باسم فرات - مصير حياة

في دُكّان صديق أبي ومعلمي الحَذّاء، طرق الشعر مسامعي، وأنا ابن الثامنة من العمر، فلأول مرة أسمع كلامًا استولى عليّ تمامًا، كلامًا ليس في مدح نبيّ أو إمام أو في رثاء رمز ديني، أو واقعة تاريخية اصطبغت بنكهة عقائدية أزاحت التاريخ بعيدًا، مثلما تعودتُ أنا الطفل ابن مدينة الدموع والأسى وشعائر البكاء في أول شهرين من كل سنة بحسب التقويم الهجريّ؛ كان شِعرًا مختلفًا، هو ما كان يُنشر في صحيفة «طريق الشعب» لسان حال الحزب الشيوعي العراقي، ومن حينها بدأت أستغل طلب «معلمي السيد محسن» لشرائها، فأقرأ ما تيسّر لي، في المسافة الفاصلة بين «باب قبلة الإمام الحسين» ومكان العمل، مثلما أستغل فترة غيابه عن الدكّان لقراءتها.
لم يكن ثمة شخص يمكنني أن أسأله مساعدتي، ولم أتجرّأ على البوح بحبي لما كان يتلوه وأصدقاؤه، فهو كان صارمًا بعض الشيء، ولن أنسى موقفه حين تعرضت لجرح في يدي اليسرى في أثناء تنظيف الدكّان، نَقلتني امرأة تتسوق من بائعي الخضروات والفواكه الذين يعرضون بضاعتهم صباحًا قبل بدء الدوام الرسمي لمؤسسات الدولة، كانت تصرخ بالرجال تستنهضهم وهي ترى دمي المسفوح، وخوفي أو دهشتي التي منعتني من البكاء، وجعلتني أقف على طرف الدكّان أمام الناس، وكأني أقول لهم «ألا من منقذ ينقذ طفولة يتيم سفح اليُتم طفولته والآن سفحت دمه هذه المرآة التي أرادها مُعَلّمي أن تقرّب إليه القادمات من الخلف ليتمتّع بأنوثة الجميلات منهم؟».

في أثناء زيارته لي في بيتنا، في يوم الحادث مساءً بعد خروجي من المشفى، نهرني بصرامة لأني أبديتُ تألـمًا، ولم يمض على الجرح الذي احتاج إلى ستة عشر غرزة، أربع عشرة ساعة، وحين عدتُ إلى العمل بعد استراحة قليلة جدًّا، كان يصرّ أن تكون درسًا لي ولم يعتذر بأنه جعل المرآة منحنية للأرض لأن ذلك يجعله يرى الفتيات وهنّ مقبلات بجمالهن وأنوثتهن من الخلف، أو ما سببته صفيحة زيت «دهن الراعي» ليبقى أثر طفولة بائسة عشتها معي إلى الآن شاهدًا وشهيدًا.

في العاشرة من عمري، انتقلتْ أسرة عمّتي من بغداد إلى بُستانهم في شمال كربلاء، فذهبت في زيارة إليهم، وأول ما التقيت ابن عمّتي «محسن» بادرته بعد التحية قائلاً «أريد أن أصبح شاعرًا»، قال لي اقرأ شعرًا كثيرًا واحفظ، ولأنّي كنتُ شغوفًا بأبي نؤاس، لأن مُعلّمي «السيد محسن» كان مع أصدقائه، يشدون بشعره إعجابًا، وما سمعته من جدّتي عن نوادره، سألتُ ابن عمتي أن يعيرني ديوان أبي نؤاس، وقلت له أريد شعر خمريات هكذا، أنا ابن العاشرة، قد أدمنت شعر الخمريات لأبي نؤاس والتي هزتني هزًّا بسحرها، وأقول سحرها لأنني لم أكن أفقه سوى هذه الكلمة، والتي بعد أعوام طويلة علمت أنها تعني الصور الشعرية والمجاز واللغة المشعة المبتكرة في منجز هذا الشاعر الفذّ حقًّا.

أول كتاب ألمسه بيدي وكان منه، هو رباعيات الخيام ترجمة «مهدي جاسم» لأن مُحسن وشقيقه خُضير اقترحا هذا الكتاب، وأخبراني حين اعترضت، أنه مملوء بالخمريات، لكن أول ديوان قرأته فعلاً وبعض قصائده أو أبياته أعدت قراءتها مرارًا، هو ديوان الشاعر عمرو بن قميئة، ومن ثم المعلقات العشر للخطيب البغدادي، فبقية شعراء ما قبل الإسلام، الذين فتنت بهم ولكن تبقى فتنتي بأبي نؤاس أكبر لا ينازعه عليها سوى طَرَفَة بن العبد، وأعني حين وصلت إليه بعد أن قرأت للشعراء الذين سبقوا أبا نؤاس.

ذهابي إلى ابن عمتي وإخباره بهاجسي وهمّي ورغبتي وطموحي بأن أصبح شاعرًا وأنا في تلك السنّ المبكرة، أعدّه حدثًا مهمًّا ومفصليًّا في حياتي، فلم يعد ما قبله مثل ما بعده، فمنذ ذلك اليوم، بدأت بدلاً من شراء ليلى والذئب قبل ذلك بعامين، وكدتُ أن أتعرّض إلى عقوبة لأنّ جارنا، وأمام جَدّتي لأبي راح يوضّح تفاهة الكتاب، المملوء رسومًا بحسب تعبيره؛ لكنني إذ قادتني نكهة الطفولة إلى شراء ليلى والذئب وأنا لم أسمع بها، فلأنني كنت أطيل النظر أمام المكتبات، ولم أكن أعرف أيّ الكتب تنفعني، واحتجتُ إلى عامين تقريبًا، كي أبدأ بقراءة الكتب التي كنتُ كلّما أنتهي من واحدٍ منها، أشعر بحاجة ماسة إلى قراءة كتب أكثر.

ذلك الحدث لم أنس تفاصيله، فما زالت الصورة واضحة للغاية، في ممرّ البستان المؤدي إلى بيتهم، وقد حجبت ظلال النخيل وأشجار الحمضيات أشعة الشمس من اختراق المكان، وقد دخلت البستان ووصلت إلى مقربة من البيت، التقيت بابنَي عمّتي محسن وخضير، وأخبرت محسنًا وسألته إمكانية الحصول على ديوان أبي نؤاس، كان سحر شعره وأنا أسمعه بصوت معلّمي السيد مُحسن قد جعلني أسأل ابن عمتي عن شعر هذا الشاعر كما ذكرت، (يا للطرافة معلمي في العمل الذي بسببه أحببت الشعر وتعلقت به وقرأت صحيفة طريق الشعب، اسمه مُحسن، وابن عمتي وأوّل معلّم لي في الشعر والقراءة كذلك محسن).

محسن وخضير في ذمة التاريخ، فقد تم إعدامهما مع ابن عم لنا في رمضان 1991 ولم نعثر على جثثهم، وأما السيد مُحسن فقد بحثت عنه كثيرًا في كربلاء ولم أتوصّل إليه، وأمنيتي أن ألتقيه لأشكره على صنيعه الذي يجهله، ولا أدري هل لا زال على شيوعيته أم جرفته تقليعة التديّن، التي جرفت كثيرين بلا حساب، لكن ما أنا واثق منه، أن تلك الحادثة-الزيارة، قد وضعتني على طريق الكتاب والشعر والثقافة عمومًا، وهي شهادتي بأنني أتيت الشعرَ طفلاً، وعمّدتني القراءة منذ نعومة أظفاري، وأن علاقتي بالشعر بلا منفعة بسبب مراهقة أو عواطف جياشة، بل علاقة شعرية نقية تمامًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى