وجيه كوثراني - القراءة والكِتاب والنهضة

يصعب في هذا الثالوث من العناصر (القراءة والكتاب والنهضة) تبيّن السبب من النتيجة، أو تحديد طبيعة العلاقة التراتبية أو الزمنية بينها، لكن النظر التاريخي والبنيوي للمسائل وللظاهرات يظل يميل إلى اعتماد السببية في التفكير، من دون إغفال بالطبع جدلية العلاقة بين العناصر، أو العلاقة البنيوية بينها.

ولعلّه من المفيد في مثل هذا النظر التاريخي أن نتذكر أوجهاً من هذه العلاقة مجسّدةً في تجارب تتذاكرها وتتناقلها كتب.

قيل إن عدم تأثير الكتاب العربي النهضوي في الأفكار يكمن في نخبويته، (وكأن النخبوية نقيصة أو مسبّة) أو سبب في عدم القراءة، قول يدعو حقاً للتساؤل: لماذا كان لخطاب نخبوي في بلدان أخرى، دور في النهضة؟

يحدثنا مؤلف كتاب "المعجزة في الاقتصاد" آلان بيرفت، عن حالة ثقافية يابانية تتجلّى في قراءة كتاب ياباني، عنوانه "تحفيز على التعلم" للكاتب الياباني الإصلاحي، يوكيشي فوكوزاو 1835 - 1901، ومضمونه حض اليابانيين على تعلم العلوم الاجتماعية والعلوم الفيزيائية، والاستفادة من "الدرس الغربي".

صدر الكتاب بطبعته الأولى في عام 1872، بـ220,000 نسخة، ثم تجاوز الستة ملايين خلال ثلاثة عقود. هذا يعني أنه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان هناك ملايين من القرّاء في اليابان، وأن الأمية زالت عبر تعميم المدرسة. فهل بالإمكان فرز العلاقة في هذا الثالوث (الكتاب والقراءة والنهضة)؟

في كتاب المؤرخ الفرنسي، اندريه ريمون "مدخل إلى التاريخ المعاصر"، مضمونه معالجة تاريخية لمقدمات الثورة الفرنسية خلال قرن الأنوار، الثامن عشر، وتداعياتها خلال قرن الثورات، التاسع عشر، تشديد على التعليم، بوصفه جسراً للقراءة، "فكلما أصبح التعليم إلزامياً كلما وجد قرّاء جدد في حالة الكمون". في أواخر القرن التاسع عشر كان الفرنسيون جميعاً قد مروا تقريباً بالمدرسة. وكانت قد تحققت إلزامية التعليم ومجانيته في معظم بلدان أوروبا الغربية. والقراءة بدورها ترتبط بمدى القدرة المالية. لذا فإن خفض أسعار الصحف والكتب بفضل التقدم التقني، كان يسير تدريجياً منذ منتصف القرن التاسع عشر باتجاه التوافق بين أعداد النسخ المسحوبة من الصحف وأعداد الناخبين. يشير المؤرخ الفرنسي إلى تطور هذا الخط فيقول "... إذا كان سحب مجموع الصحف اليومية من 200 إلى 250 ألف عدد - يغطي كل البلد وذلك عشية ثورة شباط 1848، فإن السحب في فرنسا بلغ عشية سنة 1914، ثمانية أو تسعة ملايين عدد - يقابلها أكثر من عشرة ملايين ناخب بقليل". ثم "أخذ خط سحب الصحف يقترب من عدد الناخبين حتى تساوى الخطان بين الحربين العالميتين". ويستنتج المؤرخ: "كل هذه التجديدات جعلت من الديمقراطية حقيقة واقعية وليس فقط مبدأ مدونا على جبين النظام".

وإذا كان المثل الياباني وكذلك الفرنسي، يردّانا إلى أهمية القراءة في نشر الأفكار المجددة، فإن أمثلة أخرى من بدايات النهوض في بلدان أوروبية تؤكد على المسار نفسه. لاحظ المؤرخ الإنجليزي لورنس ستون L. Stone أن الثورات الحديثة الثلاث الكبرى: إنجلترا السابع عشر، وفرنسا الثامن عشر، وروسيا التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تتوافق في هذه البلدان الثلاث مع الفترة التي وصل فيها محو الأمية إلى نصف السكان. ويستشهد ريجيس دوبريه للتدليل على أهمية القراءة في بعث عصر الأنوار بقولٍ للفيلسوف كانط يتساءل فيه: "ما هي الأنوار؟"، ويجيب الفيلسوف: "إنها الاستخدام العام والحرّ لعقلنا، وأعني بالاستخدام العام لعقلنا استخدامه أمام مجموع الجمهور الذي يقرأ".

هل نتفاءل اليوم، نحن العرب، ببداية نهضة، لأن محو الأمية في مجتمعاتنا وصل إلى نصف السكان في آخر القرن العشرين؟! وفي هذه الحال، ماذا كان دور القرنين السابقين؟ وماذا فعلنا خلالهما؟ ولِمَ كان ذاك البطء في حركة الأفكار طيلة كل هذه المدّة؟ وما كانت نسبة القرّاء؟ وماذا قرأ القارئون وماذا يقرأون اليوم؟
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى