَّنا الخبيء الذي لا تَطاله أيدي البشَرْ..
ثُمَّ في أسى بدا ثقيلاً:
ـ ولا ألْسِنَتُهُمْ..

وتوارَتْ بسْمَتُها وهي تنسَحِبُ رُوَيْداً إلى فراغٍ بدا لي سَحيقاً لا قَرَارَ له. أمَّا أنا فقد صَحَوْتُ على وجه زَوْجَتي الصَّبوح وهي تقتربُ مني حاملةً صينِيَّة الإفطارْ. وأمَّا البلدة وأهلها فقد أيقنوا جميعاً أنني تعافيْتُ من وَعْكَتي التي أحدثتها بعَقْلي سنواتُ الغُربة الطَّويلة. لا يَعْرفون.. أنها تَزورني بين الحينِ والحين كُلَّما اسْتَبَدَّ بي الحنينُ وفاضَ الشَّوق، فأغْمِضُ عَيْنَيَّ على طَيْفها ونَمْضي مَعاً في أحاديث لا تَفْرَغُ بَيْنَنَا أبداً حتى تُداهمني لحظَة الصَّحْو.

* من المجموعة القصصية (مطرْ صَيْفي) الفائزة بجائزة الطّيّب صالح للإبداع الأدبي في دورتها الرابعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى