فؤاد قنديل - صاحب الشفاه القرمزية

لم أكن أعلم أنه تغلغل في كيانها إلي هذه الدرجة ، وأنه استولي علي وعيها ولا وعيها بصورة بلغت هذا الحد من الفزع في عز الليل صرخت : ماما … ماما .. قفزت من القراش بعد أن دارت فيه دورتين بحثاً عن سبيل .. لحقت بها قبل أن تقع ، لكني لم أستطع وأنا مفزع ومندهش أن أحول بينها وبين الوقوع علي ركبتيها وذراعيها ، ورأسها يرتطم بالدولاب ولا اكف عن قولي : – ماذا بك ؟ … ماذا جري ؟ ظلت تصرخ : – ماما … ماما تتأوه بسبب وقوع جسدها الثقيل علي الأرض .. تذكرت أني حذرتها عدة مرات أن تقول ياماما وهي في الخامسة والثلاثين .. زوجة ولها أولاد وعلي ذمة رجل . علي نور السهراية الشاحب الذي يصلنا منهكاً من الصالة عاونتها علي العودة إلي السرير تضع يدها علي وجهها في محاولة لطرد آثار الحلم وأنا أقول : – خير إن شاء الله .. بماذا حلمت ؟ – به – من هو ؟ – ألا تعرفه ؟ – من هو الذي أعرفه وهل كنت معك في الحلم ؟ .. عادت تولول وتقول : – آه يا ماما – يا ستي قولي .. ما الذي حدث ؟ – كان يجري ورائي ويصعد علي قدمي ، وحاولت إبعاده عنمي لكنه صعد إلي صدري ووجهي فصرخت .. – فهمت وأحسست بالخزي جلست علي السرير لأجمع أمري .. ألهذه الدرجة أنا عاجز عن قتل فأر يعيش في الشقة من عشرين يوماً وأتركه يتحرك متي يشاء وكيف يشاء . – طعنة بالغة في رجولتي أن تصل خطورة بقائه وأثره التعس إلي درجة أن تحلم به زوجتي ثم تصرخ وتحاول الفرار منه وتسقط من الفراش وأنا إلي جوارها أنعم بالغطيط العالي كما قالت هي بعد ذلك .. – سمعنا به لأول مرة في المطبخ فأخرجنا كل محتويات المطبخ قطعة قطعة وقضينا في ذلك نحو الساعة ورأينا فقط ذيله فتأكدنا أنه فأر ، زلكننا لم نستطع الإمساك به أو طرده واكتشفنا بعد ذلك أن أنتقل إلي حجرة الأولاد المجاورة الحجرة مملؤة بالأثاث المكدس ولا نريد لتفريط فيه .. إلي جوار السرير وتحته توجد حالة السمن وطشتين غسيل وفوق الدولاب وضعنا حقائب بها ملابس الشتاء ، وطقم صيني جهزته زوجتي للبنت وبعض الصور الكبيرة والأحذية التي لا يهون علينا أن نرمي بها مع القمامة ، ونخجل أن نعطيها لأحد المحتاجين . – في يوم آخر عكفنا جميعاً للبحث عنه في حجرتهم نصف نهار دون جدوي لأن الفرصة كانت أمامه للتحرك والنفاذ إلي أماكن لا يدخل إليها اي طفل ولا أي أداة من أدوات الطرد . – بقي الحال علي ما هو عليه ،، يقضي نهاره نائماً في حجرة الأولاد حتي منتصف الليل ثم يتحرك إلي المطبخ فيسهر فيه حتي السادسة والنصف بالضبط .. لم يخلف موعده يوماً كان في البداية يتنقل متخفياً ، فاصبح يمر سريعاً أمامنا ونحن في الصالة جلوس وبعد أيام قلت سرعته في العبور ، إلي أن غدا يمضي متسكعاً كأنه يتمشي علي النيل أو في بيت أبيه فرح الأولاد برؤيته وسموه ، فرفر أخذ يتصنت ليسمع أمسه وهم ينادونه به ، ويتبادلون التوقعات ، ولابد سمع الصغير كريم وهو يطلب مني أن أربط له فرفر بحبل ليصحبه معه إلي المدرسة أو مركز الشباب . – لابد أنه سمعهم يتحدثون عن أوصافه فمنهم من قال : – لقد رأيت بطنه البيضاء . وآخر يقول عن عينيه : – إنها حمراء – اما زوجتي فقد قالت : – لم أر في حياتي ذيلاً بهذا الطول . – وقال واحد منهم وأظنه الأصغر : – لقد رأيت اصابعه الصغيرة .. إن يده كيد النونو .. منذ عدة أيام حدثتني قائلة أنها أضطرت لإعادة صلاة الصبح مرتين عندما مر من أمامها عائداً في موعده من المطبخ . كانت قد انتهت من الركوع واستعدت للسجود وكان هو بالضبط يمر فلم تستطع أن تهبط برأسها إلي الأرض سلمت وخرجت من اللاصة واستغفرت ربها . لما دخل إلي مقره النهاري .. عادت للصلاة لكنها فوجئت بطيفه يعود إليها وتراه في جديد وهو يمر مترنحاً ثقيل الخطو ، هل كان يعب من زجاجة “السبرتو ” الموضوعة تحت الحوض لاحظت ذبوله وهزاله وتساءلت : – ربما لم يجد ما يأكله في المطبخ ؟ قلت : – علي أية حال أنا لا أقدر في هذه الأيام أن أنفق عليه لدي الأطباء صاحت : – أنا لم أفكر في هذا .. إنك لا تأخذ الموضوع مأخذ الجد فادنفعت قائلاً : – ولماذا لم تتركي الصلاة علي الفور وتضريبه ما دام هذا الحالة ! – تراجعت قائلة : – أضربه ! – كانت فرصتك للحصول علي المجد . – كيف أقترب منه وهو حي وأنا لو رأيته ميتاً لمت رعباً .. تزايد التعاطف الأسري معه يوماً ، ودفع إلي الظلام والتلاشي رغبتي في التخلص منه سواء بالعنف أو باللين . الأولاد يتحدثون عنه ويسخرون منه أحياناً أو نيعجبون بمهارته ورشاقته خاصة بعد أن أحضرت مصيدة ووضعت فيها الجبن والطماطم وهو يراها دون أن يعبأ وأحياناً يدخل إليها ويلتهم ما بها ثم يخرج دون أن تفلح في القبض عليه ، الأمر الذي يعد تواطئاً خطيراً من المصيدة . كنت قد عزمت إذا قبضت عليه المصيدة أن أشعل النار فيه ويراه الأولاد .. ليشهدوا مصير كل من يهد حياتنا لكن ذلك لم يحدث . وضعنا له اسم الفئران في كل مكان .. ودسسنا له التوكسافين في الأركان ونثرناه علي الأطعمة الجذابة وهو يمر بكل ذلك مرور المتعفف وقد يتذوق منها ما لا يؤذي المعدة أو يعكر المزاج أو يلوث الشفاه القرمزية وما لا يؤثر علي الجسد الممشوق والحركة الرشيقة كل الحويناتا حتي أحقرها يعلو ويعلو .. يتعلم ويتثقف ويعتبر … إلا المسكين .. لم يكن ينقص هذا الفأر إلا أن يلبس بدلي ويتعطر بعطر زوجتي .. أتذكر حركاته وهو يمشي في هدوء وثقة خاصة ف يالأيام الاخيرة قبل الحلم مباشرة .. كانت لحركاته لغة الاعتزاز ومشيته مشية الجنود .. وكان كمونه كمون الواثق المتوجس أو المهدد ولا المستنفر .. وكان قعوده المطمئن الذي لا يبالي وكان – والحق – يقال – ذا نظام مستتب كالليل والنهار من منا يا تري تحت الحصار .. هو أم أنا ؟ رأيته في حجرة الاولاد علي الجدار هائلاً عظيماً .. يلبس تاجاً ويرفل في ثياب قشية تبرق وتنبسط حواليه وشواربه تطول حتي لا يجدها الإطار . تتعلق بصدره النياشين والأوسمة ويده الصغيرة ترتفع نصف ارتفاعة لتحيي في كبرياء الجماهير التي لابد محتشدة أمامه خارج الصورة .. دامئاً خارج الصورة وهي تتلوي من السعادة بطلعته وبهائه . أحسست أنه سيعيش معنا إلي نهاية العمر وربما يتبعني وأنا ذاهب إلي الجنة هل تراه ضل طريقه ولا يعرف باباً للخروج من المستنقع النظيف أم أرسله الله خصيصاً إلينا ليبدأ من بيتنا مشروعاً لتوحيد كل مخلوقاته ودمجها جميعاً في مخلوق واحد .. الغزالة والفأر وفرس النهر والعصفور .. الحمار مع البرص والإنسان .. الفيل والنمر والذبابة مع البلبل والسلحفاة .. الكل يعيش ويندمج ويتشكل تشكيلاً جديداً واحداً منفرداً ثم تمر الأيام فيصبح أعزلاً وبائساً وضامراً وتغدو الطريق معبدة للتلاشي والفناء .. ما هذا الهراء ؟ ما هذه العبقرية ! .. لعنة الله عليه وعلي . جاء بعض الاولاد من اصدقاء أبنائي بدعوة منهم طبعاً لمشاهدة فأرهم .. فوجدوا صورة ضخمة لفأر علقتها دنيا علي الحائط وقالت لهم : – إن أبي يفكر في أن يزوجه ليملأ علينا البيت وقالت نهي : – لا أمل إلا بإحضار قطة . نهي تحب القطط ، وقد أحسست أن القدر يستجيب لرغبتها ويسهل لها الحصول علي قطة إذ بعث إلينا بهذا الفأر البارد الذي لا يحن إلي المناطق الخربة ولا إلي أهله ويبدو أن له طموحات حضارية ساذجة . نقل كريم هذه الصورة عن زيادة أصدقائهم إلي أمه فترسب في كيانها الموضوع كله كشئ استقر ببشاعته في حياتها فكان حلمها الذي هزني بعنف وأدهشني أيضاً لأني تصورت أنه أصبح واحداً من العائلة أو علي الأقل هناك رأي عام يوافق علي وجوده . وضعني الحلم مباشرة في مواجهة مع الفأر . إما أنا وإما هو .. أنا لا أخشاه أبداً ، بل إنني أستطيع التقاطه كما تلتقط الحرباء الذبابة لكن المطلوب فقط هو أن أراه فإما أن أتضاءل إلي أن أصبح في حجمه وأبحث عنه في حجرة الأولاد أو أسهر طيلة الليل في المطبخ أنتظره لنعقد الحوار اللازم . الغريب أنه لم يفكر في تغيير مقره الليلي أو النهاري ولا زيادتهما وظل بعيداً عن حجرة نومنا .. حريصاً علي عدم استفزازي وبذلك ضمن البقاء . بعد حلمها المستفز وتأملي في مرآة رجولتي قررت عمل أي شئ لبعث الطمأنينة في السيدة حرمنا ذات القلب الخفيف والتي رفضت أن تشاركني المهمة ولو بصفة مراقب . كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة .. إذن هو الآن في المطبخ .. أضأت النور وجلست علي الأرض أمام بابه وفي يدي الشبشب وفي يدي الأخري كوز ماء لإلقائه عليه حال خروجه لإعاقته عن الاندفاع في الجري ثم الانقضاض عليه بالشبشب .. هذه هي الافكار الرحبية وإلا فلا .. سمعت ، ما يشبه حك الأقدام .. ومضت الدقائق والحرارة ترتفع ولا يوجد إلا طقطقة واهنة ومر نحو نصف ساعة دون خروجه .. الحرارة اشتدت .. أمعنت التصنت .. ساعدني صمت الليل علي جلاء سمعي ، كل شعرة في جسمي وكل عصب يشاركني الاستماع . اكتشفت أن ما أتصوره حركة ما هو إلا تأوهات البوتاجاز تحت تأثير النار أطفائه وانتظرت ، ثم فتحت الفرن لعلي أجده مشوياً أو حتي مقلياً لكن مع الأسف . ذهبت إلي حجرة الأولاد فوجدتها مغلقة بإحكام علي غير العادة إذن هو لم يستطع الذهاب إلي مقره الليلي ، ولن أستطيع تحقيق الخلاص المأمول وهذه الليلة . دخلت حجرتي أفكر .. لماذا أغلق الأولاد الباب تواطئاً وحرصاً علي حياته أما إحساساً بالبرد أم سهوا .ز هو البطع ليس تواطئاً لأنهم إذا كانوا يحرصون علي حياته فسوف يتركونه يذهب إلي المطبخ حظه . ألفيت زوجتي منكمشة ومطوية علي نفسها مفتوحة العينين في أنتظار الخبر ، لكنها لم تسألني لأنها لم تسمع طلقة واحدة ضد العدو .. استدارت وأعطتني ظهرها .. تمددت إلي جوارها أفكر في خطة جديدة لم يكتمل تفكيري فيها .. لأني نمت . وفي الليلة التالية وحتي لا تروح علي نومه ضبطت المنبه علي الساعة الثانية وتأكدت أن الأولاد تركوا الباب موارياً ولو لبضع سنتيمترات . انشق الوجود كله فجأة ومزقتني صرخة زوجتي فقفزت مرة واحدة في خفة أسطورية إلي وسط الحجرة وتأملت الموقف .. شهقت زوجتي شهقة الموت وأشارت بحاجبيها لا بيدها وكانت قد أضاءت المصباح .. وجدت أمامي الفأر واقفاً علي قدميه وذيله كانت له عيون خرزية أراها بوضوح حمراء لامعة وشوارب فضية وفم أحمر مدبب وصغير .. بطن بيضاء وظهر رمادي معتم تلفت نحوي ونحوها .. يا نهار أسود فوق السرير … بني وبين زوجتي .. ولابد أنه مر عليها وعلي وإلا لماذا استيقظت . حاولت أن أتأكد أنه ليس حلماً .. وتذكرت سريعاً حلم الليلة الماضية لأنه فقط .. تيقنت أننا نعيش في الحقيقة .. الحقيقة البشعة بكل تفاصيلها وثقلها ووحشيتها . تجمدت في ومكاني ووقف هو يحدق وفينا ويتلفت ويعبث بيديه في شواربه ويفتح فمه الصغير الأحمر كأنه يتثاءب فأري أسنانه الصغيرة ليزداد فزعي من هذا الصغر الغريب في كل شئ وأنا أقبض يدي بشدة فتصرخ عضلاتي تحت لحم ذراعي وأري يديه مربعة الأصابع بالغة الضآلة فيتعاظم رعبي ، من هذه الضآلة الشرسة . كانت زوجتي قد تكورت وجلست كلها فوق ركن صغير من الوسادة ويدها علي فمها تمنع نفسها من أن تغضبه بأنفاسها وهو هناك في طرف السرير وأنا في وسط الحجرة متحفزاً كالمارد ولكنني أنحني قليلاً لأستعد للخطوة التالية التي لا أعرف بالضبط ما هي .. كنت لا أزال أفتش عن عقلي وأعصابي وقدمي لا أحس بهما وهما في الأرض مغروستان . هل كان يا تري يدرك كثافة المصير ؟ أم أنه يراه ويطمئن .. .. كانت ظلاله المهيبة تنتصب علي الحوائط التي وارءه بينما كان يعبث في شواربه ويمصمص شفتيه ولا يعبأ

فؤاد قنديل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى