رحيم حمد علي - أنا لست لك.. قصة قصيرة (1)

ولد في بيت مضرج بما يسيل من أنياب الفقر، موشوم بالعاهات، يفتقر لحنو الأخ وحنان الأهل، هو المولود الذكر الوحيد للعائلة مع ثلاث بنات، كان به شوق كبير ان يكون له اخ معه في هذه العائلة الأ ان مشيئة القدر كانت هكذا حرمته من مذاق طعم الأخوة، بدأ تفكيره ينصب على هذه الفكرة وهو في الخامسة من العمر، يصنع من الأعواد الخشبية هيأة صبي ويحدثه، قائلاً انك انت أخي، الآ انه لم يتلقَ الرد، ويتأمله بين الحين والحين ولكل الايام، كبر حبه لهُ، يجلس معه يجلب أكلاته السريعة ويأكل امامه، يطعمه في بعض الأحيان، يضعه في باحة البيت الريفي الصغير للعائلة ، والذي يفتقر لأبسط مستلزمات الحياة.. كل يوم تولد في اعماق نفسه مرارة غامضة تسيطر على كل تفاصيل حياته، ورغم الآم تلك المرارة، فأنه يحتفظ بها لنفسه دون ان يدلي بهمومه لوالدته التي هي أقرب الناس اليه، كلما كبر كبرت معه هذه الآلام، صار يجتاز مرارته وخيبته حد الطمأنينة، والسعادة المبهمة، فصار يواجهها بشي من التهكم المر. تلك أيامه الخوالي رغم قسوتها، إلا أنها حلوة المذاق وجميلة.. دخل عمره في السنة السادسة، وهو العمر المناسب لمرحلة التلمذة، قالت له امه ذات يوم:

– صار عمرك (ست سنين راح نخليك أبمدرسة القرية!!).

– رقص فرحاً، رغم حزنه وخوفه من المواجهة مع أطفال القرية، الذين نأى بنفسه عنهم اصلاً ولا يشاركهم في أيه لعبة، لأنه كان يستشعر الآم الحنان منطوي على ذاته، لا يواجه من هم في سنه، خوفاً من ان يطلقوا عليه قذائف الكلمات الخرساء المتمثلة بعيوبه وعاهته التي يتردد صداها في أنحاء جسده الغض حتى صارت طفولته خاوية على وجوده، لا يرافقه سوى ظله, خشيَّ المواجهة او اللعب,عروش العابه مملة لا يوجد معه في هذا العالم سوى الأخ المزعوم، فكان نبراس تفكيره بما فيها علاقته مع كل الأشياء التي حوله يتيه في هذا الشعور من خلال إحساسه بأرتياح ملؤه الغبطة والسرور لدرجة كبيرة من راحة البال المفقودة لديه.. قال لامه :

– ماما شوكت تخلوني بالمدرسة ؟

– من يصير دوام المدارس!.

عاد أدراجه الى اخيه محاوراً اياه:

– ((راح أصير بالمدرسة, وأخذك وياي, ونصير شطار)).

لم يتلقَ أي جواب, انغرس هذا الأمر في ذهنه كالسكين, لماذا لا يرد عليه أخيه؟.

دارت الايام بندول الزمن, دخل المدرسة الابتدائية، كان يجد صعوبة في المواجهة مع الاطفال، لكن المعلم(عبدالله) الذي يحبه التلاميذ كونه يطمئنهم بابتسامته العريضة العذبة عندما، هو الذي خلق عنده جو من الألفة والانسجام، فالتربية الحقيقية في التعليم والتعلم، هي ان يخلق المعلم جو من السعادة لتلاميذه الأطفال، بعيداً كل البعد عن التربية التي تكون مبنية على العنف والتعسف والتسلط، ومصادرة الحريات، وهذه اقصر الطرق لتحطيم الطفل وتدمير المجتمع، التربية في وطننا تعاني من إمراض مستعصية تقف حجر عثرة أمام تحقيق أهدافها، مما تجعل الجسم التربوي مثخن بالجراح مهما طال الزمن، ولم ينل العناية الكافية، يجب على الامة أن تخلق تربية تسعى الى تفجير طاقات الفرد، وبناء شخصية الانسان بشكل متكامل ومتوازن، بعكس الإذلال والقهر والاضطهاد، المنتج لشخصية ضعيفة مشوهة ومضطربة, كل الأمم والشعوب تجمع على إن الحل الامثل للمشاكل، والأزمات يتمثل في تطبيق مبادئ الحرية، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص، وهذه المبادئ يصعب تحقيقها في ظل نظم تربوية دكتاتورية، وقهرية.

كان يتحسس السعادة الغامضة بشعور من المرارة عندما يلتقي اخوه المزعوم والتي صار لها وبها هذا الاخ، ثم يشعر بشيء من الضمأ الواجب عليه ان يحتويه، وقد ردد مع نفسه ولمرات عديدة، ربما يشعر معه نفس الشعور، مشاركاً اياه في الحزن، وقد عاتبه لأكثر من مرة، تيقناً منه انه لابد من ذلك لكي يزرع في نفسه الثقة وحب الآخرين، حب أخواته الثلاثة، رغم انه لا يعرف ماهية عمله وتصرفه اتجاه العائلة، مع طموحه للم شمل العائلة، وان لا يترك مجالاً للخلافات واسلوب القهر السائد في المجتمعات الريفية، مع ادراكه الجيد انه لم يُخلق الا للزمن الآتي، وهذا ما اعتمده عقله الباطن واستدرجه فيما بعد والذي حدث فعلاً بمرور الزمن.

واصل دراسته، انتقل الى الدراسة الجامعية في العاصمة، زاده هذا الاغتراب عزلة كبيرة، تولد لديه شعور لحالة من الاستسلام وغياب القدرة على تقرير المصير، وصار يشعر كأنه ليس من هذا المجتمع، لما وجده من أوضاع ونظم وقيم وعقليات سائدة، مما يدل على انه مجتمع يعاني من الكبت الفكري الذي يعمل على تعطيل طاقات النمو، مما حدا به الى رفض هذه القيم ودفعه الى الانخراط بالدراسة والمواظبة على العمل الدؤؤب، فصار يحارب استخدام القوة من أجل القوة. ان الشعور بعدم الرضا من أوضاع المجتمع ونظمه وقيمه ولد عنده انعدام التكيف الاجتماعي، فصار بحاجة الى الدفء العاطفي، ليكون عنده نوع من الموائمة لما هو فيه وما سيكون عليه، اذن لابد للقدر ان يتدخل وينشله من هذا الوضع النفسي الذي لو استمر ربما سيفضي الى كارثة نفسية لا محال، رافقه شعور بالعجز الذي يتمثل في الصراع بين الرغبة في التغيير وصعوبة تحقيقه، اذ بين ذلك فجوة واسعة ولابد من التغلب عليها. اسعفه الحظ لأحد الأيام وهو جالس في حديقة الكلية ان تعرف على طالبة من القسم الذي يدرس فيه، جلسا معاً، تحاورا في مواضيع شتى، أسهبا في الحديث. استمرت اللقاءات العفوية بينهما في بداية الامر، ثم تطورت خلال سني الدراسة الى صداقة، ثم الى علاقة حب حقيقي صادق.

تكررت هذه اللقاءات، اما في العطلة فتكون زيارات قصيرة بين فترة واخرى، وصار الحب بينهما ايقاع، لكائنين متناغمين، فهما يضحكان للأشياء نفسها، يحزنان في اللحظة نفسها، يشتعلان وينطفئان معاً بعود كبريت واحد، لكن كل شيء يبلغ ذروته يزداد قرباً من زواله.. جلسا ذات يوم في احدى المقاهي السياحية في المدنية ، تفصل بينهما طاولة صغيرة تسع لشخصين مغطاة بغطاء بنفسجي وعليها مزهرية ذات ورود طبيعية تفوح منها رائحة العطر وقد اطل الربيع بحلته الجميلة التي يتوخى منها الناس الفرح.

قالت:

– تدري هذه المساء الربيعي جميل جداً لكن سرعان ما يزول وزواله اثم للجمال، وفيه حنين لزمنٍ انه لن يعود، احبك واموت فيك!!

قال:

– انتِ رفعتِ المحضور فجأة، كالقاص الذي استثار موضوع معين وانتقل الى تجربة جديدة في كتابته مما جعلها نمط جديد في ميادين اخرى للتفكير!!!.

– لكنني لم اكلمكِ عن تجربة الكتابة وما حدى بالكتاب الذين اتجهوا الى هذا النمط وهم لم يستعينوا بحيلة التشخيص المستخدمة في الروايات الاخلاقية القديمة!!

– أسف ، لكنك في هذه المفاجئة أدخلتيني بسلسلة من التداعيات المطلقة، لأن الحب ضرب من الالم، لا يدري المرء أين يهرب منه، ربما لسطوته، لكني سأحبك حب عظيم، لكوني محروم، والحب العظيم ينشأ من الحرمان، أشتاقك، أنا منذ التقيتك مجنون بك!!.

– تفكيرك منطقي !!

رحيم حمد علي – العمارة




- نقلا عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى