عباس محمود العقاد - من وحي المرأة

من أعجب ما يلاحظ على آداب الأمم قلة ما نظمه الشعراء في رثا النساء، ولا سيما الزوجات

فعلى كثرة الغزل في المرأة نرجع إلى شعر الأقدمين والمحدثين وإلى شعر العرب وغيرهم من الأمم، فلا نرى في لغة من اللغات إلا قصائد معدودات في رثا النساء والزوجات منهن على الخصوص

فليس أكثر مما نظمه الشعراء في التغزل بالمرأة، ولا أقل مما نظموه في الحزن عليها

وقد رثى شعراء العربية الأمهات كرثاء المتنبي لجدته ورثاء الشريف لأمه، ونظموا العزاء في أخوات الأمراء وقريباتهم، كما نظم المتنبي تلك القصيدة اللامية في رثاء أخت سيف الدولة، ولم ينس أن يقول منها:

ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال

كأنه يعتذر من هذا الشذوذ في قواعد الرثا بحالة مستثناة لا يقاس عليها، وهي حالة هذه السيدة التي تفضل السادة الرجال!

بل وجد في صدر الإسلام من يرثى امرأته معتذراً حيث يقول:

لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار

ولم يظهر المعنى الإنساني في رثاء المرأة - حليلة كانت أو غير حليلة - قبل عهد ابن الرومي الذي قال في بستان المغنية:

بستان وا حسرتا على زهر ... فيك من اللهو بل على ثمر

وقال من القصيدة بعينها يذكر وفاتها في ريعان الشباب:

يا غضة السن يا صغيرتها ... أصبحت إحدى المصائب الكبر

ورثني امرأته رثاء على هول الفجيعة فيها فقال:

عينيَّ سحا ولا تشحا ... جل مصابي عن العزاء

ونظم قصيدة أخرى في مثل هذا الرثاء

وليس بالعير تعليل هذه الظاهرة المتفقة في جميع الآداب العالمية، فإن الأمر مرتبط بمك الزوجة في العصور القديمة، ثم في هذه العصور الحديثة. ومما لا اختلاف فيه بين الأمم أن الزوجة كانت في اقدم كالقنية المملوكة التي لا فرق بينها وبين الجارية الرقيقة، ثم ارتفعت مكانتها فظهرت الزوجة ربة البيت، ولكنها لم تزل في عرف المجتمع شهوة من شهوات الضرورة التي يلجا إليها الرجل في ساعة ضعفه أو الساعة التي تغلبه فيها الطبيعة الحيوانية، ولم تظهر المرأة التي هي (شريكة حياة)، أو سكن للرجال كما جاء في القرآن الكريم إلا في العصور الأخيرة، وإن كانت لها رائدات سابقات بين بعض الأسر فيما تقدم من العصور فالشاعر كان يتغزل في المرأة ولا يخجل من ذلك لأن الغزل منسوب إلى الظرف واللباقة.

وكان يرثى أمه أو جدته لأن حب الأمهات والجدات محسوب من البر المشروع الذي لا ضعف فيه.

وكان يرثى أمهات الأمراء وقريباتهم، لأن عزاء الأمراء واجب من واجبات المفروضة عليه

ولكنه لم يكن يرثى الزوجة المتوفاة، لأنها شيء يخصه ولا يفهم معنى الفجيعة فيه عند أبناء عصره إلا على معنى الضعف الذي لا يجمل بالرجال، وكيف كان يجمل بهم أن ينفجعوا على الزوجة المفقودة، وقد كانت زيارة قبرها مما يحتاج إلى اعتذار؟

ولا شك أن آداب الأمم هي خير مسجل لأخلاقها الاجتماعية سواء تعمدها الشعراء أو لم يتعمدوها

فمن الظواهر الحديثة التي تسجل في الأدب العربي - أو الأدب المصري - أن الزوجة (شريكة الحياة) تمثلت في شعرنا العصري تمثلاً واضحاً بليغاً صادق المدلول، لأننا قرأنا في سنوات متقاربات ديوانين كاملين في رثاء الزوجة الفقيدة، وكلاهما لم يكن ظهوره بالمفهوم قبل هذا الجيل، لأن وجود شاعرين اثنين يفيان لذكرى فقيدتهما لا يكفي لإظهار ديوانين في هذا المعنى، ما لم يكن هذا المعنى ملحوظاً مقدراً عند الكثيرين من أبناء الجيل الذي ينشان فيه

قرأنا بالأمس ذلك الديوان الحزين الذي نظمه الشاعر المطبوع الأستاذ عزيز أباظة بك وسماه (الأنات الحائرة)، لأنه أقوى من أن يسمى بالدموع وقرأنا هذه الأيام ديواناً آخر في هذا المعنى للشاعر الألمعي الأستاذ عبد الرحمن صدقي سماه (من وحي المرأة)، لأنه لم يكن إلا وحياً فاض به حزنه على فقيدته العزيزة، فخرج في جملته منظوماً كأنه لا يحتاج إلى ناظم، وجاء فيه بقصائد ومقطوعات ستبقى في عداد الشعر الخالد، سواء منه ما نظم في هذا الموضوع أو غير هذا الموضوع

ويدل على أن ظاهرة الزوجة شريكة الحياة هي الباعث على نظم هذين الديوانين أنهما قد نظما في زوجتين لا تجمع بينهما صفة تعزها غير صفة المشاركة في الحياة، فلا يقال إن القرابة هي باعث الرثاء، لأن إحدى الزوجتين أجنبية عن البلد فضلاً عن الأسرة، ولا يقال في الذرية هي علة الإعزاز، لأن إحدى الزوجين لم تعقب ذرية بعدها، ولا يقال إن الحب العاطفي هو مصدر هذا الوحي، لأن الحب العاطفي قد يوجد ولا يوجد معه التفاهم في الأفكار ولا التعاون على أعباء الأسرة وشواغل النفوس، ولكنها المشاركة في الحياة وحدها هي التي يرجع إليها الإيحاء بهذين الديوانين، حين فهم العصر كله معنى الزوجية التي تقوم على هذه المشاركة بين حياة إنسانيين

والزوجة شريكة الحياة - حياة الأديب على التخصيص - هي التي يقول الأستاذ صدقي في وصفها:

وكنت الغني من مشكل بعد مشكل ... وعقدات نفس تستديم قلاقلي

مشاكل شتى: حاجة النفس للهوى ... وحاجة ذي حس، وحاجة عاقل

جمعت لي الدنيا فأغنيت مُعدمي ... وأمتعت محرومي وزينت عاطلي

أو يقول في ذكرياتها من قصيدة أخرى:

وخبر رفيق أنت في كل رحلة ... وخير سمير للحديث ينضد

ونجلس في حضن الطبيعة صمتنا ... مناجاتها - إن الطبيعة معبد

ونجلس للأشعار ندرسها. معاً ... كأنْ ليس غير الكتب في العيش مقصد

وقد تكون شريكة حياة ولا يكون قوام المشاركة بينها وبين قرينها طول الشغل بالدراسة والمطالعة، كما قال الأستاذ عزيز في قصيدته الدالية في يوم ميلاده:

أقول والقلب في أضلاعه شرق ... بالدمع: لا عدت لي يا يوم ميلادي

نزلت بي ودخيل الحزن يعصف بي ... وفادح البث ما ينفك معتادي وكنت تحمل لي والشمل مجتمع ... أنساً يفيض على زوجي وأولادي

فانظر تر الدار قد هيضت جوانبها ... وانظر تجد أهلها أشباح أجساد

فقدتها خلة للنفس كافية ... تكاد تغني غناء الماء والزاد

ومرئلا أحد الأمن الكريم ... إذا تعاورني بالبغي حسادي

تحنو علي وترعاني وتبسط لي ... في غمرة الرأي رأي الناصح الهادي

وهذه هي صفة الزوجية التي تشترك فيها حياتان بالرأي والعطف، وتكاد تغني غناء الماء والزاد، بل تكاد تجعل يوم الميلاد يوماً مشتركاً لا يستقل فيه الزوج بذكرى ولادة له لا ترتبط بذكرى الزواج

هذه الحياة أعجوبة الأعاجيب، وهي أعجب ما تكون في مألوفاتها الشائعة كل صباح ومساء، ومن تلك العجائب أنها لم تجود بخير لا شر فيه ولا تصيب بشر يخلو كل الخلو من الخير. وليس عزاء الإنسان على شطر نفسه وصنو حياته باليسير، ولكنه على كل حال من العزاء النبيل للشاعرين الفاضلين أن مصابهما قد أغنى الأدب العربي بهذه الذخيرة النفيسة، وسجل للمجتمع المصري هذه الظاهرة الكريمة التي تقترن أبداً بالتهذيب والاتقاء.

عباس محمود العقاد



مجلة الرسالة - العدد 625
بتاريخ: 25 - 06 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى