محمد علي الرباوي - ولد عباس يقول الشعر باليوسفية

شارعُ عبد الكريم الخطابي بمدينة اليوسفية، تتوسطه نافورةٌ، يخرج الماء منها بألوان قوس قزح، تصحبه موسيقا رائعة. كانت مقهى الزهراء في الجانب الأيمن من النافورة. أخذني مقعدٌ بين أحضانه. كانت القهوة شديدةَ المرارة. كلما أخذتني جرعةٌ منها حملتني إلى بحار لا سواحل لها. أغرقتُ وجهي في كتاب البخلاء. أقرأ... ولذةُ القراءة تجعل الصفحات في سباق، تمر الأولى، فالثانيةُ، فالثالثة، ف......، ولكل صفحة طعم خاص. رفعتُ عينيَّ عن الكتاب؛ لأسمح للقهوة بأن تسوخ في حلقي المر. طفلان في عمر الفرحة يقطعان الشارعَ، وكأنهما قادمان نحوي. الأول يرتدي سروالا قصيرا، وقميصا ملونا، والثاني يرتدي سروال دجين، وقميصا بُنِّيا. يبدو أنهما عائدان من المدرسة. الغريب أنهما وقفا أمامي، وأخذت عيونهما تسبحان في بحر وجهي، وتلعبان بموجه الهادئ. وشوشةٌ بينهما، لم أتبين أي شيء. تقدم صاحب السروال القصير نحوي ثم قال:
- "أأنت محمد علي الرباوي؟".
استغربتُ أن يعرفني طفلٌ في هذا العمرُ، وفي هذه المدينة النائية التي جئتها للمشاركة في قراءات شعرية. أجبت الطفل:
- "نعم...".
اِلتفت إلى صديقه قائلا:
- "ألم أقل لك يا مهدي إنه هو؟".
ثم طلب أن يجلسا ضيفين علي، بعد أن أخبرني بأنه شاهد حلقة مشارف التي قدمني خلالها الشاعر عدنان ياسين. الطفلُ ذو السروال القصير اسمُه ولد عباس، والطفل الثاني اسمُه مهدي ناقوس.
وضع النادلُ عصير ليمون أمام ولد عباس، وعصير لَوْز أمام المهدي. كان ولد عباس شديد الحركة، بينما المهدي يبدو هادئا. صمتٌ دام حلمين اثنين، ثم لمحت ولدَ عباس يُخرج ورقة من جيبه، ويقدمها إلي. قلت له:
- "ما هذا؟".
رد:
- "هذه أول قصيدة كتبتها، وهي على المتقارب. شعرك الذي استمعتُ إليه في البرنامج هو الذي حرك في قول الشعر".
أخذتُ الورقة. أدهشني الخطُّ الجميل الذي يملأ الصفحة. ثم سافرتُ بين أمواج المتقارب، والمركبُ يقطع بي موجةً فموجةً حتى توقف بي عند الشاطئ. قلت له:
- "هذا شعر جميل يا ولدي".
تدخل المهدي:
- "هذا ما قلت له يا أستاذ".
سألت المهدي:
- "أتقول الشعر أنت أيضا؟".
رد:
- "لا ...أنا راوية شعر ولد عباس، فانا أحفظ منه الكثير".
قلت :
- "عجيب... هذا يعني أن لك يا ولد عباس شعرا غزيرا".
رد:
- "معلمي معجب بما أكتب، لكنه نصحني أن أحتك بالشعراء، وها أنا اليوم سعيد إذ وجدتك، فَبِمَ تنصحني".
من عادتي، حين أكون في جلسة مع شاعر شاب، أن أصرفه عني بأدب، إذا بدا لي أن الشعر بعيد عنه، ولكن حين أشم في ما يكتب أن جمرا بقلبه يملأ الورقة التي خط فيها ما خط، أهتم به اهتماما شديدا. وفي تجارب ولد عباس الأولى علاماتٌ على النبوغ . سالته:
- "ما الشعراء المغاربة الذين تقرأ لهم، ومعجب بشعرهم؟".
قال:
- "أنا معجب بشعر عبد القادر وساط، أحلم أن أكتب مثله. بل أتمنى أن أتجاوزه".
- قلت له: "الأمر بسيط مادمت موهوبا. لكن هذه الموهبة، وهي عنصر أساسي، لن تجعل منك شاعرًا في مستوى شاعرك المفضل".
-قال:
- "أتريد أن تطلب مني أن أدرس العروض؟ دلني على كتاب بسيط ".
قلت له:
- "لن أدلك على أي كتاب، صاحبك عبد القادر لم يدرس العروض، رغم أنه عالم فيه".
استغرب ولد عباس، ثم قلت له:
- "أتعرف سِرَّ نجاحه في قول الشعر؟".
قال:
- "لا....".
قلت:
- "لأنه لم يدرس العروض".
تدخل المهدي قائلا:
- "لكن يا أستاذ، أنت أنجزت أطروحة في هذا العلم، ونحن قراءَك، ربطنا هذا الإنجاز بمستواك الشعري".
ضحكتُ من كلامه، ووجدت نفسي أعترف لهم أني كنت أكره في الثانوي، وفي الجامعة هذه المادةَ التي جعلها علماءُ العروض مادة جامدة، ولم تستطع المناهجُ التعليمية المعاصرة تهذيبَها وتبسيطها. فَهُمْ أرادوها عِلْماً، ونسوا أنها فن قبل أن تكون علما. فتدخل ولد عباس قائلا:
- "كيف استطاع الأستاذ الشاعر عبد القادر أن يتعلم العروض؟ أتريد أن تقول إنه يكتب قصيدة النثر؟".
قلت:
- "هو مارس، ويمارس أغلب الأشكال الشعرية: القصيدة، والقصيدة الحرة، والأرجوزة، والقصيدة النثرية".
فقال:
- "إذن كيف تَعَلَّم الوزن ؟".
قلت:
- "كان يُطيل النظر في الشعْر العربي القديم... بل كان يحفظ أراجيز العرب؛ فتقوت لغته. وكان يحفظ المعلقات، والمذهبات، فاتسعت أخيلته، ومن كل هذا الحفظ استسلم له العروض. ولهذا أدعوك يا ولدي إلى أن تختار هذه السبيل". ثم أضفتُ:
- "تريد أن تكون أحسن من عبد القادر؟".
رد:
- "هذا حلم...".
فقلت:
- "هو لم يقتصر على الموروث الشعري العربي، بل عزز مداركَه، وخياله بالسفر إلى الشعر الفرنسي. قرأ منه ما يُظن أنه سيتخصص فيه، فعليك أن تهتم بهذا الشعر أيضا، ولكن انطلق أولا من الرجاز والصعاليك وغيرهم، وحين تشعر بأنك شبعتَ، فسافر إلى عصرنا الحاضر، وخذ من شعره ما يغذي ملكتك".
..............................................................................................................................................................................................................................................................................

كانت القاعة ملأى بمحبي الشعر الذين هيأتهم جمعيةُ أصدقاء المعتمد، منذ سنوات الستين إلى ربيع 1986. ألقيتُ قصيدتي "ليلتان من ليالي السندباد". هنأني شاعر البستان عبد الكريم الطبال. أن يمدحَ شعرَك عبدُ الكريم فهذا حلم. جلستُ بجانبه. صعد إلى المنصة شاب أسمر الوجه. قَدَّمَه الشاعرُ محمد الميموني على أنه طبيبٌ تخرج من كلية الطب حديثا، وأن المغربَ يُسعده أن يكون من بين شعرائه أطباء كإبراهيم ناجي في مصر. حدقتُ في ملامح الشاب وهو يلقي قصيدته إلقاء رائعا. أعدت التحديق فيه، فإذا هو ولد عباس !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى